سورية… حين يقرر النظام إسقاط نفسه
حازم سليمان
من الأيام الأولى لموجة الاحتجاجات قرر النظام الدخول في حرب ضد نفسه. أكثر المعارضين تفاؤلا لم يكن يتوقع أن يقدم النظام نفسه للداخل والخارج على طبق من ذهب. بدا النظام مستعدا لإسقاط نفسه وهذا ما حدث. لن يخرج النظام من معركته رابحاً. سيفرض واقعا عسكرياً، لكنه لن يتخلص من اللعنة الأخلاقية التي ستطارد أركانه وشخصياته وإعلامه، خاصة مؤسسته الأمنية التي أدخلت البلاد في أزمة إنسانية واجتماعية لن يكون حلها سهلا. السؤال المهم اليوم إلى متى سيستطيع الجيش ترقيع مصائب الأمن وبشاعته؟ وإلى متى سيصمت الجيش عن اضطراره الدخول في حرب داخلية تورط فيها بسبب جهل الأجهزة الأمنية وفسادها ودمويتها؟
لن تستطيع سورية أن تكمل مشوارها مع أجهزة أمنية من هذا النوع. وبدا واضحاً في أكثر من موقع شهد ازمات دامية، أن سحب الأمن من المدن هو الحل لإنقاذ أرواح الناس ووقف الموت. في الجمعة الوحيدة التي انسحبت فيها القوى الأمنية من درعا لم يتم تسجيل إي قتيل. في الجمعة الماضية التي انسحب فيها الأمن من مدينة حماه خرجت أكبر مظاهرة ولم يمت شخص واحد. في كل جمعة يقتل الأمن الناس وبوحشية بشعة، تخلق دافعا ومبررا لحمل السلاح، تتفاقم المشكلة، ويكون المجال سانحاً لمخربين ومجرمين دخول اللعبة، فيضطر الجيش إلى الدخول. لم يعد خافيا على أحد أن عنصر الأمن صار عدواً لن يتردد الناس في قتله والتمثيل بجثته. الناس تحمل حقدا مضاعفاً على الأمن السوري. آلاف الشهادات والأفلام الموثقة والمخفية جيدا الآن ستظهر لاحقا لتقدم للعالم ما فعله الأمن بالناس. اللجان الشعبية والقانونية تعمل بشكل محترف هذه المرة، حيث قامت بجمع الرصاص الذي قتل به المئات من الأبرياء في الشوارع سعيا إلى إجراء تحقيق جنائي محلي ودولي يمكنه تعقب مصدر الرصاصة والجـــهات التي اشترتها وقتلت بها.
ثمة فضائح أخلاقية وإنسانية كبيرة بانتظار النظام. ماذا سيفعل النظام وقتها؟ هل سيدافع أيضا عن القتلة؟ هل سيدخل في حرب جديدة لإنقاذهم؟ أم يسلمهم للعدالة والقصاص منهم؟ الجرح السوري سيظل مفتوحا إلى أن يقرر النظام الاعتراف بأخطائه الأمنية ويتــــجه لتأسيس مؤسسة أمنية وطنية هدفها حماية سورية وليس النظام. ويبدو أن هذه المؤسسة فشلت في الامتحانين، فلا هي استطاعت حماية الوطن من الاختراق الــفادح حسب الرواية الرسمية، ولم تستطع أيضا حماية النظام لانها لطخته بالدم والثأر والكراهية ودقت المزيد من المسامير في نعشه.
الارضية الشعبية التي يقف عليها النظام لم تعد كافية لاستمراره، وهي الآن قائمة على أغنياء سورية وأصحاب المصالح الاقتصادية والاجتماعية، والأقليات الدينية التي تحمل في وجدانها الكثير من الانتقادات للنظام لكنها تتمسك فيه لأسباب خوفها من الذهاب إلى مجهول سياسي. هذا المجهول سببه أن المعارضه السياسية لم تطرح نفسها كبديل ولم تقدم حتى الساعة بدائل. هذا لن يطول كثيرا. وضوح المستقبل السياسي لسورية سيسحب البساط كاملا من أسفل النظام وهو كابوسه الحقيقي.
عقلاء النظام الذين فرحوا لعدم خروج مظاهرات في دمشق وحلب، واقتصار موجة الاحتجاجات على الأرياف لم تسعفهم عقولهم المبرمجة إدراك أن هذه الظاهرة تحمل في عمقها ومعانيها انهياراً لبنية أساسية من أركان النظام (الذي قام، تاريخياً، على أكتاف أبناء الريف، على المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية). الريف الذي كان سلة النظام التي يلجأ إليها في المحن صار عدوا وكارها له وطالبا للتغيير الجذري وليس مجرد إصلاحات شكلية. ‘الركون إلى تأييد تجار المدن يمثّل نوعاً من الأمل المخادع، فهؤلاء لا يستطيعون أن يمدوا النظام بأسباب البقاء حتى لو كسب المواجهة، وصمتهم ليس دليلاً على تأييد النظام، بل هو انتظار للحظة التي تميل فيها الكفة، لكي ينحازوا ويعلنوا موقفهم’.
