سورية…. من يتفاوض مع من وعلى ماذا؟: د. سمير العيطة
د.سمير العيطة
تم الإعلان عن توافق أمريكي- روسي يدعو إلى مؤتمر بين السوريين برعاية دولية على أسس وثيقة جنيف، بعد حادثتين لهما دلالاتهما الكبرى: العدوان الإسرائيلي على قلب الحرس الجمهوري في دمشق، كرسالة من الولايات المتحدة أن التدخل الخارجي سيكون إسرائيلياً قبل كل شيء، والأنباء عن مجازر وتهجير طائفيين قرب بانياس. هاتان الحادثتان تضعان وجود سورية كوطنٍ لجميع أبنائه على المحك، مما يعطي بعض المصداقية في أن هناك جدية في الرغبة في إطلاق مسار سياسي للخروج من الوضع الراهن، قبل أن تنفلت الأمور إقليميا.
لكن شهوراً عشرة مضت على الاجتماع الدولي الذي أنتج هذه الوثيقة، وقد تعقدت الأمور بشكلٍ كبير من حينها، على الصعيد الميداني العسكري والسياسي. فكيف يمكن إطلاق عملية سياسية على أساس هذه الوثيقة لها بعض الحظوظ من النجاح؟ وكيف يُمكن تصور مشهد المؤتمر المزعوم؟
في البدء، لا بد من القول ان أي عملية سياسية ليست حواراً، وإنما هي تفاوض ستجري معظم أموره في الكواليس، قبل وأثناء وبعد المؤتمر المزعوم. وحين يقال، تفاوض فهذا يعني أن جميع الأطراف المعنية ستخرج منه مع شعورٍ بأنها خسرت في مواقفها لأنها انتهت إلى تسويات. فما الذي يُمكن أن تساوم فيه اثورةب مع سلطة واجهت شعبها بالحديد والنار؟ وما الذي يُمكن أن تقبله كي تعض على جراحها وشهدائها ليتوقف القتال والقتل، وكي تنتقل البلاد إلى نظامٍ جديد يبقيها هي وشعبها موحدين؟
وما الذي يُمكن أن تقبله سلطة تدعي أنها الدولة التي تحمي شعبها من اعصابات مسلحةب؟ الإجابات على هذه الأسئلة تعني أن هذه العملية التفاوضية ستخلق تحديات حقيقية على من يمثل كلا الطرفين، وعلى ما الذي يُمكن الاتفاق عليه، خاصة على إمكانية تطبيق ما سيتم التوصل إليه على الأرض.
إلا أن الإيجابية الأساسية في إطلاق عملية تفاوضية كهذه برعاية أمريكية – روسية هي أنها ستعيد الأمور إلى يد السوريين، بعد أن أضحى جزء كبير من النزاع صراعاً بين قوى إقليمية ودولية على أرض سورية وعبر السوريين. مما يعني أن عنصر النجاح الأساسي في التسوية هو توافق الولايات المتحدة وروسيا للضغط بقوة على أطراف النزاع السوريين، بل خاصة على من وراءهم: إيران من ناحية، ومجموعة قطر وتركيا والسعودية وفرنسا وبريطانيا من الناحية الأخرى، للتوصل ثم القبول بهذه التسوية.
فمن سيفاوض من بين السوريين إذاً، وعلى ماذا؟
ستنطرح بدءاً إشكالية تشكيل الوفد المفاوض لكلا الطرفين، السلطة/الدولة (أي ما يدعوه البعض مجازاً ‘النظامب) والمعارضة (مع ما يتضمن ذلك من التباس حول معناه) وشرعية تمثيل هذين الوفدين للطرف المعني. لناحية النظام، لا بد للوفد المشكل أن تكون له سلطة عقد اتفاق باسم الدولة السورية، سواء على الصعيد السياسي- المدني (أي الحكومة ومجلس الشعب الحالي) أو على الصعيد العسكري (أي قيادة الجيش). وهذا نصف الطريق نحو المبدأ الأساسي في توافق جنيف، أن ما سينتج عن العملية هو حكومة اكاملة الصلاحيات’، أي أنها ستنزع صلاحيات جوهرية من سلطة الأسد الحالية على الدولة، بما فيها القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة. وهنا يكمُن الدور المهم الذي يجب أن يبذله الروس (والإيرانيون) في الضغط على الأسد ومجموعة السلطة المحيطة به، إلا إذا تهربوا من هذه المسؤولية.
وستنطرح صعوبات مماثلة لجهة المعارضة، فمن له الحق في تمثيل االثورة’، بل حتى في تمثيل المعارضة نفسها في ظل الانقسام الكبير بين أطيافها؟ وهنا لا يُمكن أن يكون الائتلاف هو الجهة الوحيدة الموجودة، حتى لو تمت توسعته قبل المؤتمر، لأن الولايات المتحدة لم تعترف به بانه ممثل اوحيدب ولن يقبل الروس بذلك. وعلى صعيد هذا الائتلاف، هناك مشكلة في أن رئيس الائتلاف معاذ الخطيب قد استقال، مع أنه يحظى بأكبر شعبية بين أعضائه، وأن الرئيس الحالي مؤقت، بانتظار انتخابٍ سيكون إشكالياً لرئيسٍ جديد له: فهل سيجري هذا الانتخاب قبل التوسعة ومؤتمر جنيف أم بعدها؟
وما علاقة ذلك بالجهود القائمة على تشكيل اقطب ديمقراطيب (أو اتحاد الديمقراطيين السوريين) برئاسة ميشيل كيلو؟ كما أن هناك مشكلة كبيرة أخرى في أن تسمية رئيس الحكومة غسان هيتو قد خلقت انقسامات قوية ضمن الائتلاف، وكذلك ضمن المعارضة، إذ أنها تعني أن هناك حكومتين (وبالتالي سيادتين) على الأرض السورية. فكيف سيتشكل وفد الائتلاف في هذه الظروف؟ كذلك هل يُمكن ألا تتم دعوة أطياف المعارضة الأخرى التي لم تنضم إلى هذا الائتلاف، كي تتمثل جميع وجهات النظر؟ ومن يُدعى من الحركات الشبابية؟ وكذلك من المجتمع المدني؟
بل من سيكون له الدور التوفيقي كي لا تأتي الانقسامات والمشاحنات أثناء المؤتمر بين أطياف المعارضة وتتفاقم؟
سيكون الأمر على الأغلب أصعب وأهم على صعيد المعارضة المسلحة؛ إذ لا معنى أن تكون المعارضة االسياسيةب هي التي تمثلها، فهي التي ستتفق في النهاية مع الجيش النظامي على وقف إطلاق النار، وستعمل على فرض هذا الأمر، وهو العنصر الأساس في أي تفاوض. وهذه المعارضة المسلحة هي أيضاً منقسمة إلى عدة جهات متنافرة، حتى لو أن هناك هيئة أركان مشتركة للجيش الحر. إذاً حول هذه القضايا الشائكة جميعها، يكمُن الدور الرئيس الذي يجب أن تبذله الولايات المتحدة، على الرغم من خلافاتها الداخلية حول القضية السورية، ما يعني انخراطها بشكلٍ كبير ليس فقط على صعيد المعارضة السورية، وإنما أيضاً تجاه الدول التي تقف وراء هذا الطرف أو ذاك من أطياف هذه المعارضة.
ثم كيف ستتم عملية التفاوض وحول ماذا؟ على الأغلب، لن يكون الشرط المسبق لرحيل الأسد، هو النقطة الأولى، إذ أن الأمر ليس أصلاً متضمناً في وثيقة جنيف، وسيغلق التفاوض من نقطته الأولى.
وربما الأفضل أن تبدأ المفاوضات حول رؤية مشتركة لسورية المستقبلية، ثم إذا تم التوافق على هذه الرؤية، الشروع في تفاصيل المرحلة الانتقالية.
وحتماً يجب أن تستبق عملية التفاوض هذه، أو أن ترافقها، خطوات عملية لبناء الثقة، خاصة في ما يتعلق بإطلاق المعتقلين وبتبادل الأسرى.
وهنا لا بد من التأكيد على أنه كما شكلت وثيقة جنيف أسس التوافق الدولي حول سورية، شكلت نتائج مؤتمر توحيد المعارضة في القاهرة، الذي تبع لقاء جنيف أسس التوافق الوحيدة القائمة بين أطياف المعارضة. ومن بين هذه النتائج هناك وثيقة ‘العهد الوطني لسورية المستقبل’. وهنا يُمكن تصور أن تكون هي أرضية التوافق الأساسية، مع أن أمرين على الأقل سيستحقان نقاشاً مستفيضاً: العلاقة بين الدين والدولة، التي تخلق خلافات حتى بين أطياف المعارضة، وحقوق الأكراد، التي كانت قد أدت إلى إشكال أثناء مؤتمر القاهرة، إلا أن الخروج بوثيقة نهائية معدلة مشتركة سيسهل جميع المراحل اللاحقة إذ سيشكل أرضية يتم إرساء الأمور التنفيذية عليها، بما فيها نهاية مقولة ان سورية هي ‘سورية الأسد’.
كذلك يمكن الانطلاق من وثيقة ارؤية المرحلة الانتقاليةب للمعارضة كأساس للنقاش، خاصة لجهة وثيقة التفاهم التي يجب الخروج بها كأولوية بين الجيش النظامي والجيش الحر والمقاومة المسلحة، لناحية ترسيخ وقف إطــــــلاق النار، وضبط الأمن وحفظ السلم الأهلي والوطني، وتشكيل مجلس للأمن الوطني، وذلك ربما ابرعاية من مجلس الأمن للأمم المتحدة’،
لكن النقطة الإشكالية الرئيسة ستكون، كما كان الإشكال أصلاً بين جنيف والقاهرة، حول طبيعة الحكومة التي سيتم الخروج بها، إذ تنص جنيف على حكومة اكاملة الصلاحياتب في حين تنص وثيقة القاهرة على حكومة اتسيير أعمالب بانتظار مؤتمر وطني عام تشارك فيه جميع الأطياف السورية، حتى تلك التي لا تنضوي تحت تسمية االمعارضةب. وفي الحقيقة، ستخرج طبيعة هذه الحكومة من طبيعة التمثيل في المؤتمر المزمع عقده، ومن مدى قبول هذا التمثيل شعبياً من جميع الأطراف. ولكن في النهاية، سيشكل التوافق على رؤية مشتركة لسورية المستقبل أساساً يسهل كثيراً الإشكاليات المطروحة… إلا أن الطريق سيبقى شاقاً وطويلاً حتى لو نجح هذا المؤتمر كي تعود سورية للسوريين وتعود لحمتهم وتنتصر الثورة… كثورة حرية وكرامة ومساواة أصلاً. وعلى الأغلب، ان تصعيداً كبيراً سيبرز على المستوى الخطابي، لجهة النظام ولجهة المعارضة، كما لجهة الدول الإقليمية والدولية، كما على صعيد المعارك العسكرية، كي يحسن كل من الأطراف موقعه في العملية التفاوضية… مع إمكانية انفلات الأمور في أية لحظة من عقالها.
‘ كاتب سوري