سورية والانفصال عن الواقع ميزة إستراتيجية/ سمير الزبن
منذ الخطاب الأول لبشار الأسد بعد انطلاق الثورة السورية في مارس/ آذار من العام 2011 إلى خطابه أخيراً في 20 أغسطس/ آب الماضي، عبّر في خطاباته بفجاجة عن انفصال كامل عن الواقع، وكأن الخطابات تتحدّث عن بلد آخر غير سورية. وقد شكل خطاب الانفصال عن الواقع ميزة إستراتيجية للنظام لم يحد عنها أن روايته عما يجري في سورية هي الوحيدة التي يتعامل معها. وهي تقوم، أساساً، على نفي ما يحصل، بالتالي، لا تجعل النظام خارج أي مطالب فحسب، بل تجعل كل مطالبةٍ له بالتنازل غير مشروعة أيضاً. لأن حتى المطالب المشروعة هي المدخل الذي دخلت منه المؤامرة على سورية، وتوسعت بهذا الشكل، ركب المتآمرون موجة المطالب العادلة.
لا تُناقش هذه العجالة مواقع الانفصال في الخطاب السياسي للرئيس السوري، فهذه أكثر من أن تحصى، وأكثر فجاجة من أن تتطلب البحث عنها. لكن ما يراد أن يُلقى الضوء عليه هنا، هو كيف حوّل النظام الانفصال عن الواقع إلى ميزة استراتيجية، بدل أن تكون عيباً سياسياً. لأني أعتقد أنها كانت حالة مصنوعة ومقصودة، وليست حالة جهل بالواقع نفسه. لقد أنتج النظام نفسه هذا الانفصال عن الواقع من أجل المزيد من التحكم في المجتمع السوري. .. كيف حصل ذلك؟
إنها بدعة الأسد الأب مؤسس النظام، لا بدعة الوريث، بدعة الفصل بين مركز القوة في البلد والمواقع السياسية، فصل المواقع والمناصب السياسية في الدولة عن مصادر القوة الحقيقية فيها، وإخراج مصادر القوة من السياسة، وتحويلها إلى أدوات شخصية للرجل الأول في النظام، أدوات غير سياسية تفرض نفسها بقوةٍ على السياسة، الأول والوحيد، فليس هناك رجل ثانٍ في دولة حافظ الأسد، وليس هناك رجال أصلاً، هناك رجل واحد والباقي إمّعات.
كانت الفكرة ببساطة فصل المؤسسات عن قادتها، هناك وزير يدير وزارة من الناحية الشكلية، لكنه، في الواقع، لا يستطيع أن يتحكّم حتى بالحاجب عنده، وليس بطاقم الوزارة. أي متغير وأي موظف جديد بحاجة إلى تدقيقاتٍ من خارج الوزارة، من الجهات الأمنية تحديداً، وعندما لا توافق، يُقضى الأمر، لا يجرؤ أحدٌ على توظيف هذا الشخص. وهذا كان يشمل كل الوزارات ومديرياتها، من وزارة الدفاع التي شغلها رجل واحد أكثر من أربعة وثلاثين عاماً حتى أتفه وزارة في سورية، وزارة التموين.
“أهم ما تم فصله عن قيادته هو مؤسسة الجيش، ليس على مستوى القمة فحسب، بل وحتى على مستوى كل الوحدات القتالية، من قيادة الأركان، مروراً بالفرق والألوية والكتائب والسرايا”
أهم ما تم فصله عن قيادته هو مؤسسة الجيش، ليس على مستوى القمة فحسب، بل وحتى على مستوى كل الوحدات القتالية، من قيادة الأركان، مروراً بالفرق والألوية والكتائب والسرايا (لذلك لم نرَ انشقاقات وحدات عسكرية خلال الثورة، إنما انشقاق ضباط أفراد فقط). كان هذا الفصل فعالاً بتحطيم الجيش وإخصائه، حتى لا يقوم مرة أخرى بانقلابٍ على الرجل الذي جاء إلى السلطة بانقلابٍ عبر الجيش نفسه، وحتى لا يهدّد سيده، عليه أن يبقى مربوطاً بيد هذا السيد فقط. لذلك تم تفكيك الجيش من خلال التحكّم بكل مراكز القوة فيه، من أصغر الوحدات إلى رئاسة الأركان من خلال المؤسّسة الأمنية. حيث كان الأسد الأب يدرك أن أجهزة المخابرات تحمي النظام، لكنها لا تستطيع أن تقوم بانقلاب عليه، بعد تفريغها من أي معنى سياسي، وبالتالي يمكن استخدامها أداة سياسية، أو أداة في مواجهة السياسة من دون أن يكون لها أي خطر على النظام، طالما هي أداته الرئيسية التي يعطيها الصلاحيات الواسعة، والتي لا مرجعية لها، سوى شخصه، لا يلاحقها قانون ولا تخضع له، ولا يحاسبها أي رجل غيره. بذلك باتت بنية النظام كما صمّمها الأسد الأب أقرب إلى مسرح الدمى، هناك مسرح كبير، هو الدولة ومؤسساتها ووزارتها وجيشها، ظاهر للعلن، تملأ الأخبار والصحف. لكن المتحكّم الفعلي بمسرح الدمى (الوزارات والمؤسسات العامة)، والذي لا يظهر على المسرح هو أجهزة المخابرات التي تتبع الأسد نفسه، والتي شخصنها وطيّفها وبات ولاؤها الوحيد له وحده، هذه الأجهزة هي التي أرعبت السوريين على مدار حكم العائلة الأسدية لسورية، الشبح الفعال.
هذه الماكينة التي اختارها الأسد الأب امتلكت آليتها الذاتية منذ منتصف الثمانينات، وبات التعامل مع الأسد بوصفه “إلهاً” منذ ذلك الوقت، كان الحدث الرئيسي الذي كرس هذا الإطلاق هو مذابح حماة في العام 1982، فلم يكن الناس الذي قضوا في تلك المذابح ضحية هذه المذابح فقط، بل كان ضحيتها رأس السياسة في سورية أيضاً. في هذه المذابح، قطع الأسد الأب رأس الطيف السياسي كاملاً في سورية، وتصحّرت الحياة السياسية بعد ذلك. وفي معركته لتحطيم السياسة في سورية، استخدم الأب الشعارات نفسها التي استخدمها الابن بعد ثلاثين عاماً، بالحديث عن المؤامرة والصراع مع إسرائيل، والغرب الذي يريد تحطيم صمود البلد، فلا مشكلة ولا خلاف ولا صراع بين السوريين أنفسهم.
خلت الساحة السورية من أي مخاطر حقيقية تهدّد النظام، وبات النظام الذي صمّمه الأسد الأب يعمل بآليته الذاتية. لذلك، كان يغيب فترات طويلة من دون أن تتأثر هذه الماكينة، حتى أن باتريك سيل يصف الأسد الأب، في تلك الفترة، أنه تحوّل إلى صوت على الهاتف بلا جسد، لا يستطيع الوصول إليه سوى ثلاثة أو أربعة مسؤولين في كل البلد.
بالوصول إلى عقد التسعينات من القرن الماضي، أمر الأسد الأب أن يكون خليفته ابنه الأكبر، فاشتغل مسرح الدمى ومديروه في تلميع “الولد المعجزة”. وكان من المفارقة أنه عندما توفي
“أهم ما تم فصله عن قيادته مؤسسة الجيش، ليس على مستوى القمة فحسب، بل وحتى على مستوى كل الوحدات القتالية، من قيادة الأركان، مروراً بالفرق والألوية والكتائب والسرايا” “الولد المعجزة” في حادث سيارة، كان جميع المسؤولين السوريين يبكون بمبالغة في جنازته، ما عدا الأب كان يبتسم ويلوح للجماهير. وسرعان ما استبدل الولد بالثاني، وبعد أن كان الأول، “الولد المعجزة”، بات الثاني كذلك، طالما هو يُعدُّ لخلافة والده، ولم يكن يعني الأسد الأب الكلام الذي يقوله عن الصراع مع إسرائيل وعن مؤسسات الدولة، في وقتٍ يورث ابنه علناً، من دون أن ينبس أي أحد بكلمة واحدة عن الموضوع، أو يتطرّق له، هو يفعل ما يشاء بدون إعلان، ويعلن ما يشاء بصرف النظر عن علاقته بالواقع.
الماكينة التي امتلكت آليتها الذاتية، هي التي كلفها الأسد الأب بتنفيذ نقل السلطة للابن، إذا كان من الصحيح أن الأب توفي، إلا أن الماكينة بقيت خاضعة لأوامره، فجاء “الولد المعجزة” إلى الحكم. ولا مبالغة في القول إن الأسد الأب ما زال يحكم سورية، لأن الماكينة نفسها هي التي ما زالت تعمل، و”الولد المعجزة” لم يفعل سوى تشغيل آلة القتل التي صممها الأب، واستخدمها في حماة، أثبتت فعاليتها بالنسبة للنظام، فاستخدمها الابن على نطاق أوسع من الأب، ما أوحى أن الابن يتفوّق على أبيه، لكن في الحقيقة أن الابن كان أسير أبيه في كل ما يفعل.
العربي الجديد