سورية والخطُّ الأحمر !
آدم فتحي
في نصٍّ بعنوان ‘ المواطن والكلب’ يعقد محمد الماغوط حوارًا طريفًا بين الحيوان والإنسان، مختزلاً تراجيكوميديا الكائن العربيّ المُجرّد من إنسانيّته إلى حدّ اللجوء إلى ‘ كلب’ لبثّه الشكوى ومقاسمته المحنة، غير بعيد عن عادة العرب القدامى حين كانوا يتحيّرون ليلاً فينبحون لتنبح الكلاب فيقصدونها بحثًا عن طعام أو ملاذ.
إلاّ أنّ الاستنباح في نصّ الماغوط لا يحرّك الكلاب الصديقة بل يستدعي الشرطيّ، مفرّق الجماعات، بما فيها الجماعات النابحة المستنبحة! ويرتدي الشرطيّ في هذا النصّ قناع النظام الحاكم، لكنّ القناع يبدو أكثر إنسانيّة من الوجه.
في نهاية النصّ ينظر الشرطيّ إلى المواطن كإنسان ويكاد يتجاوب معه. أمّا في الواقع فالنظام يقتلع المواطن من إنسانيّته ليسهل عليه الفتك به. هكذا يتجرّد النظام من إنسانيّته فيما هو يظنّ أنّه يلغي إنسانيّة شعبه، فإذا نحن أمام تجسيدين جديدين لظاهرة ‘ الهُومُو ساكِير’: القاتل والقتيل، الأوّل يغذّي الظاهرة بينما الثاني ينتفض عليها.
تشخيصٌ يفرض نفسه على كلّ ذي ضميرِ حيّ أمام البطش الذي يُعامَلُ به أهلُنا في سورية الصامدة، سورية التاريخ والحاضر والمستقبل، سورية الصبر والنضال، سورية الفكر والفنّ والإبداع والكلمة الحرّة التي لم تفلح القبضة الإسمنتيّة المسلّحة في كبتها ولم تفلح المنافي في إخماد شعلتها.
الهومو ساكير (Homo Sacer ) في القانون الرومانيّ القديم هو شخصٌ يمكن أن يُقتَل دون أن تنتج عن ذلك جريمة قتل! أي أنّه منْفيٌّ إلى منطقة ‘ منزوعة الإنسانيّة’، لا حصانة له في القانون البشريّ ولا حرمة له في القانون الإلهيّ.
لم تندثر هذه الظاهرة مع روما. وها هي القوى الكبرى وإسرائيل و’ تلميذتُها النجيبة’ الأنظمةُ الاستبداديّة العربيّة تتصرّف وكأنّ الشعوب مُجرّدةٌ من حرمتها البشريّة، يمكن قتلُها بمنأى عن كلّ حساب أو عقاب! وهل نحن إلاّ أمام محاولة فاشلة لإضافة أهلنا في سورية إلى سلالة الهومو ساكير؟
استشهد ما يناهز الألف سوريّ وسوريّة حتى كتابة هذه الأسطر، وانتهكت قوّة العسكريتاريا قرابة التسعين مدينة وقرية من مدن سورية وقُراها الشامخة، كلّ ذنبها أنّها تطالب بمجتمع ديمقراطيّ لا انفراد فيه بالسلطة ولا كبت للرأي ولا إلجام للتعبير ولا توريث للحكم ولا سرقة للثروة.
يحدث كلّ ذلك بينما البعض لا يكفّ عن تكرار نفس الحجج ‘ التآمريّة’ الواهية لتبرير الصمت أو التواطؤ، جاعلاً من ‘ الخصوصيّة السوريّة’ مانعًا من الثورة والديمقراطيّة، بدايةً من حضور الطائفة وهيمنة الجيش مرورًا باختلاف هامش الحراك السياسيّ الاجتماعيّ وأهميّة الجوار الإسرائيليّ.
خصوصيّة لا تمنع الاشتراك في الدوافع نفسها التي دفعت الشعب إلى التحرّك في تونس ومصر وغيرهما، لأنّها لا تمنع الاشتراك في المحنة العربيّة نفسها، من حيث غياب المشروع الحضاريّ وتغييب الإنسان المواطن وتوريث السلطة والثروة وتحالُف الفساد والاستبداد وتجيير عنف الدولة إلى مصلحة العصابة الحاكمة.
