صفحات سورية

سورية… رؤية في المأزق والحلول/ احمد فيصل الخطاب

في شهر نيسان/ابريل من عام 1980 اي قبل ثلاثة وثلاثين عاما من الان، وفي عز احداث الثمانينات الدامية في سورية، كتب المفكر القومي صلاح الدين البيطار افتتاحية مدوية، في مجلته التي كان يصدرها من باريس: ‘الاحياء العربي’، وكانت الافتتاحية بعنوان: ‘سورية مريضة، مريضة، وتعيش محنة ومأساة’، تطرق فيها الى لقاء مثير في دمشق عام 77، بينه وبين حافظ الاسد رئيس النظام السوري انذاك، لقاء تم خلاله حوار ونقاش مطول بين الرجلين، حول الاوضاع السورية الداخلية والاوضاع العربية، والتحديات التي فرضها انفراد مصر السادات يومها بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، والانعكاسات السلبية لذلك الحدث على مجمل الصراع العربي الاسرائيلي، وسبل الرد على هذه التحديات. وخرج صلاح البيطار بعد نقاش طويل مع حافظ الاسد بخلاصة فحواها ان سورية، وفي ظل عقلية القائمين على الامور فيها سائرة، لا ريب الى ازمة نظام عميقة، وفقا لما كتب هو حرفيا في افتتاحيته تلك.

اليوم وبعد مرور كل هذا الزمن برزت ابعاد هذه الازمة اكثر فاكثر ثم جاءت الثورة، وما رافقها من نهج فاشي للنظام، وممارسات سلبية هنا وهناك، لتتحول الازمة الى مأزق، مأزق شامل يلف، ليس فقط النظام، وانما السلطة والمعارضة والشعب وربما يهدد الكيان السوري برمته. واذا كانت سورية اليوم مريضة، وهي كذلك، وقد تفاقم مرضها وازداد وتشعب مع الايام ، فان من البديهي القول ان نقطة البداية الصحيحة للتصدي للمرض السوري واي مرض عموما، تبقى في التشخيص الدقيق له، ثم البحث عن الادوية والحلول المناسبة، وصولا الى الشفاء التام منه.

المأزق السوري

للمرض السوري، للمأزق السوري اليوم، في رأينا ابعاد رئيسية اربعة:

1- طبيعة النظام: النظام السوري فريد في نوعه بين كل الانظمة العربية، فقد اتى منذ بدايات 1970 في ظل توافق دولي عليه، لا يزال مستمرا ربما حتى اليوم بشكل او بآخر، والاسباب عديدة، واتخذ مع مرور الزمن طابعا مزدوجا: فهو من جهة نظام فردي، عائلي، عسكري، امني (بوليسي) ونظام تمييز فئوي بين المواطنين، من جهة ثانية.

ومع تفجر الاحداث قبل نحو ثلاثة اعوام يتصرف، ليس كحكومة مسؤولة عن جميع مواطنيها، وانما كطرف، كعصابة مثلها مثل الكثير من العصابات التي نمت كالفطر على ارض سورية، على هامش الاحداث المأساوية، يقتل الالاف لمجرد انهم ذو رأي سياسي مخالف، من دون اي حق قانوني، يقتل الالاف من المدنيين المسالمين بلا رحمة، يهجر الملايين من المواطنين، من دون ادنى حس وطني او انساني.

وجذر المشكلة هي في فلسفة حكمه، فهذا الحكم الفردي يفرض ديمومته بالقوة، وفق ما يسمى بقانون الحق الالهي الذي كان قاعدة شرعية الحكم لملوك اوروبا في العصور الوسطى، والحكم العسكري يطبق بكلتا يديه على خناق المجتمع المدني. المفكرون والعلماء والمهندسون والاطباء هجروا البلد، منذ سنوات بعشرات الالوف هربا من المجتمع العسكري الى مجتمع والى وطن اخر يحترم العلم ويكرم العلماء، فالحرية والوطنية لا تفترقان وهكذا بات من المتعذر التعامل مع هذا ‘النظام ‘ على انه حكومة، او نظام، او حتى ادارة رشيدة.

2- طبيعة المعارضة التقليدية: من المعروف لكل المتتبعين للشأن السوري، ان عملية تجريف سياسي واسعة جرت في سورية على يد نظامها، على امتداد اربعة عقود ونيف. لم تكن هنالك اية حياة سياسية حقيقية: لا احزاب معارضة، لا صحافة حرة، لا قضاء مستقل، في بلد محكوم بقانون الطوارئ منذ عام 1963 وحتى اليوم، بلد كان يُقضى فيه بكل بساطة، على حياة الانسان، حتى من دون استئذان من قانون الطوارئ هذا. وفي ظل هذه الاوضاع، كانت المعارضة التقليدية، من الاحزاب القديمة والمستجدة، مضطرة الى ان تمارس نشاطها بسرية، وتتحرك في الخفاء، وانتهى الامر، باغلبية مسؤوليها وقادتها الى السجن او المرض، واحيانا الى الموت في السجن او بفعل الهرم، واخيرا الى التشرد والهجرة، والموت في المنافي.

وهكذا، وفي ظل هذا القمع الاستثنائي الطويل الذي تعرضت له كوادرها وقياداتها من قبل السلطة، انتهى الامر بالمعارضة السورية التقليدية الى الضعف والتشتت.

3 – البعد الثالث في المأزق السوري، وربما الاهم، يتعلق بقيادات المعارضة الجديدة والحراك الشعبي. مع اندلاع الاحداث الاخيرة في سورية، ظهر على السطح بعض القيادات الشابة في الحراك الثوري، كما تقدم الى واجهة العمل السياسي المعارض عدد لا بأس به من الكوادر والمثقفين وقياديي الاحزاب القديمة والمستجدة. وكان اللافت للانتباه ضعف الاداء الاعلامي والسياسي للكثيرين منهم (وليس للكل) وهذا ربما ليس ذنبهم، فاكثرهم يفتقر الى تجربة سياسية طويلة، كي يتحول الى رجل سياسي، ناهيك عن امكانية تحوله الى رجل دولة، وربما لم يكن ذلك التحرك اختيارا منهم، فقد وجد العديد منهم نفسه وقد قذفت به الاحداث المأساوية التي تجري في بلده الى الواجهة، من دون استعداد او اعداد مسبق، ومن هنا كانت البلبلة وكان الارتباك، اضف الى ذلك تسلل بعض الطامعين (وليس الطامحين) والمتسلقين والانتهازيين وبعض تجار الحروب الى صفوف هذه المعارضة، وذلك على خلفية بعض الآفات المعروفة مثل: الفردية والنرجسية الزائدة، وعدم سيادة روحية التحرك ضمن فريق عمل مؤسساتي ومتكامل، مما ادى كما نرى اليوم، الى سيادة حالة من الشرذمة والفوضى في الساحات الثلاث الرئيسية: الساحة السياسية والعسكرية والاغاثية.

4 – البعد الاخير للمأزق السوري يتمثل بالتشابكات العربية والاقليمية والدولية المذهلة في المسألة السورية، ولعبة الامم كما كتب ذات يوم الامريكي مايلز كوبلد، تبدو اليوم جلية بكل تعقيداتها ومأساويتها في سورية اكثر من اي مكان اخر. كل التناقضات الاقليمية والدولية، انصبت دفعة واحدة في الساحة السورية، والشعب السوري يدفع ثمنها، ولا زال حتى اليوم عذابا ومعاناة ودماء . امام هذه التراجيديا المتعددة الابعاد، يبرز بداهة السؤال الكبير ما العمل، وكيف الطريق الى الخلاص؟

وفي معرض الجواب، نبادر الى القول باننا لا نعتقد انه يوجد احد في هذا العالم يملك وصفة سحرية لحل كل هذه المشاكل السورية دفعة واحدة، لكن بالاستشعار والمقاربة المتدرجة يمكن التأكيد على الامور الاساسية التالية:

1- المهمة الاولى التي تقع على عاتق القوى الوطنية السورية اليوم، بعد كل هذه المآسي وسياسة الجري في كل الاتجاهات تتلخص في اجراء وقفة تأمل ومراجعة جذرية لكل السياسات والمواقف والممارسات السابقة، بهدف انجاز عملية فرز وطني وتخصصي وقيمي في الساحات السياسية والعسكرية والاغاثية.

2- كلمة السر في النصر هي الوحدة، الوحدة الوطنية، ومن هنا ضرورة السعي لتوحيد كل قوى الحراك الثوري (اقترح ان يطلق عليها من الان فصاعدا حركة المقاومة المدنية) عبر خلق تعبير سياسي موحد، قدر الامكان عنها، كي تتمكن من الاستمرار في السير على طريق مقاومة النظام المستبد، بكل الصيغ والاشكال الممكنة: الثقافية، الفكرية، التظاهرية، الاقتصادية، الاعلامية والسياسية لتوحيد كل القوى المدنية (او على الاقل صيغة تنسيق وثيق بينها) من طرف، وتوحيد وتأطير كل قوى المقاومة العسكرية من طرف آخر، كل ذلك بناء على استراتيجية واضحة ورؤية شاملة، تحت شعار ‘الاتحاد ضد الاستبداد’ استبداد النظام اولا، فهو الادهى والامر، وثانيا ضد كل مظاهر الاستبداد الثانوية في الساحة السورية من اي طرف كان.

3- ولعل الوسيلة الانسب لتحقيق هذا الهدف قيام جبهة وطنية ديمقراطية، تضم كل القوى الحية في المجتمع السوري الساعية الى التغيير الوطني الديمقراطي، فبخلاف الحزب او الحركة او التيار، يبقى هامش الحرية اوسع بالنسبة لكل طرف من اطراف الجبهة، مع التزام الجميع بالخطوط الرئيسية لميثاقها، وحين تقول ايضا وطنية، بمعنى انها بعيدة عن كل المتبلورات المذهبية او الطبقية او الايديولوجية او الجهوية او الفئوية. وحين نقول ايضا وايضا ديمقراطية، فهذا يعني ان تكون ممارسات اعضائها وقياداتها منسجمة مع هذا المبدأ وهدفها الرئيسي قيام دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية، دولة مدنية تكفل لمواطنيها الحريات الرئيسية الثلاث، والحقوق الاساسية الثلاثة، والمساواة بينهم من دون اي تمييز، مع الابتعاد عن كل الخلافات المفتعلة والتناقضات الثانوية، عبر العزوف عن اثارة الثنائيات المزيفة التي يحاول البعض في الساحة السورية، اغراق هذه الساحه بها منذ الان، لقصور في الوعي، او لاهداف مشبوهة، ثنائيات مثل: علمانية /دينية، مركزية/ لامركزية، سلمية/ مسلحة، داخل/ خارج، وهلم جرا. ربما تكون كل هذه القضايا تستأهل النقاش، ولكن ليس مكانها اليوم فبعد ان يتخلص الشعب من حالة العبودية، وينتقل الى حالة الحرية، ستكون هذه القضايا وغيرها الكثير، محل نقاش وطني واسع ومفتوح، كي يقول الشعب فيها كلمته الفصل، اذ لا يحق لاحد ان يفرض منذ الان، تصوره الخاص على شعب باكمله. هذه ابجديات السياسة، والف باء الديمقراطية.

4 – ولا بد لانجاز هذه المهام الوطنية، من مجموعة ريادية (وليست قيادية)، تتقدم الصفوف، تدل على الطريق الصحيح، تتوفر فيها شروط الكفاءة + العمل بتفانٍ واخلاص+ المناقبية العالية، ومستعدة، في خضم هذه المعركة الرئيسية الحامية الوطيس بين الشعب والنظام، وغمرة المعارك الاخرى الثانوية، مستعدة ان تدفع حتى حياتها ثمنا لتحقيق هذا الانجاز العظيم. هذه المجموعة الريادية، يمكن ان تكون من داخل اطر المعارضة الحالية ومن خارجها في آن.

والهدف المركزي هو استعادة القرار الوطني السوري المستقل، بعد ان ضاع في متاهات التدخلات الاقليمية والدولية، استعادته بالاعتماد على القوى الذاتية للشعب السوري في الوطن والمهجر، القوى الاقتصادية والمادية، الفكرية، السياسية والعسكرية والبشرية، وهي اذا ما تم توحيدها قوى هائلة، وعلى الصعيد السياسي التوجه للرأي العام الداخلي والعربي والدولي، بخطاب اعلامي واحد موحد خلاصته ان ما يجري في سورية هو ثورة شعب مظلوم، ضد نظام دكتاتوري فاشي ظالم، شعب يطالب بابسط حقوق الانسان وحرياته.

وهنا لا بد من التأكيد على التمسك بخطوط القوة الرئيسية المتمثلة في الوفاء لمبادئ الثورة العظيمة التي اطلقها الشعب السوري الجريح، والمتمثلة بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، على قاعدة الوحدة الوطنية التي هي عدتنا وذخيرتنا للخروج من النفق المظلم.

وعلى قاعدة وحدة سورية ارضا وشعبا ودولة، وان نسلم سورية للاجيال القادمة، كما استلمناها نحن من جيل الاباء المؤسسين، جيل الاستقلال، بعد ان نكون قد انتقلنا بها من العبودية الى الحرية، ومن الذل الى الكرامة، ومن الظلم الى العدالة. انها امانة تاريخية ثقيلة، يجب على الوطنيين السوريين جميعهم حملها والايفاء بها في النهايه مهما عز الثمن… وغلت التضحيات.

‘ معارض سياسي سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى