سورية: معارضة ضد معارضة
هوشنك بروكا
النظام السوريّ، واحدٌ من أذكى أنظمة المنطقة في صناعة الإستغباء وبث الفرقة والشقاق، لضرب الشعب بالشعب، والطائفة بالطائفة، والمعارضة بالمعارضة.
بعد مرور حوالي ثمانية أشهرٍ على الثورة السورية، أثبت النظام السوري، للداخل والخارج، بأنه لا يزال يملك أوراقاً كثيرة لضرب الداخل السوري بداخله، هذا فضلاً عن امتلاكه لأوراق أكثر، في مواجهة الخارج والقادم من تدخلاته، عبر أكثر من بوابةٍ خلفيةٍ له، سواء في “لبنان حزب الله”، أو “فلسطين حماس”، أو “عراق إيران”، أو “كردستان العمال الكردستاني”.
النظام السوري، والحال، لا يزال يملك “أوراقاً قوية”، للعب بها على أكثر من داخلٍ وخارج. هذا النظام الذي اشتغل منذ الأول من قيامه، قبل أكثر من أربعين عاماً، على شق صفوف المعارضين السوريين، ومحو المعارضة بالمعارضة، لا يزال يراهن إذن على هذه الورقة، التي طالما لعب بها، وخرج من اللعب بأكثر من ربحٍ.
تاريخ “تكاثر” الأحزاب(العربية والكردية، وربما السريانية والآشورية بدرجة أقل) في سوريا، من أقصاها إلى أقصاها، شاهدٌ حيّ على نجاح هذا النظام، في صناعة الفرقة وبثها في روح المعارضة، لتفكيكها ومن ثم تفتيتها شذر مذر، حتى انتهى الحزب الواحد إلى أحزاب، والأمين العام الواحد إلى أمناء، والرمز المعارض الواحد إلى رموز متعارضة.
منذ الأول من الثورة السورية، التي انطلقت من درعا وحورانها، وضع النظام خطةً استخباراتية، تم تسريبها لاحقاً، للإشتغال على شق صفوف المعارضة، وضربها ببعضها البعض ما أمكن، لئلا تلتقي على سوريا معارضة واحدة ضده. وهذا ما حصل بالفعل، فتحوّلت المعارضة السورية إلى معارضات، والوطنية إلى وطنيات، والسياسة إلى سياسات، وسوريا الواحدة إلى سوريات.
حوالي ثمانية أشهر من قتل المدن، وحصار البشر والحجر وضربها بدبابات جيش النظام “العربي السوري” وقناصته، لم تكفِ أن تجمع هذه المعارضات السورية(التي أراد لها النظام أن تلغي نفسها بنفسها، فكانت) تحت سقفٍ واحد، أو في مؤتمرٍ واحد، للإتفاق على طريقٍ ممكنٍ واحد، يؤدي إلى سوريا قادمة واحدة.
لا بل العكس هو الذي حصل، ولا يزال، حتى صار الإختلاف خلافاً، لا بل خلافات، باتت تطفو على سطح مؤتمراتٍ وتصريحاتٍ وإقصاءاتٍ هنا، وأخرى مضادة هناك.
لعلّ ما جرى أمام مقّر الجامعة العربية، قبل أيام، يشير بوضوحٍ ما عاد قابلاً لأيّ لبسٍ، بأنّ هذه المعارضات الممثلة بمعارضتين رئيسيتين(معارضة الداخل الممثلة بهيئة التنسيق الوطنية للتغيير الوطني الديمقراطي، ومعارضة الخارج ممثلةً بالمجلس الوطني السوري)، ليست مختلفة مع بعضها البعض، في الرؤى والأفكار والسياسة، وإنما هي في خلافٍ، لا بل خلافات حقيقية، بين بعضها البعض، على أكثر مستوى ومسار، رغم محاولة بعض العقلاء من الطرفين، هدم الهوة بين الجهتين، بكلام عاطفي هنا وآخر هناك.
ما جرى من مواجهات غير متكافئة بالطبع، بين وفد معارضة الداخل السورية وأنصارٍ من معارضة الخارج، كما تبيّن من الشعارات والصوّر، تحت عيون الإعلام، لم تكن مصادفة، أو خروجاً على “سنة الإختلاف” بين الجهتين، وإنما كانت نتيجةً طبيعية ومنطقية، لتفاقم الإختلافات بين الجبهتين، وتطورها إلى خلافات، لم يعد بإمكان الطرفين إخفاءها، أو تأجيلها، كما أراد لها البعض أن تبقى في إطار “الإختلاف الودّي” بينهما.
مجريات “موقعة البيض”، التي لم تخلو من التشابك بالأيدي والضرب والركل والشتم والقذف بأقذع الألفاظ، أمام مقرّ الجامعة العربية بالقاهرة، بين ناشطين سوريين كانوا يحملون إسم “المجلس الوطني السوري”، وبين وفد هيئة التنسيق الوطنية برئاسة حسن عبد العظيم، كشفت مرةّ أخرى بأنّ المعارضة السورية التي تنتقل من شقاقٍ إلى آخر، هي لا تزال معارضة منشقة على نفسها، متخلفة عما يجري في سوريا، على أكثر من مستوى، ليس في موقفها من النظام فحسب،، وإنما أيضاً على مستوى تعاطيها مع بعضها البعض، ومع ما حولها من العالمين أيضاً.
الخطير في ما حدث، هو السلوك غير المدني، الذي عومل به أربعة معارضين معروفين، من أعضاء وفد هيئة التنسيق من معارضة الداخل، الذين مُنعوا من الإجتماع مع الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي، من قبل بعض الشطاء السوريين المحسوبين على المجلس الوطني السوري، المعتصمين منذ أسابيع في حضرة الجامعة العربية، للتعبير عن رفضهم لمبادرتها ومهلها التي يستغلها النظام السوري، لكسب المزيد من الوقت، في ضرب المدنيين العزّل، ومحاصرة الثورة، وحصاد المزيد من القتلى.
هذا السلوك الذي جاء من جمهورٍ معارض، لا يمكن الطعن في وطنيته، حمل معه أكثر من إشارة خطرٍ، ليس على حاضر المعارضات السورية، بل ربما على مستقبلها أيضاً، وذلك بغض النظر عن الإختلاف أو الإتفاق مع هذه المعارضة أو تلك.
فأقل ما يمكن أن يُقال في هذا السلوك، هو أنه سلوك دون حضاري، غير مسؤول، وخارج على سلمية ومدنية وديمقراطية وكرامة وحرية الثورة السورية، فضلاً عن كونه سلوك نرجسي، فيه من الديكتاتورية والإقصاء والإلغاء، ربما لا يقلّ نرجسيةً عن نرجسية ديكتاتورية الأسد وآله، التي تحكم سوريا بالحديد والنار، منذ أكثر من أربعة عقودٍ، من الزمان الصعب.
أقول ذلك، ليس من باب الدفاع عن “معارضة الداخل”(التي أختلف معها كثيراً لا بل وجداً، سواء في مسألة إسقاط النظام أو التدخل الخارجي، أو سواها من المسائل ذات العلاقة ب”التغيير الوطني الديمقراطي” المزعوم، الذي تسير إليه) ضد “معارضة الخارج”، أو الإنحياز لهذه المعارضة ضد تلك. القضية ههنا، ليست قضية معارضة فلان، ضد معارضة علان، بقدر ما أنها قضية لها علاقة جدّ وثيقة، بقادم الحرية والديمقراطية والتعددية والدولة المدنية في سوريا القادمة.
لست هنا على أية حالٍ، بصدد تسجيل موقفٍ مع هذا ضد ذاك، أو الدفاع عن زيد للهجوم على عبيد، لأن القضية، بقدر ما تعنيني كشاهد من الحرف وإليه، أكبر من ذلك بكثير.
لا مجال هنا، إذن، للمفاضلة بين هذه المعارضة وتلك، طالما أنّ كلتا المعارضتين وطنيتان، ولكلٍّ منهما أفراداً، وأحزاباً، ومؤسسات، تاريخٌ وطني لا يمكن لأحدٍ القفز فوقه، أو محوه من على الخارطة السورية، زماناً أو مكاناً.
الكلّ معارضة، والكلّ يريد سوريا ديمقراطية مدنية، ضد ديكتاتورية، على طريقته الخاصة، بما يتناسب مع قيامه وقعوده السياسيين. فكلٌّ ينظر إلى سوريا القادمة، عبر نظاراته السياسية الخاصة به، وتلك هي نعمة الإختلاف، أما أن يصير هذا الإختلاف إلى خلافات، والنعمة إلى نقمات وانتقامات، فهذه مسألة فيها أكثر من خطر.
فأن أكون ضد النظام كثيراً، لا يعني إلغاء من هو ضده قليلاً. والإختلاف على الطريق المؤدية إلى سوريا القادمة، كما هو حال معارضَتي الداخل والخارج السوريتين، لا يعني إلغاء هذه لتلك، أو بالعكس، كما حصل منذ الأول من انشقاق المعارضة السورية على نفسها، ولا تزال.
لا أعتقد أن يكون لما جرى من إهانة وضرب وركلٍ بالأرجل وشتم، لبعض رموز وشخصيات المعارضة السورية أمس، أية علاقة بالكرامة، أو الحرية، اللتان انطلقت منهما شرارة الثورة السورية.
بل على العكس من ذلك تماماً، ما حصل هو خروج غير مسؤول على كرامة و حرية وسلمية ومدنية الثورة السورية، بكلّ معانيها.
إرتكاب الإهانة المنظمة بحق بعض المعارضين السوريين بحجة “الإختلاف”، على مرأى من الجامعة العربية وأمينها العام، كان فيه من الإقصاء والإلغاء والمحو ورفض الآخر المختلف، بما يكفي للقول بأن المعارضة السورية(التي هبّت عليها هذه الأيام رياح انشقاقات واصطفافات جديدة) بكل أطيافها، وجماعاتها، ومللها ونحلها، ليست بخير، هذا إن لم تكن في أكثر من مأزق وعلى شفا أكثر من منزلق. ما جرى ويجري من رشقٍ غير قليلٍ بالكلام والكلام المضاد، فضلاً عما يشوبه من “تخوينات” واتهامات متبادلة، بين المعارضتين الرئيسيّتين الممثلتين بالمجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق الوطنية للتغيير الوطني والديمقراطي، يشير بوضوح لا لبس فيه، إلى حجم الخلاف الكبير، والهوة الكبيرة بين الطرفين، التي بات من الصعب ردمها، بكلامٍ “أخوي” أو “معسول” هنا وآخر هناك.
حسناً فعل رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الوطني السوري د. برهان غليون، حين عبّر عن أسفه لما حصل، معتبراً الحادث “اعتداءً لا يليق بالثورة والمجلس الوطني والمعارضة السورية”، حسب تعبيره. ما جاء في بيان غليون، كان كلاماً جميلاً، فيه الكثير من الغيرة الوطنية على الثورة والمعارضة والمجلس الوطني، لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه ههنا، هو: هل هذا الكلام يعبّر بالفعل عن حقيقة سلوكيات الأكثرية المعارضة، سواء داخل المجلس الوطني أو خارجه؟
الوقائع على الأرض، والتصريحات الإقصائية والمحوية اليومية، سواء من أهل المعارضة في الداخل أو في الخارج، تقول بعكس ذلك. هناك كلامٌ كثير صدر ولا يزال، من كلا الطرفين، فيه من الإقصاء والتخوين والإلغاء، بما يكفي للقول بأنّ النظام السوري قد نجح حتى اللحظة، فيما المعارضة لا تزال تذهب من رسوبٍ إلى آخر.
ربما أبسط تعبير عن ديكتاتورية “التمثيل الشرعي”، هو إصرار أهل المجلس الوطني السوري، على كونه “ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب السوري وثورته”، كما يقول لسان حاله، هذا فضلاً عن الكلام اليومي الذي نسمعه من هؤلاء(بمن فيهم نشطاء من أهل الثورة)، الذين “يخوّنون” معارضة الداخل، ويتهمونها بالخروج على الوطنية، فضلاً عن خروجها على الثورة. في المقابل، لا يكفّ أهل هيئة التنسيق الوطني، عن اتهام معارضة الخارج ب”العمالة” و”الخيانة” للخارج، وركوبهم أجندات خارجية لا تريد الخير لسوريا وشعبها، على حدّ اتهامهم.
ما بين المعارضتين من مناقرات وخلافات وصراعات سياسية ومصلحية، هو أكبر بكثير من أن يصلحه “كلام جميل”، من معارضٍ في هذه الجبهة أو آخرٍ من تلك.
الديكتاتورية في سوريا إلى زوال، فالتاريخ هناك لن يعود إلى الوراء، والشعب السوري لن يقبل بأقل من إسقاطها، من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، لكن السؤال الملحّ هو: هل ستسطيع المعارضات السورية المتناحرة، أن تأتي ببديل ديمقراطي تعددي مدني، كما يقول ظاهر كلّ الخطاب السوري المعارض، من أقصاه إلى أقصاه؟
هوشنك بروكا
ايلاف