لماذا لا يُصاب بعض ‘ الحكماء’ العرب بحمّى التريّث و’ السكتة الفكريّة’ إلاّ حين يتعلّق الأمر بثورات الشعوب؟ تريّثوا قبل أن يهلّلوا لثورة شعبنا في تونس ومصر! وتريّثوا قبل أن يهلّلوا لثورة شعبنا في ليبيا واليمن! ثمّ أشاحوا عن محنة شعبنا في البحرين! ثمّ أصيبوا بالعمى الثوريّ ما إن تعلّق الأمر بشعبنا في سورية؟!!
حتى ‘ الحماسة’ المشبوهة المرفوضة التي انتابت الغربَ في أماكن أخرى تحوّلت فجأةً إلى ‘ رصانة’ في ما يتعلّق بسورية! ممّا يشكّك في رجاحة القول بأنّ ‘ إسقاط النظام السوريّ مصلحة صهيونيّة أمريكيّة’. قول يثير سؤالاً آخر لا يقلّ خطورة: إذا كان إسقاطُ النظام مصلحة خارجيّة فلمصلحة مَنْ يكون قمع الشعب؟ وهل ثمّة نظام يصمد إن لم يحمِهِ شعبه؟
سورية خطٌّ أحمر! هكذا يقولون دون أن يعتمدوا في ذلك إلاّ على أضغاث أوهام متهافتة استدعتها الحاجة الباثولوجيّة والإصرار على عدم الوعي! شيئًا فشيئًا انطلت الصورة على البعض وحلّت محلّ الواقع. مئات المناضلين السوريّين بل آلاف يُعتَقَلُونَ على مدار الساعة، وآخرون يتمّ تشريدهم وآخرون يسقطون تحت الرصاص وآخرون ‘ يُرفَعُون’ دون أن ندري إلى أين، بتهمة واحدة: المشاركة في الاحتجاج والاعتصام والتظاهر دفاعًا عن حقّهم في الكرامة والحريّة.
وماذا يفعل ‘ البعض’ في المقابل؟ لا شيء ولا حتى الاستنباح! لا شيء سوى تذكيرنا بضرورة التحلّي بالحكمة! ومضمون هذه ‘ الحكمة’ أنّ الشعب السوريّ ممنوعٌ من الثورة محكومٌ عليه بالسجن المؤبّد في قبضة الديكتاتوريّة، ما دامَ نظامه في حربٍ مع إسرائيل!!
ما الفرق عندئذ بين إراقة الدم من موقع الصهيونيّة وإراقة الدماء من موقع القوميّة أو الصمود والممانعة؟ وبأيّ منطق يرفع النظام السوريّ شعارات الدفاع عن الحريّة خارج حدوده، ثمّ إذا هو عدوٌّ لَدُودٌ للحريّة داخل حدوده؟
هبّةُ الأحرار في سورية هي هبّتُنا جميعًا. وكما حدث قبل أشهر، رسمت هذه الهبّةُ خارطة عربيّة جديدة اقتربت فيها درعا من سيدي بوزيد والقاهرة ومصراطة وصنعاء وتجاورت فيها بانياس والقصرين وأجدابيا.
بتنا نتابع ما يحدث يومًا بيوم في سورية وقلوبنا تخفق ودماؤنا تتوهّج، لأنّنا سوريّون، مثلما كان السوريّون يتابعون ما يحدث في تونس ومصر وليبيا واليمن لأنّهم تونسيّون ومصريّون وليبيـّون ويمنيـّون.
مرّةً أخرى يتّضحُ أنّ الشعوب الحرّة، المتحصّنة بصدورها العارية وأحلامها المتلاحمة وأخلاقيّتها العريقة، الماشية بقلوبها الحافية على جمر الحريّة، تخدمُ المُقاومةَ والتحرّر بأكثر ممّا تخدمهما البلاطات، وتصنع للوحدة ما لا تصنعه الإيديولوجيّات والأحزاب والأنظمة.
وكيف لهذه الأنظمة أن تصنع وحدةً بينما هي تختزل القوميّة والأمّة في بطانة لا ترقى حتى إلى مستوى القبيلة والطائفة، ولا تعدو أن تكون مافيا أخطبوطيّة لا أداة لها غير السلاح الغاشم ولا منهج لها غير النهب والقمع ولا إيديولوجيا لها غير ما يسطّره حلف الفساد والاستبداد؟
لا يريد النظام السوريّ لشعبه أن يتظاهر أي لا يريد له أن يظهَر، لأنّ هذا الظهور يجعل الشعب مرئيًّا ومسموعًا أكثر ممّا تتحمّلُ طاقةُ النظام، وبشكل يتناقض مع العري من كلّ إنسانيّة، ذلك العري الذي يجعل من الشعب كيانًا يُباحُ قتْلُه وإبادته. لذلك هو يسعى إلى نفْيِ الشعب بقوّة السلاح إلى غياهب الغياب في الجحر أو القبر أو الصمت أو الغربة.
الشعب العربيّ ‘ الصالح’ في نظر مثل هذا النظام هو الشعب ‘ الهومو ساكير’، أي المنفيُّ من الحياة، المنفيُّ داخل حدوده وخارجها، المرميّ في اللا مكان، في منزلة بين المنزلتين، فلا هو إنسانٌ ولا هو حيوان، بل هو مجرّد شبحٍ يظهر لتقديم مراسم الطاعة ويختفي كلّما تعلّق الأمر باستحقاقات الحريّة والكرامة وأسئلة الهويّة والحضارة والمُواطَنة.
ولكنْ هيهات. شعبُنا في سورية ليس هومو ساكير. والعالم اليوم ليس روما القديمة. وإذا كانت سورية خطًّا أحمر فلأنّ حمرة دماء السوريّين والسوريات تتوهّج في العتمة مبشّرة بفجر الحريّة وآفاقها المبدعة.
وإذا كانت سورية خطًّا أحمر فلنسأل من انتَهك هذا الخطَّ أكثر: ‘ الخارجُ’ البراغماتيّ الذي ثبتَ أنّه يبتزُّ الديكتاتوريّات ولا يتنازل إلاّ للديمقراطيّات، أم ‘ الداخلُ’ المستبدّ بدعوى أنّه الوحيد الذي يعرف مصلحة البلد والمُصِرّ على أن يقودها إلى ‘ جنّته’ بسلاسل الحديد والنار؟
أقرأ دائمًا لأحرار سورية فأرى خيط أريان نفسه يقود الخطى إلى خارج المتاهة. أرى نساء ورجالاً يبذلون أرواحهم من أجل تحويل المنفى إلى وطن. لا داخل ولا خارج ولا فرق بين الهنا والهناك إلاّ شروط المكان. شعلةُ الحريّة التي تتوهّج اليوم في نصوص صبحي حديدي وهيثم مناع هي نفسُها التي رأيتها تلمع في عيني ممدوح عدوان حين التقينا آخر مرّة.
قرأنا الشعر مع أحد الشعراء المغتربين العرب. وكان ممدوح لا يقلّ عنه غربة، هو الذي كان منفيًّا في الداخل السوريّ العميق. وفي آخر الأمسية لم يجد بدًّا من أن يهمس لي مبتسمًا: المنفى الحقيقيّ في الروح وليس في الجغرافيا.
منفًى جرّبناه في تونس مع الفوارق الكثيرة، وخبرنا أنيابه وكلاليبه وما يتطلّبه من نضال وحرب مواقع. وأعرف الكثيرات والكثيرين ممّن يعيشونه يومًا بيوم داخل سورية، وفي وسعي ذكر الأسماء لولا علمي بضريبة العيش في المنفى الأقسى والأصعب والأكثر خطرًا: العيش داخل فم الوحش.
هؤلاء هم الخطّ الأحمر الحقيقيّ. أحلام سورية وعطاؤها الحضاريّ الكونيّ خطّ أحمر. كادحو سورية ومبدعوها ومناضلاتها ومناضلوها خطّ أحمر. أحرار سورية خطّ أحمر. نساء سورية ورجالها وشيبُها وشبابُها خطّ أحمر. شعبها الشامخ الباقي خطّ أحمر، وليس نظامها العابر، القابل للإزاحة والخلع طال الزمن أم قصر.
القدس العربي