سورية: شتاء اليأس بين النظام والمعارضة/ خالد الشامي
تحت عنوان (الفرز الفضائي وشتاء دمشق) وقبل نحو خمسة اعوام من اندلاع الثورة السورية، كتبت في ‘القدس العربي’ متهما الرئيس بشار الاسد شخصيا بالتسبب في معاناة شعبه، والتفلسف لتمرير سياساته القمعية. ولم يكن انتقاد النظام السوري في ذلك االوقت مرحبا به في كثير من وسائل الاعلام العربية، بل ان بعض من يملأون الاثير ضجيجا حاليا بمهاجمة نظام بشار كانوا في ذلك الوقت أما يسبحون بحمده او يلتزمون الصمت لاسباب تخصهم.
الا انني لم اتخيل حينئذ ان تصل المعاناة الى تحويل نحو ثلث الشعب السوري الى إما مهجرين او مشردين داخل بلادهم، او لاجئين خارجها، واكثر من ثلاثة ارباع هؤلاء هم من النساء والاطفال، ناهيك عن مقتل اكثر من مئة الف سوري غالبيتهم من المدنيين، الى جانب اعداد لا يمكن حصرها من الانتهاكات الحقوقية، كالاغتصاب وغيره. وبعد هذه السنوات مازلت ارى ان النظام هو المسؤول الاول عن معاناة السوريين، ولكنه لم يعد المسؤول الوحيد، اذ ان بعض من يزعمون انهم يعملون لانهاء معاناته هم في الحقيقة من يسعون لتمديدها، حتى تتعاظم الارباح الخيالية التي يجنونها من وراء المتاجرة بها.
تذكرت ذلك اذ تتكاثر البوادر على اتجاه ما يسمى بـ’الائتلاف الوطني السوري’ على حضور مؤتمر (جنيف 2) في شهر كانون الثاني/ يناير المقبل، ارضاء للراعي الامريكي و(شركائه)، رغم عدم تحقق اي من الشروط التي اعلنها في السابق، واهمها الا يكون لبشار الاسد اي دور في المرحلة الانتقالية.
ومهما اختلفت الاراء والتحليلات بشأن هذا المؤتمر، فثمة اتفاق على انه قد يمثل نقطة تحول في صراع اصبح اكثر تعقيدا ومأساوية ودموية وخطورة، من وصف (الحرب الاهلية) للوضع في سورية، وهو الذي اعتمده الصليب الاحمر الدولي بعد نحو عام ونصف العام من بدء الثورة في اذار/مارس 2011. ويستدعي هذا استحضار نقاط رئيسية ربما تساعد في قراءة هذه الحالة السورية، ويمكن تلخيصها في ما يلي:
اولا: ان ما يسمى بالائتلاف الوطني السوري يستمد اجندته من المصادر نفسها التي يدين لها بوجوده، الا وهي القوى الدولية والاقليمية التي تمثل لاعبا رئيسيا في الصراع، وليس من امتداد او حضور سياسي في الداخل السوري، وبالتالي فانه يمثل ساحة لتعاضد او تنافس تلك القوى لتشكيل قراراته وسياسته لتعبر عن مصالح تلك القوى وليس مصلحة اي من مكونات الحالة السورية من ثورة وشعب وكيان الدولة او ما تبقى منه. وغني عن البيان ان المساعدات المالية هي السلاح الذي تستخدمه تلك القوى لتكريس نفوذها او اضعاف نفوذ الاخرين. وبديهي، والحال هكذا، ان يسأل ملايين المهجرين والمشردين السوريين الذين يعانون البرد والجوع على ابواب شتاء قارس اخر، اين ذهبت مليارات الدولارات التي قدمت للمعارضة السورية في الخارج؟ وهل صحيح ان ما حصل عليه بعضهم يكفي لشراء ابراج سكنية شاهقة في بعض دول الخليج، حسب مزاعم معارضين اخرين وليس المحسوبين على النظام؟
وما مدى اهمية ما يقوله ذلك الائتلاف اصلا في ظل انعدام تأثيره على الارض داخل سورية، وتعاظم قوة التنظيمات المتشددة وعلى رأسها (النصرة) وغيرها، التي تتجه في ما يبدو الى اعلان ما تسميه بـ(الدولة الاسلامية) على طريقة شاء من شاء وابى من ابى، ما سيمثل اكبر كيان لتنظيم القاعدة الارهابي في قلب العالم العربي.
