سورية: ركود سياسي وتصعيد ميداني/ عادل يازجي
الحياة السياسية السورية يتعكّر مزاجها في الحرب الدائرة على أرضها. صحيح أن المسألة داخلية لكنها تتعولم في حرب المصادرات الإقليمية الدولية التي لا تؤثّر فيها السياسة المحلية، بينما تؤثّر هي حتى في ما هو سياسي محلّي محض. مع ذلك فقراءة الحراك السياسي المحلّي السوري ضرورية ولو بقدر ضئيل من التحييد المصطنع لخدمة رؤية قابلة للتغيُّر على ضوء الظهور المتدرّج للخريطة الجغرافية والديموغرافية المحدثة؟
الأحزاب السياسية كثيرة ومتعددة، متقاربة بطروحاتها وبغياب الرؤية الاقتصادية عن برامجها، تكرّس جُلّ اهتمامها للتقرّب من صنّاع القرار، وتستنفر قواعدها الشعبية المتواضعة استعداداً لاستحقاق سياسي ضبابي الملامح مجهول الموعد، ما يربك غير المنضوي منها في الجبهة الموالية للنظام، وحتى هذه لا يبدو عليها الاطمئنان مع أنها تتقن التقرّب من صنّاع القرار السياسي والأمني محلّياً، ولا تقفز إلى موسكو أو قاعدة حميميم، لأن التجاوز سلاح ذو حدّين واستخدامه بتوجيه أو بلا توجيه لا تُضمَن نتائجه لأيّ منهم، جبهوياً كان أم غير جبهوي، وهم قلقون من احتمال تأثيره في حجم حضورهم السياسي، الذي يقاس بحجم إسهامهم الميداني، وقراءة الدب الروسي لهذا الإسهام!
في المقابل استطاعت مجموعة من الأحزاب الجديدة أن تقدم نفسها للعمل السياسي بنهج المعارض المرغوب فيه، وتعمل عليه دمشق وموسكو، هذه المجموعة الجديدة تنافسها في التقرُّب من القرار الروسي أحزاب «هيئة التنسيق الوطنية» المعارضة في الداخل، باعتبارها أكثر دهاءً في السياسة، وأكثر حضوراً في محافل المجتمع الدولي لما عانته قديماً وحديثاً ولاتزال تعانيه من معارضتها النظام، وإن كانت حالياً تُعتبر المنطقة الوسطى بين الموالاة والمعارضة في نظر المجتمع الدولي والحلف الثلاثي الروسي التركي الإيراني، وكلاهما غير مقتنع ضمنياً بالهيئة العليا للمفاوضات ممثلاً وحيداً للمعارضة خلافاً لما يُعلن. ومنذ عامٍ ونيّف بدأ بالظهور الممنهج ما يطلق عليه مصطلح/ المجتمع المدني/ لتعويم التعدُّد الاجتماعي والثقافي، وهو غير منظّم سياسياً، وتساهم في اختياره هذه الشريحة الخبيرة في استثمار نشاطها لدى الهيئات الدولية اللاسياسية، لكن نجاح مبادراتها لا بد أن يُستثمر سياسياً في المآل، وبالتالي ستزدحم المسالك إلى مراكز القرار طبعاً إذا انخفض التصعيد في المواقع الساخنة حالياً!
أما الثرثرة السياسية فلم تعد حكراً على المقاهي، بل تسربت بهدوء إلى التجمعات الأدبية والفنية والاقتصادية، التي دبّت فيها الحياة من جديد، تمارس أنشطتها التخصصية وعينها على الجو السياسي، تكرّس حضورها، وتقدّم نفسها كضرورة في مرحلة إعادة الروح إلى مـــفاصل الحــياة الاجتماعية، ولا تغيب عن صفوتها المزالق المؤججة لحرب المصادرات الســياسية التي تكاد تُجهز على اتفاقيـــات خفـــض التصعيد، بما يتخللها من حماقات ميدانية في نزاعات المصالح بين القوى الكبرى.
من جهة أخرى معظم أغرار السياسة المستجدّين ما زالوا هائمين على وجوههم، لم يقتدوا بخصوصية السلف (الصالح) المخضرم في فن الدخول إلى المرابع الخضراء، ولم يحسنوا قراءة الفوضى (الخلاّقة) براغماتياً فأضاعوا البوصلة، ومعظمهم يعيد تأهيل نفسه، لعل وعسى.
في هذه الأجواء الضبابية، وأمام الغليان الميداني في الغوطة الشرقية، وعفرين ونزوح المدنيين المأسوي، والتأهب القلق في منطقة التنف الحدودية، لم تختفِ كلّياً نغمة تشكيل اللجنة الدستورية في المطبخ الأممي بمساعدة (بريئة) من الحلف الثلاثي الروسي الإيراني التركي، لعلّها تحوّل الأنظار عن التصعيد الميداني، وتمهّد لقمّتها في الشهر المقبل، التي تترصّدها العيون الفرنسية والألمانية والبريطانية بقلق كبير ليس على الشعب السوري، بل على مصالحها في مرحلة إعمار سورية، ولا تعيرها واشنطن كبير اهتمام طالما ثبّتت أقدامها العسكرية في شمال سورية الغني بثرواته النفطية والغازية، وفي منطقة التنف الإستراتيجية بحدودها بين الدول الثلاث سورية والعراق والأردن؟
إعادة طرح لجنة سوتشي الدستورية في ظلِّ تفاقم الحماقات فوق التراب السوري، واتّساع الفجوات بين المصالح الإقليمية المتصادمة، وبين طرفي القطبية الثنائية، لا يبشّر بتقدمٍ يُذكر في المساعي الأممية لحل الأزمة، ولا يساعد في احترام خطوط التماس في الخريطة الديموغرافية الموضوعة بغياب القرار الوطني، وبالتالي لا تبدو في الأفق القريب حتى بوادر الرتوش السياسي (الانتقالي) كأضعف الإيمان لذرّ الرماد في العيون.
أمّا الحضور العربي في الأزمة فيتداعى ويتهمّش أمام طغيان الشيطنة الإقليمية المتمردة على المجتمع الدولي، تحت أنظار القطبية الثنائية التي يضغط طرفاها باستعراض عضلاتهما لإبرام صفقة وجودهما في سورية، تاركَيْن للاتحاد الأوروبي أن يقلق ويستنكر ويحتج، لعلها تسترضيه لاحقاً في خريطة المصالح الاقتصادية، أمّا شبكات قواعدها العسكرية فما جاءت إلا (لخدمة السوريين) بتوظيف القدرة السابقة التأثير للقوة في إدارة النزاعات، وليس في فضِّها أو الحد من فلتان الأمور بين أطيافها.
أخطر ما رسّخته السنوات السبع العجاف الفائتات هي صِيَغ المرارة في نفوس كل أطياف المجتمع السوري وأركان الأزمة في الداخل والخارج، مما آلت إليه الأمور، ومن طروحات واشنطن وموسكو الاستغبائية حول وحدة التراب السوري، وهما تثبِّتان خرائط وجودهما وتمركزهما، باطمئنان أميركي، وقلق روسي وصل إلى حدّ استعراض عضلاته العسكرية لاحترام تلك الخرائط التي وضعاها معاً، وتتمرّد عليها واشنطن غير آبهة بغضب بوتين.
في هذه الأجواء القلقة المشحونة تُطرح المصالحات، فهل تُصلح هذه المصالحاتُ السورية أو الروسية ما أفسده الضخّ التعصُّبي الممنهج في الطبائع الإنسانية في سورية؟
أمّا القواعد العسكرية فوق التراب السوري فلا خوف منها أبداً طالما مهمتها دحر الإرهاب والحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً بهوية ديموغرافية جديدة.
لكن هذه الأجواء لا تغني عن القلق على مستقبل سورية بعدما نزح كثيرون من أهلها في الداخل أو تهجروا إلى الخارج، وخالطت أفكار معظمهم أحقاد ناتجة عن معاناة لا يمكن إنهاؤها في زمن محدود، ما يجعل نسبة كبيرة منهم معرضة لاستغلال سياسي أو أمني، في الداخل أو في الخارج.
ويبدو أن التشكّلات السياسية الداخلية، المعارضة باعتدال، تحتاج إلى خيال واسع ودراية بحركية المصالح الإقليمية والدولية لا تخطئها الأحداث المتوالية، لكي تستطيع طرح برنامج سياسي يؤهلها لمرحلة ما بعد نهاية الحروب المأسوية، وهي نهاية لا يمكن تلمس معالمها بسهولة، ولا معرفة مصالح أقوياء الإقليم وأقوياء العالم فيها، حتى يكون لأي تشكيل محلي شيء من الاستقلال والخطاب الداخلي، وأن لا يندرج في الإطارات التي تستعير خطابها من خارج الحدود، على ما نرى ونسمع في بلاد خرجت من حروبها الداخلية إلى ارتهان معظم تشكلاتها السياسية إلى القوى التي كانت تغذي تلك الحروب.
* كاتب سوري.
الحياة