صفحات الناس

سورية: عندما يتحوّل الإعلام إلى شريك في الجريمة/ ثائر الزعزوع

 

 

اسطنبول

من يواكب تغطية الإعلام السوري للضربات الأميركية على معاقل “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، لن يتفاجأ. فمنذ انطلاق هذه الضربات اعتمد الإعلام العنوان العريض للتغطية وهو “التنسيق الأميركي مع النظام السوري قبل بدء الضربات”. ورغم تكذيب واشنطن لأي تنسيق، إلا أن الإعلام استمرّ بالترويج لروايته عن “السيادة الوطنية”.

لكن بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف على انطلاق الثورة في سورية، تبدو مراجعة أداء الإعلام الرسمي، أو الخاص الموالي للنظام، ضرورية لفهم حجم المأزق الذي يغرق فيه.

التجاهل ثم التلفيق

“ماذا سنفعل إن حدث في سورية مثلما حدث في تونس ومصر؟”… هذا السؤال كان يتردد في مكاتب كبار المسؤولين عن الإعلام في سورية بداية عام 2011. وخلال اجتماع طارئ ضمّهم، قرر هؤلاء جميعاً أنّ أفضل ما يمكن أن يفعلوه هو التجاهل التام، كأن شيئاً لا يحدث. وقد استثنى مدير “الإخبارية السورية” نفسه من هذا الإجماع. وكانت القناة قد أطلقت بثها التجريبي حاملةً شعارات وعبارات تبشّر بإعلام سوري جديد.

لكنّ الأخبار التي كانت ترد من درعا الجنوبيّة، كانت تُنبئ بأنّ ما يخشاه الإعلام السوري قد يحدث، وأنّ المسألة ليست إلا مسألة وقت. هكذا، بدأت الدعوات للتظاهر تنتشر عبر مواقع التواصل الإجتماعي، للمطالبة برفع قانون الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. وفي محاولة منها لسلوك “طريقٍ مختلف”، جابت كاميرا “الإخباريّة السوريّة” بعض شوارع دمشق، لتؤكّد أنّ الإعتصام ليس سوى “نزعة فيسبوكيّة”.

حينها، ظهرت الشوارع يوم الخامس من فبراير/شباط عام 2011 خاليةً من المارة تقريباً. في الصور، ظهر بعض رجال الأمن يقفون قرب مبنى مجلس الشعب، أي مكان الاعتصام المفترض. وبعد أيام، شهدت منطقة الحريقة، وسط دمشق، أوّل تجمّع بشري ردّد هتافات غاضبةً احتجاجاً على ضرب الشرطة لأحد التجار والإساءة إليه.

وبدأت كرة الثلج تكبر… اعتبر الإعلام السوري حينها أنّ التجاهل سيزيد الأمور تعقيداً، فكان لا بُدّ من خطّة بديلة. هكذا، تمّ توجيه الأحداث عكس ما كانت تسير عليه. فعندما هتف المواطنون “الشعب السوري ما بينذل”، هرع وزير الداخليّة لمحاولة السيطرة على الأمور، فسرد الإعلام القصة على هواه: عوقب الشرطي عقوبة شديدة، والوزير أعطى توجيهاته، المواطن الذي تعرّض للضرب نفى الأمر على المحطّات.

تسارعت الأحداث، وبات من الضروري البحث عن حلول إسعافية ناجعة لما تتعرض له “مؤسسة الحكم” التي كانوا جزءاً من تركيبتها الأساسية. فكان لا بد من شيطنة الحراك الشعبي الذي بدأ يلقى تعاطفاً، بعد انتشار حكاية “أطفال درعا” الشهيرة.

“شيطنة” السوريين هي الحلّ

يوم الحادي والعشرين من مارس/آذار عام 2011، انطلق اعتصام سلمي أمام الجامع العمري في درعا. طالب المعتصمون وجلهم من الشباب بمحاسبة المسؤولين عن تعذيب أطفال درعا، وتقديم قاتلي شابين من المدينة للعدالة. وفي اليوم التالي، فوجئ متابعو “الفضائية السورية” وتلفزيون “الدنيا” بتقرير من داخل الجامع العمري بعد اقتحامه، يُصوّر أسلحةً ونقوداً.

هنا، كان تصاعد الأمور متوقعاً… وتحوّلت درعا إلى منطقة عسكرية مغلقة. فبدأت مقاطع الفيديو تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتتلقّفها الفضائيّات العربية والعالميّة. ولم تمر أيام حتى بدأت مقاطع الفيديو تصل من مختلف المحافظات والمناطق، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. وكان صوت الإعلام السوري واحداً: “المتظاهرون هم مجموعة من المواطنين، اندسّ بينهم أفراد عصابات فقتلوا، وأطلقوا النار على قوات الجيش والشرطة”… القتلى جميعهم كانوا من المواطنين، وشيّعوا في دوما، وفي البوكمال، وفي القامشلي وفي جسر الشغور.

وبدأ الإعلام السوري خلال هذه الفترة بالسير على طريق شيطنة السوريين جميعاً، لا الثورة فقط. فعرضت “الفضائية السورية” اعترافات للشيخ أحمد الصياصنة، السبعيني الكفيف، وقد بدت عليه آثار التعذيب. وارتفعت وتيرة التحريض الطائفي إذ تم تصوير قتلى الجيش والشرطة على أنهم ينتمون لطائفة واحدة فقط، فيما قتلاهم هم من الطائفة الأخرى.

وكانت قناة “الدنيا” التي يمتلكها عدد من رجال الأعمال المرتبطين ارتباطاً كلياً بمؤسسة الحكم، سبّاقة في إطلاق تسمية “الدولة الإسلامية” حتى قبل أن يظهر أي توجُّه مسلّح في الثورة. فعرضت القناة ما قالت إنه تظاهرة لـ”المخربين” في حمص، وقد تضمنت تلك المظاهرة الغرائبيّة رايةً سوداء تحمل عبارة “لا إله إلا الله”، والعلم الإسرائيلي جنباً إلى جنب. حتى ذلك الوقت كانت شعارات الثورة واللافتات التي يرفعها المتظاهرون تدعو للحرية والعدالة. وتوالت قنوات إعلام النظام على إخراج “التمثيليات” رديئة الصنع، التي تُصوّر “إسلاميين” و”سلفيين” يحاولون ضرب اللحمة الوطنية. وقد وقع وزير خارجية النظام السوري، وليد المعلم، في فخّ واحدة من تلك الفبركات، حين أطل في مؤتمر صحافي وعرض ما قال إنها صور لتنظيم أصولي متشدد مسلح، تبين بعدها أن هذه الصور التي عرضها لم تحدث في سورية أصلاً وإنما في لبنان.

لكن لا شيء تغيّر. واستمرت التمثيليّات بالتزامن مع إغلاق كافة مكاتب القنوات التلفزيونية العربية والعالمية، وحتى مكاتب الصحف. وحدها استطاعت كاميرات الهواتف المحمولة أن تنقل صورة مختلفة. ومع كل مقطع فيديو كانت تعرضه إحدى القنوات العربية أو العالمية كانت قنوات النظام تعمل جاهدة للتكذيب، تحت شعار “كشف الحقيقة”.

الفرقة الرابعة… إعلامياً

يروي أحد الإعلاميين المُنشقين عن الإعلام الحكومي، تفاصيل لقاء عقده وزير الإعلام، عمران الزعبي، مع المسؤولين عن الإعلام في سورية. شدد الزعبي على أن الإعلام السوري يجب أن يكون جزءاً من الفرقة الرابعة، في إشارة إلى الفرقة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري، والتي تُعتبر فرقة المهمات القذرة وقد قامت بأكثر الأعمال فظاعة خلال سنوات الثورة.

وكان الإعلام عند حسن ظنّ الوزير الزعبي، فعرض مطوّلات من الاعترافات والشهادات للكثير من المواطنين البسطاء الذين خضعوا لشتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي والتهديد والإبتزاز. فسردوا حكايات أقرب إلى الخيال عن تخطيطهم للمؤامرة وتلقيهم أموالاً من شخصيات سياسية عربية وأجنبية، وكانت هذه “الاعترافات” تُوسع الهوة شيئاً فشيئاً بين السوريين أنفسهم. ولذلك، تم الاستعانة بمجموعة من الإعلاميين اللبنانيين ليكونوا عوناً لمنظومة النظام في عملهم لكشف “المؤامرة الكونية”. ووصل الحال إلى عرض “اعترافات” لفتيات سوريات يُقررن فيها بأنهنّ مارسن “جهاد النكاح”، وهي “الظاهرة” التي تم تسويقها عبر قناة “الميادين”، قبل أن تصبح مادة دسمة لإعلاميي النظام يرددونها في كل مناسبة.

مسار الإعلام النظامي السوري منذ بداية الثورة، من تجاهل الأحداث إلى تكذيبها ثم الحديث عن “العمالة لإسرائيل” واعتبار المعارضين كلّهم أنصاراً لتنظيم “داعش”… ويبقى أن ننتظر، فالآتي أعظم لا محالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى