سورية: قصة موت معلن ولا من يهتم/ أكرم البني
… والقصة، حين يغدو قتل السوريين وخراب بلادهم مجرد عناوين عابرة في نشرات الأخبار، وتصبح صور استباحة غوطة دمشق بالقنابل المدمرة ومشاهد الضحايا وهم يخرجون مشوهين من تحت الأنقاض، أو يستغيثون مذعورين لإنقاذ من التهمتهم الحمم من أهلهم وأطفالهم، صوراً ومشاهد روتينية يتابعها الملايين من دون اكتراث، ربما وهم يحتسون قهوة الصباح، كأن ما يجري لا علاقة له ببشر مثلهم، لهم حق الحياة ويشاركونهم العيش على سطح هذا الكوكب.
والقصة أيضاً، أن تستباح بلادنا ويتقاسمها الطامعون كأنها قطعة حلوى مستهترين، أيما استهتار، بوحدة أرضنا ومستقبل أجيالنا، ومتلاعبين بسادية بغيضة، بدمائنا وآلامنا، بتعدديتنا وإثنياتنا وطوائفنا، في حين يعجز مجلس الأمن عن فرض هدنة لمدة شهر واحد فقط لمساعدة المنكوبين على التقاط أنفاسهم، وتفشل الوساطات الدولية في إخراج «عشرات الجرحى» من ذوي الحالات الحرجة والخطيرة من مناطق الحصار! والأنكى أن يشكك زعماء سياسيون في صدقية الأرقام التي توردها منظمات حقوقية عن أعداد القتلى الذين سقطوا من المدنيين والأطفال، إن بسبب غارات النظام وحلفائه الهمجية والكثيفة على أرياف دمشق وإدلب، أو نتيجة الاجتياح التركي لمنطقة عفرين، بينما يتهرب زعماء آخرون من مسؤوليتهم الأخلاقية والإنسانية تجاه قصف عشوائي ومدمر أصبح خبز المحاصرين اليومي، عبر تكرار لازمتهم المريعة، بأن الحل السياسي هو السبيل الوحيد لوقف هذه المأساة الإنسانية، كذا!
ويزيد الطين بلة تقليل وزير خارجية أميركا من قيمة ما يثار عن استخدام غاز الكلور ضد المقاتلين الأكراد، ربما كي يبيح لأنقرة استخدام ما دون الكيماوي من وسائل فتك وتنكيل لاجتياح عفرين، كما أباحها ولا يزال للنظام السوري!.
فكيف الحال مع إعلان المنظمات الأممية أن ما يحصل في سورية هو من أكبر الأزمات الإنسانية التي واجهتها خلال تاريخها، وخلوصها إلى الاعتراف بأنها تقف عاجزة اليوم عن مساعدة أكثر من عشرة ملايين سوري تعرضوا لأضرار مختلفة… مئات الآلاف من الجرحى والمشوهين، ومثلهم من المفقودين والمعتقلين، وملايين باتوا اليوم بلا مأوى وفي حالة قهر وفقر شديدين وقد فقدوا كل ما يملكون أو يدخرون، منهم من نزحوا داخلياً إلى أماكن أقل عنفاً ويعانون الأمرين، ومنهم من لجأوا إلى بلدان الجوار ليعيشوا في معازل لا تليق بالبشر، وفي مخيمات لا تقيهم برد الشتاء ولا الانتهاكات الجسيمة وظواهر الإذلال التي يتعرضون لها، ناهيكم عن إخضاع حياتهم لمعونات أممية تتقلص تدريجاً وتعجز عن تلبية أبسط احتياجاتهم، وأسوأ النتائج فقدان أكثر من ثلاثة ملايين طفل سوري فرص التعليم والرعاية الصحية، ما سهل استغلالهم جسدياً، ليصبح وجعاً مألوفاً انتشار الزواج العرفي للقاصرات في مخيمات اللجوء، أو ازدياد عدد العاملات والخادمات السوريات اللواتي يغتصبن أو يجبرن على ممارسة الدعارة، أو انتشار الصبية والفتيات الصغيرات في شوارع مدن اللجوء لبيع مواد استهلاكية بسيطة كي يعيلوا أنفسهم وأسرهم!.
وكيف الحال مع انسحاق غالبية السوريين تحت وطأة الحاجة وتدهور شروط المعيشة وغياب فرص العمل، عاجزين عن تأمين الحد الأدنى من مستلزمات الحياة، ربطاً بانهيار القدرة الشرائية وتفشي غلاء فاحش وتصدع القطاعات الإنتاجية والخدمية، وربطاً بتشوهات وضغائن باتت تخنق حياتهم اليومية بسبب ما خلفه العنف المفرط والاستفزازات الطائفية من شروخ وانقسامات، ومن شحن للعصبيات وروح التنابذ والنزعات التحقيرية الإقصائية.
يصح القول إن التاريخ الحديث لم يشهد بؤرة صراع دموي أهملت من قبل العالم أجمع وعرفت هذا الاستهتار المخزي بالأرواح التي تزهق وباتت مرتعاً لصراعات النفوذ وتقاسم الحصص، كالبؤرة السورية، والأنكى حين ترعى هذه المأساة ثورة الاتصالات ولغة الصورة التي تصل إلى كل بيت وتكشف للبشرية ما يعجز اللسان عن كشفه وقوله، ليتكرر السؤال، لماذا تركت سورية تحديداً لهذا المصير المرعب؟! ولماذا كانت هي من دون سواها، محط حقد أو إهمال الجميع، ومسرحاً للفرجة على دوامة الفتك اليومي ونهر الدماء الجاري وأنات الضحايا والمعذبين؟!.
والجواب لا يقتصر فقط على المسؤولية الأساس لسلطة استبداد أنانية ازدرت السياسة ورفضت تقديم التنازلات لشعب طالب بأبسط حقوقه، ودأبت على تحويل الحراك السلمي إلى صراع مسلح مشحوناً بالغرائز والاستفزازات الطائفية، وتصرفت كأنها في معركة وجود أو لا وجود، وبأن ليس من رادع يردعها في استجرار ما هب ودب من قوى قمع خارجية وتوظيف ما تمتلكه من أدوات القهر والتنكيل، كي تحافظ على سطوتها وامتيازاتها، وإنما يتعلق أيضاً بمعارضة ضعيفة ومشتتة، فشلت في نيل ثقة الناس وقيادة ثورتهم، حكمت مواقفها الأوهام بانتصار سريع، ورهانات على دعم خارجي حاسم، ونزاعات على المناصب وتقاسم جلد الدب قبل اصطياده، ويتعلق تالياً باستحضار مريب لجماعات الجهاد الإسلاموي، ودعمها بمال سياسي لا تخفى شروطه وإملاءاته، وتشجيعها على تفريخ جيوب إسلاموية هنا وإمارات لداعش والقاعدة هناك، متوسلة ممارسات إرهابية وتصفوية تنضح بتعصب مذهبي بغيض يناقض ثقافتنا الدينية الجمعية واعتدالها، والأنكى ابتلاء السوريين بسياسات دولية وعربية سلبية، لم تكترث بحيواتهم وآلامهم ومعاناتهم، واكتفت من باب رفع العتب بتكرار «قلقها» على ما يحصل، وفي أحسن الحالات «بإدانات لاذعة» للعنف السلطوي ربما لامتصاص الضغط الأخلاقي الناجم عن صور مروعة للخراب والضحايا لا يحتملها عقل ولا ضمير.
هي قصة سنوات من القتل والاعتقال والتدمير، من دون أن يبالي أحد بنا أو يهتم، هي قصة رجاء وأمل ممن يئنون تحت وطأة الوجع والخراب، بأن يتوقف هذا العنف وتلك الاستبـــاحة وذاك الاستهــتار المخزي بأرواحنا، هي مناشدة أخلاقية للضمائر يحدوها سؤال مرير، أليس هناك ما يمكن فعله أو قوله، كي لا تؤرخ قصتنا كهزيمة للحياة والعقل والإنسان، كهزيمة لوطن حلم أبناؤه بالخلاص من القهر والتمييز والعيش كغيرهم، بحرية وكرامة!.
الحياة