لا تعترف الأنطمة القسرية بالزمن. ولذلك تسعى دائما لصناعة زمنها الوهمي الخاص الذي يتناسب مع مزاجها وضرورات وجودها. تاريخياً اتسمت هذه النوعية من الأنظمة بعدائية تجاه الزمن الحقيقي، وإصرار على إنجاز تاريخ مواز يتوافق مع رغبتها العبثية في الخلود. ولذلك يتأخر الزعماء الشموليون (التاريخيون) في إدراك أخطائهم، ويتسم تعاملهم مع رفض الناس لهم بأبعاد عاطفية لا تخلو من مأساوية انتحارية ونكران وعدم التصديق. الأنظمة القسرية التي تديرها ذات العقلية الأمنية والإعلامية والدفاعية تشاركت وعلى مر التاريخ، النهاية نفسها باستثناء بعض التفاصيل المحلية التي تميز شعباً عن آخر.
هذه العقلية التي تعيش خارج الزمن الحقيقي لا تستطيع قراءة الواقع وتظل قراراتها متأخرة وعاجزة عن خلق تغيير ملموس ومقنع في الواقع الذي تنكره ولا تعترف به. في وضع معقد ومتسارع مثل الأزمة السورية يصير اللجوء إلى حلول بيروقراطية سبباً إضافياً لتفاقم الأزمة. لا يحتمل الوضع السوري هذا الترقيع لبطانة مهترئة. لا مجال بعد اليوم للمزيد من التحريف لجوهر المشكلة التي مهما حاولنا التماس الأعذار للنظام، يظل ما حدث من صنيعة إسلوبه القمعي الوحشي، ورفضه منذ اللحظة الأولى اللجوء إلى لغة العقل متأثرا ربما بانتصاراته القمعية السابقة. ولأنه يعيش خارج الزمن الحقيقي لم يدرك أن لغة العنف لن تبقى هذه المرة من جهة واحدة، وأن الكراهية الشعبية للنظام الأمني ستتيح المجال واسعاً لعمليات انتقامية ثأرية، وستؤسس لأرضية تقبل رفع السلاح في مواجهة الدولة وقوى الأمنية التي لم تكن في يوم في الأيام مصدر أمان للناس، وليس في ذاكرة السوريين أي انطباعات إيجابية عنها.
النظام الذي يعيش خارج الزمن الحقيقي لا يمكنه الاعتراف بالخطأ. واستطاع عبر إعلامه الفاشي قيادة حملة تخوين لجميع الأصوات التي كانت تدعو إلى لغة العقل والحوار. جيشه الإلكتروني الذي تعقب وقمع بعنف معنوي غير مسبوق كل المدركين لحقيقة الأزمة السورية نجح في إسكات هذه الأصوات ليحل محلها لغة لا تقل عنفا عن لغة النظام. وها نحن نحصد نتائجه على أرض الواقع.
العقلية التي قرأت قيام المحتجين بحرق وتخريب مقار حكومية على أنها مجرد أعمال شغب، تجاهلت الرسالة الحقيقية لهذه العدائية والكراهية للدولة وما تمثله على أرض الواقع. العقلية المحدودة التي تقرأ طريقة القتل الوحشية والبشعة لأحد رجال الأمن على أنه مجرد عمل عنيف يمكن توظيفه إعلامياً لرفض سلمية الاحتجاجات، تجاهلت الكراهية الشعبية المتنامية لها وهذا أمر على درجة كبيرة من الخطورة. العقلية التي سارعت إلى تخوين الشعب وإلى اعتبار احتجاجات أهالي عدرا بأنها سلفية وتكفيرية، متجاهلة أن خروج الناس هناك كان طلبا لحقوق سرقتها الدولة التي استملكت أراضيهم بمبلغ 19 ليرة سورية للمتر، وبيع المتر لاحقاً بـ 19 ألف ليرة سورية. وعلى هذا المنوال يمكننا إيراد مئات الحكايا والمظالم الشعبية في المعضمية، ودوما، التي تمت مواجهتها بالتجاهل وبالعنف والتكبر والركون إلى أن هذا الشعب الخائف لن يكون بمقدوره فعل شيء.
العقلية التي لا تريد أن ترى الحقائق في صورتها العارية، يصعب عليها الاعتراف بأن هناك سورية جديدة تريد أن تولد رغم الكلفة الباهظة، ورغم المخاوف من طبيعة سورية الجديدة هذه. ولكن بعد كل هذه المدة من تجربة الدم والاعتقالات الواسعة، تبيّن أن فاتورة مواصلة هذا النهج عالية التكاليف محلياً وخارجياً، عدا عن أنها قلّلت من هيبة النظام وعمّقت الهوة بينه وبين الشارع، وزادت الإصرار الشعبي، ودفعت بمناطق جديدة إلى ساحة المواجهة، بأشكال جديدة بدأ بعضها يأخذ شكلا مسلحا وعنيفا في مواجهة عنف مسبق. ولا نريد هنا العودة إلى درعا التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات بسبب غباء أمني لا يغتفر.
بعد كل ذلك هذا الدم والقتل والتخوين لا يأتي التشكيك في جدية النظام السوري الدخول في حوار وطني حقيقي من فراغ. انعدام الثقة بين الشعب والنظام أمر تأصل وتكرس على مدى سنوات طويلة من التهميش والتغول والاستهتار بالعقول والشرفاء. الاستهتار بمخاوف الناس وسؤالها عما اذا كان هذا الحوار ليس مجرد مناورة سياسية أمر بشع ومرفوض لأنه يفاقم المشكلة. بناء الثقة المفقودة أصلاً لا يستعاد بالمزيد من التشكيك والتخوين المبطن. أليس مشروعا التساؤل لماذا رفض النظام الدعوة إلى الحوار منذ بداية الأزمة وقبل أن تتراكم كل هذه المآسي الإنسانية؟ لماذا قوبلت دعوة النظام إلى حوار وطني قبل عشر سنوات من قبل مثقفين ومعارضين سوريين بالتنكيل والاعتقال وتضييق سبل العيش. ما هو الأمر المقنع الآن في أن نفس النظام الذي لم يعترف يوماً بمفهوم الحوار يريده اليوم وبشفافية حقيقية.
لا شك أن العقلاء من أتباع النظام لم يزوروا في حياتهم قبوا أمنياً، ولم يختبروا حجم الكراهية التي يحملها هؤلاء الذين تداس كرامتهم ويتعرضون لأبشع أنواع التعذيب. ولذلك ليس لهم إدراك منسوب الكراهية في النفوس. السوريون المدعوون للحوار، وقفوا مطولا أمام طرفة صناديق الاقتراع بين النظام والمعارضة التي قالها الأمين القطري لحزب البعث قبل يوم واحد من الدعوة للحوار. السوريون المدعوون إلى الحوار اكتشفوا بعد قرار العفو العام أن السياسيين وأصحاب الرأي في سورية يحاكمون كمجرمين وبموجب قانون الجنايات. وأن النظام الذي كان ينفي وبشدة وجود معتقلين سياسيين في سجونه كان يضلل الناس، فلماذا على الناس المسارعة الآن إلى تصديقه والارتماء في أحضان الحوار.
تبدو اللحظة السورية معقدة وصعبة إلى درجة كبيرة. وتبدو المطالب التي ستوضع على طاولة الحوار من قبل اللجان التي قد تدخل الحوار مستحيلة التحقق. هل سيقبل النظام مطلباً ملحاً وجوهريا فورياً بالبدء الجاد في محاكمة الأجهزة الأمنية ليس فقط على خلفية قتل الناس، بل لفسادها والاختراق الأمني الذي تعيشه البلاد بسببهم؟، وطبعا هذا الكلام طبقا للرواية الرسمية.
هناك أسئلة مطروحة على الشكل التالي:
*إذا كانت دولة القانون واستقلالية القضاء ستضر بمصلحة النظام ومستقبله فهل سيقبل بها؟
*إذا كان الإعلام المستقل والحر سيتسبب بفضائح وبالجملة للنظام وأركانه وفساده. هل سيقبل به؟
* إذا كانت دولة الأحزاب الحرة ستفتت بنية حزب البعث الحاكم وبالتالي سلطته المطلقة وسيطرته على الدولة. هل سيقبل بذلك؟
النظام السوري في موقف لا يحسد عليه أبدا. بعد كل هذا الدم والاخطاء يمد يده إلى المعارضة الوطنية التي خونها واعتقلها واتهمها بالعمالة، ولا ادري إن كانت هذه المعارضة ستهرع إليه. لن تستمر سورية على هذه الحالة، ولن تستطيع قوى الأمن فـــــعل أي شيء لأنها صارت هدفا وعدواً. قد يكون لدى الجيش الذي يحظى بمحبة الناس شيء من الحل في فرض الأمان على أرض الواقع. لكنه وباحسن الأحوال سيكون حلا مؤقتا. سورية تحتاج إلى انقلاب كامل على بنيتها ومنظومتها.
إما أن يبادر النظام بفعل ذلك ويكون بشكل من الأشكال شريكا وهذا لن يكون ضامنا لاستمراره، او ستذهب سورية إلى حالة كاملة من الانهيار والفواجع وسيتحمل هو وزر ذلك أيضا تاريخياً.
‘ كاتب من سورية
القدس العربي