سورية: من الثورة إلى الثورة المضادة/ حسين عبد العزيز *
لم تحدثنا كتب التاريخ عن ثورة سريعة نقية متكاملة أنجزت التحول الديموقراطي بقليل من التكاليف وبكثير من التسامح، فمثل هذه الثورة غير موجودة إلا في ميتافيزيق السياسة. كما لم تحدثنا كتب التاريخ عن ثورة مضادة أقل حدة وغلواً من الثورة الأصلية، بل على العكس، لقد أكدت التجارب التاريخية أن الثورات المضادة أكثر خطورة وعنفاً وأسوأ من الواقع الذي سبق الثورة، لأنها أكثر غضباً لخوفها من خسارة المكاسب الكبيرة التي راكمتها على مدار سنين طويلة.
لا توجد ثورة في التاريخ إلا وأعقبتها ثورة مضادة وإن بدرجات مختلفة. لقد عاد آل «البوربون» إلى عرش فرنسا بعد عقدين ونصف على اندلاع الثورة الفرنسية، واستطاع شاه إيران العودة إلى الحكم بعد ثورة مصدق، واستطاعت الثورة المضادة في تشيلي بقيادة الجنرال أوغستو بينوشيه الانقلاب على حكم سلفادور الليندي الذي وصل إلى الرئاسة عبر صناديق الاقتراع.
وعادة ما تكون نسبة نجاح الثورات المضادة كبيرة، بسبب امتلاك الأنظمة أدوات القمع، وقدرتها على تجنيد الفئات الاجتماعية المستفيدة منها، فضلاً عن قدرتها على ضرب القوى الاجتماعية الفاعلة بعضها ببعض نتيجة اقتحامها للبنى الاجتماعية، فالطبقة الحاكمة تعكس مصالح طبقية وطائفية وإثنية وعشائرية، لا سيما في المجتمعات العمودية.
في سورية بدأ النظام ثورته المضادة منذ انطلاق شرارة الاحتجاجات السلمية. لقد أدرك مستفيداً من التجارب العربية، أمرين مهمين:
– عدم تحويل الساحات السورية إلى ميادين مليونية للتظاهر كما حدث في ميدان التحرير وسط القاهرة.
– ضرورة استخدام العنف لقمع المتظاهرين وإجبارهم على نقل الصراع من الميدان السلمي إلى الميدان العسكري، مع محاولات تدريجية لتطييف الاحتجاجات.
ولم تمضِ أسابيع على التظاهرات حتى بدأ النظام باتهام الحركة الاحتجاجية بمحاولة إحداث فتنة طائفية في البلاد، وساعدت بعض الأحداث الطائفية المرتبة مسبقاً من النظام وبعض الاعتداءات الطائفية من قبل المتظاهرين على تبني النظام مقولتي الفتنة الطائفية والمؤامرة، وهو ما أدى إلى استنفار الأقليات وتحويلها من أقليات دينية إلى أقليات سياسية لا سيما الأقلية العلوية عبر إعادة إحياء اللاوعي الجمعي والذاكرة التاريخية، كما أدى في المقابل إلى تحويل الأكثرية الحقوقية إلى أكثرية طائفية، لتكون النتيجة تحويل الصراع من صراع حقوقي مطلبي إلى صراع هوياتي.
وهنا وجدت الحركة الاحتجاجية نفسها بين نقيضين: الأول وعيها لحقيقة وطبيعة الصراع المجتمعي القائم، والثاني اعتناقها لقيم ثقافية تراها مركزية في المجتمع، في حين نجحت الثورة المضادة للنظام في تحويل الخصم المجتمعي الداخلي إلى عدو خارجي لدى أتباعها من الأقليات الطائفية والأكثرية على السواء، لتتماهى هي نفسها بقيم ثقافية تؤسس لطائفة معينة، أي لجماعة تتطابق تطابقاً كلياً مع قيمها، وهذه الحركة تفترض بالضرورة صيغة الملة أو الشيعة بحسب عالم الاجتماع الفرنسي العريق آلان تورين.
لقد تحول السوريون اليوم إلى سنّة وعلويين ودروز وإسماعيلين ومسيحيين ومرشدين بفعل التيارات الإسلامية الإخوانية والسلفية الجديدة من جهة، والنظام السياسي الفاشل لحزب البعث من جهة ثانية، بعد أن كان السوريون قبل «البعث» شيوعيين وناصريين وبعثيين وقوميين وإخواناً مسلمين كما بين صقر أبو فخر في كتابه «أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية».
لكن وعلى رغم نجاح الثورة المضادة في القضاء على الثورة الأصلية والاستئثار بالحكم إلى حين في بعض التجارب العالمية، فإنها لن تستطيع أن تعمّر كثيراً، لأن الجديد الذي أنتجته الثورة الأصلية هو اقتحام الجماهير الحيز العام لأول مرة، ولن تعود إلى الحيز الخاص كما جادل بذلك عزمي بشارة، وهذا أمر في غاية الأهمية على رغم أن نتائجه لا تظهر بشكل فوري ومباشر، بل تحتاج لسنوات، وهو ما عبر عنه إريك هوبسبام حين أكد أن الثورات المضادة ستنتهي بالفشل مهما تأخر الوقت، لأن الأنساق السياسية التي تحاول إعادة فرضها تتناقض مع الظروف السياسية القائمة تناقضاً عميقاً في مرحلة التغيير الاجتماعي السريع.
لقد صمد آل «البوربون» عبر ثورتهم المضادة في فرنسا نحو 35 عاماً، لكن احتفاظهم بتقاليدهم الإقطاعية القديمة كما تجسدت في ديكتاتورية شارل العاشر أدت إلى ثورة عام 1830، واستطاع شاه ايران البقاء في الحكم نحو عقدين، لكن احتفاظه بسلوكه السياسي الداخلي والخارجي أدى إلى ثورة 1979، واستطاع بينوشيه حكم التشيلي لسبعة وعشرين سنة، لكن الممانعة المدنية السياسية انتصرت في النهاية، واستطاع مجلس قيادة الجيش في بوليفيا القضاء على الحركة الوطنية الثورية بزعامة فيكتور إستنسورو بعد فوزها بالانتخابات عام 1951، لكن لم يمض عام حتى اندلعت الثورة في كل مكان وأطاحت بالمؤسسة العسكرية الحاكمة. واستطاع النظام السوري البقاء في الحكم حتى الآن بقوة الإكراه وبفعل التناقضات الداخلية والإقليمية والدولية، لكنه لن يستطيع البقاء في الحكم إلا إلى حين لأن الواقع السياسي والاجتماعي الجديد الذي أفرزته الحركة الاحتجاجية لا يسمح ببقائه. لقد هبت رياح التغيير التي لن تتوقف مهما كان ثمنها غالياً على السوريين.
* إعلامي وكاتب سوري
الحياة