صفحات العالم

سورية: مرحلة وقت ضائع استعداداً لمواجهة نوعية


عبد الوهاب بدرخان

دخول حلب الانتفاضة كان النبأ السيء الذي توقعه النظام السوري وسعى الى تأخيره ما أمكنه ذلك. كان راهن على مهادنتها له معتقداً أنها موالية له ومباركة للعنف الدموي الذي يعامل به المواطنين المناوئين له، والمدينة صبرت على مضض وانتظرت عودته الى رشده فإذا به يراكم الأخطاء وإذا بها وهي العاصمة الاقتصادية تتوقف مصانعها تباعاً ويبدأ مستثمروها هجرة لا يعرفون متى تنتهي، وواصلت الصبر لكن الضائقة السياسية مضافة الى الضائقة المعيشية وانسداد الآفاق في الأزمة ما لبثت أن فجّرت غضبها المختزن. حلب تغيّر المعادلة بالنسبة الى النظام. لن يعود قادراً على ادّعاء أن أكثر من نصف الشعب معه.

لكن هذا النظام لا يعدم «الأصدقاء» المنقذين. فجأة انضمّ تنظيم «القاعدة» الى روسيا وإيران لإبقاء المعادلة لمصلحته، فالدخول المبرمج لـ «القاعدة» المزعومة عوّض النظام خسارته كبرى مدن سورية. وإذ تقدّمت حلب لتضخّ روحاً وزخماً في الانتفاضة، بدا النظام منتعشاً بالدفعة «المفاجئة» التي أمنها له التنظيم الإرهابي فقوّى كلمته في مجلس الأمن وأصبح شاكياً وهو المشكو منه، بل يصوّر نفسه كضحية وهو الذي سفك دماء آلاف الضحايا ولا يزال يقول أن الأزمة في بدايتها. قبل فترة، تحديداً قبل وصول المراقبين الدوليين، أبلغت دمشق حلفاءها من اللبنانيين أنها تمكنت من احتواء الانتفاضة، وما عليها الآن سوى معاودة «الهجوم» خارجياً لإنقاذ النظام في الداخل. كان قد حان في حساباتها خروج ورقة الإرهاب من جحرها، بدليل حصول عمليات انتحارية تستهدف حتى مقار الاستخبارات المرهوبة، ما يتيح لها القول إن النظام والمجتمع الدولي صارا في خندق واحد. ومن لم يصدّق فليسترجع تصريحات ليون بانيتا وبان كي مون وآخرين. جميعهم يشيرون الى دخول «القاعدة» المشهد، ولو مع بعض التحفظ، أما كبير المراقبين روبرت مود فاعتبره، اذا ثبت، معطىً جديداً يثير مشاكل خطيرة. بالنسبة الى روسيا، الباحثة عن أي ذرائع لتغطية انحيازها الكامل للنظام، هذا تطور مناسب جداً، والحجة هنا أنه ما دام هناك «ارهاب» فلا مجال للضغط على السلطة لوقف النار بل تجب مساعدتها لمواجهته.

أين خطة كوفي انان من كل ذلك؟ لا المبعوث الدولي – العربي ولا مساعدوه مستعدّون للاعتراف بواقع أن النظام أكمل عملية احتواء مهمتهم، اذ وضع مراقبيها أمام الاحتمال المبرهن بأنهم سيكونون أهدافاً سهلة لـ «القاعدة»، أي أنهم أصبحوا تحت التهديد ولا حماية لهم إلا من لدنه. انهى النظام أحلام انان بوقف النار، اذاً، ومعها أحلام اتاحة التظاهر السلمي في رعاية المراقبين، وحتى مساعي الإغاثة للمناطق المنكوبة وللمهجّرين في الداخل ناهيك عن اطلاق المعتقلين. لم يكن أحد يتصوّر العجائب التي يمكن «القاعدة» أن تجترحها حيث فشلت دول كبرى.

الأعجب أن الزعيم الحالي لهذا التنظيم كان أبدى من مخبئه تعاطفاً مع الانتفاضة، فإذا كان ينفذ التفجيرات «دعماً للشعب السوري» فلا شك في أنه أخطأ الهدف، وإذا كان يستهدف مؤسسات للنظام «لإضعافه» فإنه جعله المستفيد المباشر من تلك التفجيرات. ورغم كل شيء لا يوجد مرجع دولي واحد يستطيع تأكيد أن «الطرف الثالث» المشار اليه هو فعلاً تنظيم «القاعدة» أو أحد فروعه. فهذا مجرد افتراض لكنه فتح أمام النظام نافذة يطلّ بها على العالم ليذكّره بأنه لم يصدّق روايته الأولى عن «العصابات المسلحة» التي تتظاهر ضدّه، وها قد أصبحت «تنظيماً ارهابياً» كان بشّر بظهوره قبل حصول أي تفجير.

