سورية: نقطة اللاعودة
لويز اربور
يتجاوز الوضع في سورية بسرعة نقطة اللاعودة. فمن خلال اتهام النظام لجميع أشكال الاحتجاج بأنها فتنة، والتعامل معها بعنف، أغلق هذا النظام الباب أمام أي خروج مشرف من الأزمة الوطنية العميقة. ومع وجود القليل الذي يمكن للمجتمع الدولي فعله، تتضاءل يوماً بعد يوم فرص الاحتمالات الإيجابية أي الإنهاء الفوري لأعمال العنف وإجراء حوار وطني حقيقي تمهيداً للانتقال إلى نظام سياسي تمثيلي وديمقراطي.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، خرج أعداد من السوريين إلى الشوارع تعبيراً، بشكل أساسي، عن شعورهم بالإحباط جراء تفاقم سوء الأوضاع الاقتصادية، وعن غضبهم إزاء وحشية قوات الأمن وعدم مساءلة المتورطين منها، وتضامناً مع أجزاء البلاد التي شهدت أعنف أشكال القمع.
النظام الذي أقرَّ – إلى وقت قصير- بوجود مظالم حقيقية، عاد الآن إلى نعت الاحتجاجات بأنها مؤامرة دولية واضعاً في خانة واحدة الولايات المتحدة وإسرائيل وأعداء سورية العرب في لبنان والسعودية وقطر على وجه الخصوص، ومسؤولين سابقين في النظام والإسلاميين المتشددين في الداخل. وعليه، روت وسائل الإعلام الرسمية قصة لعبت فيها الأجهزة الأمنية دور الضحية الوحيدة المضطهدة على أيدي جماعات مسلحة، والبريئة من أي إثم والساعية لدعم الوحدة الوطنية. هكذا يلوم النظام خصومه – عملاء محرِّضين وفي الآونة الأخيرة جهاديين- على مصرع جميع الضحايا. تتصدر صور مروعة لأجساد مسؤولين أمنيين (والمشوهة أحياناً) هذه الرواية. أما الضحايا المدنيين الذين نعاهم النظام في البدء، لم يعد لهم ذكر في وسائله الإعلامية وعلى ألسنة مسؤوليه.
على الرغم من عدم استبعاد تورط أجنبي محتمل في الأزمة الجارية، إلا أن أدلة موثوقاً فيها تشير إلى عنف مفرط وعشوائي تمارسه أجهزة في الدولة، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والتعذيب وإطلاق النار على الحشود السلمية. هذه الانتفاضة الشعبية العفوية والسلمية في جوهرها، غذتها ممارسات النظام أكثر بكثير من أي تدخل خارجي مفترض. هناك تقارير ذات مصداقية تظهر تعرض قوات الأمن لكمين نُصب على أيدي جماعات مسلحة مجهولة الهوية، وعن إطلاق المتظاهرين النار عند تعرضهم للهجوم، إلا أن بالنسبة إلى هؤلاء الموجودين على أرض الواقع لا يمكن أن يكون هناك شك في أن الغالبية العظمى من الضحايا سقطت نتيجة وحشية النظام. يؤجج النظام أيضاً الحس المذهبي، وينشر شائعات عن هجمات وشيكة تستهدف مجموعات طائفية محددة. لاشك أن الميول الطائفية موجودة بالفعل في أجزاء من البلاد إلا أن تكتيكات السلطات تكشف محاولتها العازمة لاستغلالها وإثارتها.
إلى ذلك، تثار في هذه المرحلة أسئلة حول قدرة السلطات على السيطرة وضبط الجهاز الأمني وحول استعداد قوات الأمن نقل صورة صادقة لما يجري على أرض الواقع إلى القيادة السياسية. حتى في أفضل الأوقات أصيبت قطاعات واسعة من الأجهزة الأمنية بداء الطائفية والفساد وعدم الكفاءة والشعور بالإفلات من العقاب بالجملة. من المرجح أن تطفو هذه السمات كلها على سطح الأحداث وسط الأزمة الحالية. وحتى الآن، لم تبدِ القيادة أي استعداد للشفافية حيال المهام المنوطة بأجهزتها الأمنية بما في ذلك انضباط عناصرها ومساءلتهم. على سبيل المثال ليس ثمة حالة واحدة معروفة عن إجراءات حقيقية لمعاقبة الاستخدام غير القانوني أو المفرط للقوة.
لم ينتج عن استجابة النظام العنيفة وغير الشرعية تجاه المتظاهرين سوى تعميق الشعور المتفشي بالفوضى. في المقابل، فقد هذا النظام مصداقيته إزاء الإصلاحات التي أعلن عنها في أمل منه لنزع فتيل الوضع المتفجر ودعم قاعدته السياسية. ولكن بصرف النظر عمّا إذا كان لتلك الإصلاحات معنى، فقد أثبتت أنها بلا قيمة من الناحية العملية. لقد رفع النظام قانون الطوارئ لكنه استمر بالسماح للأجهزة الأمنية بممارسة عملها كالمعتاد، مبينة بذلك مدى فراغ مفهوم الشرعية في المقام الأول. يسمح النظام بالتظاهرات في الوقت الذي يصف فيه أعمال التظاهر والاحتجاج بالعمل الخائن. يتحدث عن إصلاح لوسائل الإعلام في حين يُصرف أولئك الذين يحيدون عن الرواية الرسمية. كما يصر على تجاهل أفظع رموز الفساد. وأخيراً، وعلى الرغم من عقده محادثات ثنائية عديدة مع ممثلين محليين، إلا أنه يقاوم عقد حوار وطني من الممكن أن يمثل الفرصة الضئيلة الأخيرة لشق طريق سلمي نحو الأمام. يأمل النظام على ما يبدو أن تُركع حملته القمعية الضخمة المتظاهرين. يدعي البعض أن هناك حاجة إلى استعراض للقوة لاستعادة الهدوء وتوفير المساحة اللازمة لتنفيذ الإصلاحات. قد ينطوي هذا الإجراء بالطبع على خسائر في الأرواح على نطاق واسع. كما يمكن لهذا الأمر أن يستهل حقبة من الاقتتال الطائفي ذي العواقب المدمرة لسورية. إجراءات قد تزعزع استقرار جيران سورية ناهيك عنأنها لا تحظى بفرص النجاح في نهاية المطاف.
حتى إن نجح القمع الجماعي على المدى القصير، فإن انتصاراً كهذا سيكون في أحسن الأحوال باهظ الثمن. ستحكم الأجهزة الأمنية من دون منازع في أعقاب الحملة، كما ستنعدم مصداقية الرئيس الأسد محلياً ودولياً. وقليلة هي البلدان التي ستقدم يد المساعدة لإصلاح الاقتصاد المدمر. وستجد الاستثمارات الكبيرة ومشاريع التنمية والمشاريع الثقافية شركاء أجانب أقل. قد يتمكن الأسد منع تغيير النظام بالقوة، ولكن النظام سيكون قد تحول على نحو جذري.
تتمثل الفرصة الوحيدة، والتي لم تعد تبدو واقعية على نحو متناقص، لتجنب هذه النتيجة في اتخاذ النظام خطوات فورية لكبح جماح قوات الأمن التابعة له، واتخاذ إجراءات حاسمة ضد المسؤولين عن أعمال العنف التي تمارسها أجهزة في الدولة والشروع في حوار وطني شامل وحقيقي. لوضع حد لدوامة العنف ينبغي خلق المساحة اللازمة لممثلي الحركة الشعبية للتعبير عن مطالبهم والمفاوضات حول برنامج شامل وحقيقي للإصلاحات الطامحة إلى المضي قدماً. والأهم أن من شأن ذلك إعطاء النظام فرصة لإثبات أن لديه أكثر من مجرد كلمات فارغة أو هلاك مؤكد.
تمثل الأزمة السورية بالنسبة إلى المجتمع الدولي تحدياً مزعجاً. وللأسف، عدا عن إدانة القمع الوحشي والتصريح للنظام بأن سلوكه سيؤدي إلى زيادة عزلته، وحثه على تنفيذ إصلاحات طال انتظارها وعقد حوار وطني، لا يوجد الكثير من الأمور التي يمكن للمجتمع الدولي القيام بها. ليس للجهات الفاعلة الخارجية نفوذ كبير لا سيما في الوقت الذي يشعر فيه النظام بأن نجاته على المحك. وقد تجاوز في ما مضى فترات من العزلة الدولية وعلى الأغلب أنه يظن أن في إمكانه الصمود في وجه العاصفة مرة أخرى. كما أنه يُنظر بعين الشك، وعلى نحو متزايد، حتى إلى البلدان التي بنت علاقات وثيقة مع دمشق، مثل تركيا، من قبل المسؤولين المصابين بجنون الريبة. هؤلاء يعتبرون أن أي موقف لا يرقى إلى الدعم المطلق للنظام على أنه خيانة. من غير المرجح أن يكون للعقوبات التي تستهدف المسؤولين المتورطين في أعمال القمع التي تم الإعلان عنها أي تأثير. سيكون تأثير هذه القرارات أكبر إذا كانت مستندة على أدلة متينة وشاملة، بدلاً من مجرد تسمية أفراد بعينهم. قد تخاطر العقوبات الواسعة النطاق بأمرين: أولاً بأن تخدم النظام من خلال دعم مزاعمه بأنه يواجه مؤامرة أجنبية وثانياً إيذاء المواطنين العاديين الذين يدفعون بالفعل ثمناً باهظاً للانكماش الاقتصادي الشديد في البلاد.
وفي حين يدعو البعض المجتمع الدولي للقيام بالمزيد تجاه ما يجري في سورية، فإن تدخلاً عسكرياً مماثلاً لذاك الذي يجري في ليبيا غير محتمل كما أنه محفوف بالمخاطر وغير مرغوب فيه. ومن المحتم أن يستغل النظام أي شكل من أشكال المساعدة الخارجية المباشرة للمتظاهرين ليصورهم على أنهم عملاء للخارج، وبالتالي تعريضهم للمزيد من القمع دون أن يقدم لهم أي نوع من الحماية أو يؤثر تأثيراً جوهرياً على نتائج الصراع.
والحال، ينبغي ألا يغيب عن الأذهان عاملان آخران في صياغة الاستجابة الدولية المناسبة:
أولاً، وعلى الرغم من وضوح الاتجاهات العامة على نحو متزايد، لا يزال من الصعب التحقق من الادعاءات المحددة بشأن العديد من التطورات في سورية (فيما يتعلق مثلاً بالانشقاقات داخل قوات الأمن، وحجم الاحتجاجات، وهوية أولئك الذين قتلوا ضباط الأمن)، وذلك بسبب منع النظام وصول وسائل الإعلام الدولية مجبراً بذلك العديد من وسائل الإعلام على الاعتماد على المواد غير الموثوق فيها والمنشورة على شبكة الإنترنت فضلاً عن شهادات شهود عيان غير مؤكدة. وهناك خطر من الرد على الفور على مثل هذه القصص ‘الخام’ وغير الموضوعية حتماً. وسيكون من المهم أن تستند تصرفات الجهات الخارجية الفاعلة على تقييمات معقولة وشاملة قدر الإمكان للأحداث على أرض الواقع.
ثانياً ، ينبغي علينا أن لا نتجاهل وجهات نظر العديد من السوريين – حتى أولئك غير المتعاطفين مع النظام – الذين ما زالوا يخشون من تداعيات انهياره السريع. يخافون من انهيار دولة التي تعدُّ مؤسساتها بما في ذلك العسكرية منها ضعيفة حتى بالمعايير الإقليمية. يخشون أن تتحكم الديناميات الطائفية أو أجندة الهيمنة الدينية. يشعرون بالريبة إزاء تدخل أجنبي محتمل كما أنهم لا يثقون بالمعارضة في المنفى التي تذكرهم بالمعارضة العراقية. ويبدو أنهم مقتنعون بأن حلاً داخلياً متفاوضاً عليه يمثل الأمل بالانتقال السياسي الناجح بدلاً من انهيار النظام.
من الواضح أن المجتمع الدولي سيتأثر بنتائج الأزمة الحالية، حتى لو كانت قدرته على التأثير عليها ضئيلة. فالتأثير يكمن أساساً في الداخل مع المحتجين الساعين إلى المطالبة بحقوقهم والذين تكمن قوتهم العظمى في قدرتهم على إبقاء مظاهراتهم سلمية ومتواصلة ومرتكزة على الدعم المحلي، وإفهام النظام أن استمرار لجوئه إلى العنف سيؤدي إلى تعميق الأزمة التي صنعتها يداه.
‘ كاتبة من ‘مجموعة الازمات الدولية’
القدس العربي