ثانيا: ان مؤتمر جنيف 2 من شأنه كأي حالة تفاوضية ان يعكس الوضع على الارض داخل سورية، والاهم موازين القوى الاقليمية، حيث يبدو ان اطراف النزاع، واولها النظام، قد اعتمدت وكلاء اقليميين لها، سواء للتفاوض او حتى على صعيد المعارك العسكرية. وهكذا فان الغائب الحاضر عن مؤتمر من المفترض ان يقرر مصير سورية، هو الشعب السوري نفسه. وحيث ان الوضع العسكري اخذ في الميل في مصلحة النظام بعد التقدم في حلب ودمشق وغيرهما، فان احدا من المعارضة لا يمكن ان يكون جادا وهو يقول انه ذاهب الى جنيف ليرتب مع بشار كيف سيترك الحكم؟
اما على المستوى الاقليمي فان (جنيف 2) سيكون مناسبة ليجني محور ايران- روسيا حزب الله ثمار الانتصار الاستراتيجي المهم الذي حققته طهران عبر توصلها الى صفقة نووية مع الغرب، تعترف بها للمرة الاولى كقوة عظمى في الاقليم، ما يرتب لها حقوقا ومصالح مشروعة في صياغة اعادة ترتيب اوراق الصراع السوري.
ثالثا: ان مجرد جلوس المعارضة السورية مع وفد النظام في حد ذاته يوفر غطاء اخلاقيا، او هكذا يراد له، لاعادة تأهيل مشروعية النظام اقليميا ودوليا، وهي العملية التي بدأت باعتباره شريكا سياسيا في نزع الاسلحة الكيماوية، بدلا من محاسبته على ارتكابه جريمة ضد الانسانية، بفضل عجز الولايات المتحدة وشركائها، والقوة المتصاعدة لروسيا.
وسيكون هذا نهاية رسمية لثورة شعبية حقيقية ونبيلة، تداعت عليها عوامل من الداخل والخارج، لتنتهي الى صراع مسلح ثم الى حروب اهلية فساحة لجذب تنظيمات الارهاب الاقليمي والدولي، واخيرا تقدمة الى تفتيت سورية الى كانتونات ودويلات، وهو ما بدأت بوادره بالفعل باعلان تشكيل الادارة المدنية للاكراد.
رابعا ان مؤتمر (جنيف 2) عنوان لليأس وليس للامل، وتعبير مأزق جميع المشاركين فيه والداعين اليه، والرافضين له من دون استثناء، اذ ان النظام، رغم ما سيحققه من مكسب سياسي، ما كان ليذهب اليه لو انه قادر على الحسم العسكري. كما ان الولايات المتحدة تحتاج الى غطاء سياسي لفشلها الاستراتيجي والاخلاقي المريع في سورية.
اما حلفاء المعارضة في تركيا وبعض دول الخليج، فان ذهابهم او مجرد عدم ممانعتهم لانعقاد المؤتمر، يمثل اعادة لفتح القنوات ولو غير المباشرة مع النظام، تعبيرا عن حالة من خيبة الامل وربما القلق مما آلت اليه الحالة السورية، خاصة امكانية ان تصبح سورية مصدرا للارهاب التكفيري في الاقليم، وهو ارهاب لا يعترف بالحدود، وليس معروفا بحفظ الجميل لمن ساعدوه او فتحوا له الحدود او تغاضوا عن مروره الى سورية.
ولعل المعارضة تدرك انها خسرت ما كان تبقى من مصداقية وهي تتحدث عن اشتراط انسحاب (الميلشيات الايرانية) من سورية للمشاركة في المؤتمر، والاهم ان حلفاءها لم يعودوا يبذلون اي جهد لمساعدتها على استعادة ولو بعض من تلك المصداقية.
خامسا: ان هذا النظام يرى في الحكم الذي ورثه كما يورث العقار (حقا إلهيا)، وهو لن يتنازل عنه طوعا، وان ادى الصراع الى فناء الشعب عن بكرة ابيه، وليس مستغربا من هكذا نظام ان يرتكب كل هذه المجازر، خاصة في ظل المعطيات الاقليمية الجديدة.
الا ان تنظيمات الارهاب والتكفير والكراهية والطائفية لا يمكن ان تكون هي من سيأتي بالحرية لسورية. كما لن يأتي بها اولئك الذين تحولوا الى ادوات سياسية واعلامية للقوى الاقليمية والدولية يستعملونهم حيث شاؤوا، بدلا من ان يدفعوها هم الى تدخل اممي انساني شرعي لانقاذ الشعب السوري.
اما ملايين السوريين الذين سيتابعون تحت قصف المدافع والطائرات والتشرد والجوع والبرد، اولئك المنعمين وهم يتاجرون بمعاناتهم، فسيبقون عنوانا تاريخيا لانهيار ‘مفهوم الامة’ وتآكل مصطلحات كـ’الشرعية الدولية’ ليفتح الباب امام عصر جديد من المجهول سيفرض واقعه ومفرداته على الجميع.
‘ كاتب مصري من اسرة ‘القدس العربي’
القدس العربي