لم يعد أحد في المجتمع الدولي يتوقع شيئاً من مهمة انان أو خطته لكن الجميع يتمسّك بهما ويبحث عن سيناريو اعلان فشلهما حال ارتسام أي بديل مجدٍ. ورغم أن خطر «القاعدة» أُخذ في الاعتبار إلا أن المعنيين في مختلف العواصم لا يرون أنه مبرر كافٍ لتغيير منطق وقف العنف توخياً لظروف معقولة تسمح بطرح عملية سياسية. غير أن النظام هو الذي بات يطرح منطقاً آخر قوامه أن الذهاب الى حوار سياسي هو ما يتيح وقف النار. أي أنه يصعّد العنف بوجود المراقبين، ويتذرع بإرهاب «القاعدة»، ليزيّن فكرة تجاوز وقف النار للقفز الى الحوار تحت وطأة العنف واستمرار الاعتقالات والحملات العسكرية على مناطق الانتفاضة.

هذه الفكرة المكشوفة لا ترمي فقط الى جلب الجميع الى «اصلاحات» النظام و «دستوره» و «انتخاباته»، بل تنمّ عن شعور بالارتياح والاستقواء عبّر عنه رئيس النظام في حديثه المعلَّب مع قناة «روسيا اليوم»، اذ أنه أرفق تهديداته المعتادة بإشارة ضمنية الى أن النظام هو الذي يدير اللعبة طالما أن المراقبين تحت رحمته، وبالتالي فإنه مستعد لـ «انقاذ» مهمة انان ما دامت موضع اجماع أصدقائه وخصومه على السواء.

لم يطرح انان علناً خيار القفز الى الحوار علّه يساهم في وقف العنف، إلا أن طريقة عمله اللصيقة بالنظام أوحت بذلك. ثم أن كبير المراقبين أفصح بما لا يقبل اللبس بأن «حجم العنف لن ينخفض ما لم تُعطَ فرصة حقيقية للحوار من جانب الأطراف الداخلية والخارجية كافة». هذا هو موقف النظام، وقد نطق به الجنرال مود غداة تعرض عدد من مراقبيه لأول حادث جدي في خان شيخون وقد أغدق بالشكر للسلطات على مساعدتها لاستردادهم. لم يعد «الحوار» هنا تطوراً طبيعياً لانخفاض العنف أو لتوقفه، بل أصبح شرطاً ابتزازياً يفرضه النظام لقاء التزامه وقف العنف، ولن يوقفه. لكن الأهم، بل الأخطر، أنه يشترط حواراً يعرف مسبقاً أنه لن يحصل، إلا أنه يعوّل على انان كي يقنع الأطراف الدولية باستحالة تحقيق هدفها الرئيس (وقف العنف) طالما أن المعارضة المعبّرة عن الانتفاضة لم تتوحّد لتكون محاوراً اساسياً. كما أن النظام يترك أمام انان خيار رعاية حوار مع المعارضين المزيّفين الذين يرتضون الجلوس معه الى طاولة غارقة في الدماء والجرائم، لكن حواراً كهذا لن يحصل أيضاً.

يحاول النظام قطف ثمار احتوائه ومصادرته (مع روسيا والصين وإيران، وبمساهمة من «القاعدة») مهمة انان، ولعله نجح حتى الآن في تبديد الآمال التي بنيت عليها لإنصاف الشعب، بل أحكم السيطرة على مسارها ومجرياتها ويريد دفعها نهائياً في اتجاه أن يحاصرها في خطته لتلعب لعبته. لكنه يعرف جيدأ أنه لم يتمكن من كسر المعادلة الداخلية التي فرضتها الانتفاضة لذا يلجأ الى توتير الوضع في لبنان لعل اللعب في الخارج يفيده. ثم أن المجتمع الدولي وضعه من خلال «خطة انان» في اختبار أخير ولن يتردد في سحبها في أي وقت. هذه مرحلة وقت ضائع يعمل النظام على استثمارها لمصلحته، وتنتهزها المعارضة الحقيقية على الأرض لترتيب قدراتها استعداداً لمواجهة مختلفة نوعياً. كان النظام بادر منذ بدايات الأزمة الى وضع سورية على طريق الحرب الأهلية معتبراً أن الأمر يتعلق أولاً وأخيراً بـ «مؤامرة» خارجية، وبالتالي بموازين القوى العسكرية التي تمكّنه من ارتكاب مجازر كبرى، أما أن تحقق له النصر فهذه قصة اخرى.

* كاتب وصحافي لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى