سورية: دراسة أمنيّة
حسّان القالش *
نجح نظام البعث في سورية، عبر حكمه المديد، في خلق رجل أمن يعشّش في رأس كل سوري. رجل الأمن هذا، في وجهيه الحقيقي والسيكيولوجي، لا يقتصر دوره على مصادرة الأفكار التي لا تتناسب مع النظام، ومنع الإنسان السوري من محاولة التفكير في السياسة والعمل فيها، ومراقبة حركة التجارة والتجّار، وزرع العيون والأزلام في مؤسسات الدولة الرسمية. بل إن شرّه يصل أيضاً إلى العشاق والمراهقين، فيتلصّص عليهم، ويعطي موافقته وبركته للراغب في «عقد النكاح» ودخول عالم الزوجيّة منهم. رجل الأمن هذا اختصر البلاد بالشخصية الأمنية لدولة البعث. وقد كان كافياً، بالنسبة الى سلطة البعث، أن يُزرع رجل الأمن السيكولوجي في عقول السوريين، جماعات وأفراداً. فقد مثّل طيلة العقود الحديديّة الماضية، السلاح النفسي الذي استخدمه النظام للتحكم بالمجتمع. فهيمنت ثقافة الخوف وتمأسَست، وسادت أخلاق الوشاية، وانسحقت المبادرات والطموحات، وذابت الأفكار والتطلّعات في عوالم السريّة والريبة والشكّ. هكذا صار الانسان لا يأمن جانب جاره أو زميله في العمل أو حتى أخيه. هكذا انحكم المجتمع بنسخة من الممارسات الستالينيّة، التي قضت على حيويّته، ومنعته من أن يصير مجتمعاً كبيراً يجمع السوريين على اختلاف ثقافاتهم.
هكذا امتنع السوري من أن يرتقي إلى مواطن في بلاده، مكتمل الحقوق والواجبات. ذاك أن المواطن الصالح، في مفهوم دولة البعث، هو من أكمل شروط الطاعة، وأسلم نفسه وروحه ومستقبله لرجل الأمن وللعقلية الأمنيّة للنظام. ويقاس صلاح هذا المواطن أو فساده عبر طرق أمنيّة متعدّدة، لعل أشهرها «الدراسة الأمنيّة». ذاك أن كلّ من توظّف في مؤسسات الدولة، أو كانت له فيها حاجة مهمّة، طُلبت في حقه دراسة أمنية، غالباً ما تتمّ بزيارة إلى منزل المواطن ذاته. بيد أن من ينشط في الشأن العام هو عرضة لأكثر من دراسة أمنيّة. حيث كلما جاء أحد على ذكر هذا الكاتب أو الصحافي أو الناشط، صدرت الأوامر بدراسته.
والحال أن من يتعرض لهذه الدراسة الأمنيّة في شكل مباشر، يعرف حقّ المعرفة أنها ليست كافية على الاطلاق لفهم شخصيته وتحديد توجهاته السياسية والثقافية، حيث إن أجهزة الأمن السورية تحوز من الأدوات ومن القوّة ما يغنيها عن هذا الاحتكاك المباشر بالشخص المطلوب دراسته. وما هذا الاحتكاك إلا نوع من الترهيب المباشر، وكأنه يقول: حذارِ، أنت قيد الدراسة والملاحظة، أنت محاصر، هنا، تحت أنظارنا، ولن تفلت منّا.
والواقع، أن ما يريده السوريون اليوم، ويعملون على إنجازه، هو خلق حياة جديدة، يكونون فيها أحراراً في خصوصياتهم، ويكون فيها معنى لتلك الخصوصيات. حياة جديدة لا يعامَلون فيها كأتباع أو أرقام وأوراق في ملفّات الأمن ودوائره… ما يريده السوريون، وينتفضون من أجله، هو أن يفلتوا من هذه الحياة الأمنية، من قذاراتها ومهاناتها، وأن يعدموا ويطردوا رجل الأمن الذي سكن طويلاً في رؤوسهم وأرواحهم.
* صحافي وكاتب سوري
الحياة