سورية والخليج.. أي خيارات للمستقبل؟/ برهان غليون
التفكير في موضوع الخليج والتحولات الإقليمية والدولية يشكل، بالنسبة لنا نحن سكان المشرق، مناسبةً مهمةً، لاستعادة التفكير بقضايا استراتيجية كبرى، كادت تغيب في العقود الماضية عن أذهاننا. ولضيق الوقت، سوف أقتصر على التنويه إلى وقائع يصعب، من دون معرفتها، فهم علاقة دول الخليج بالثورة السورية، وبسورية ذاتها، ورهانات الصراع الإقليمي والدولي على سورية والخليج معا، ومآل هذا الصراع، وآفاق الخروج من المحرقة التي شاركت أطراف عديدة ولا تزال تشارك فيها، بما في ذلك دول عظمى، كان ينتظر منها المساهمة في إيجاد حل لها، لا تغذيتها.
1-ليست العلاقة بين الجزيرة العربية وبلاد الشام، وعلى نطاق أوسع، الهلال الخصيب، طارئة ولا تنبثق من الدفاع عن مصالح سياسية وقتية. إنها علاقة بنيوية محفورة في الجغرافية الطبيعية، والجغرافية السياسية والتاريخ. وهذا ما يفسر وحدة الثقافة والدين واللغة والهوية. فالهلال الخصيب امتداد طبيعي للجزيرة العربية، بصرف النظر عن طبيعة الدول والنظم التي تحكمها، ومصائر الطرفين ارتبطت بعضها ببعض، عبر التاريخ السياسي والاجتماعي منذ ما قبل الاسلام. وقد تأكدت حقيقة هذه الشراكة التاريخية في العصر الحديث، بمناسبة الثورة العربية الكبرى عام 1916، حيث توحدت نخب الجزيرة والشام والعراق لانتزاع استقلال الولايات العربية، وتأسيس المملكة العربية التي لم تكتب لها الحياة. كانت الجزيرة العربية الخزان البشري للهلال الخصيب، وأصبح الهلال، ولا يزال، درع الجزيرة الحقيقي. وهو، اليوم، خزان بشري لمشاريع التنمية والتقدم في المشرق كله.
2-عروبة سورية لا تلغي خصوصيتها، فبحكم تراثها التاريخي الغني، وموقعها على مقربة من آسيا والأناضول وأوروبا، تحولت بلاد الشام إلى ملتقى تيارات حضارية، متعددة ومتنوعة، أخصبت ثقافتها العربية، وأغنتها. وقد حولها هذا التلاقح المخصب إلى ثقافة تعددية إنسانية، منفتحة على العالم، وقادرة على التواصل مع الجميع، من كل اللغات والثقافات والأديان، لكنه لم يفقدها هويتها، ولم يجعل منها، ولن يجعل منها منطقة هجينة، من دون شخصية أو انتماء، مستعدة، كما تعتقد إحدى الدول الإقليمية التي اكتشفت متأخرة “فضائل” سياسة الهيمنة الاستعمارية، لبيع ولائها لمن يدفع لها الثمن الأغلى. ولا تكفي ثلاثون سنة من التحالف مع نظم دموية، قائمة على نزع الهوية وتدمير البنية الحضارية، لتأهيل أي دولة أجنبية، مهما عظمت قدراتها العسكرية والمالية، أو لإكسابها حقوقاً، كي تمحو ما خطته الجغرافيا والتاريخ والثقافة والدين والمصالح البعيدة والقريبة خلال آلاف السنين. سورية كانت، وستبقى، جزءاً من الجغرافية والسياسة والثقافة العربية.
3-إن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن دول الخليج هي التي قامت بالعبء الأكبر في تقديم الدعم المادي والعسكري، ثم الإنساني، للشعب السوري، في محنته الراهنة، بصرف النظر عن ملاحظات يمكن أن توجه لضعف الأداء والتنسيق والتنظيم والتوزيع لهذا الدعم. ونحن، إذ نتلفت حولنا، اليوم، لمواجهة العجز الذي أعلنت عنه منظمة الغذاء العالمي، والذي يهدد بالجوع أكثر من مليون وسبعمائة ألف لاجئ ومحتاج من السوريين، لا نجد أمامنا من نلجأ إليه سوى أخوتنا في الخليج، لأننا جزء منهم، وهم جزء منا.
4-المعركة التي يخوضها الشعب السوري منذ أربع سنوات، والتي خاضها ببطولة نادرة، ولا يزال يقدم فيها من التضحيات ما لم يقدمه شعب في سبيل حريته وكرامته، لم تعد منذ عامين حرباً سورية، وإنما أصبحت حرباً إقليمية، يدافع فيها السوريون عن أمن المشرق وحرية شعوبه ضد صعود مشاريع الهيمنة والسيطرة الإقليمية. وهم لا يواجهون على الأرض قوات الأسد التي تكبدت أكبر الهزائم خلال السنتين الأوليتين، وإنما، بشكل أكبر، قوات وميليشيات إقليمية، تمول وتسلح وتنظم من طهران، وتعمل لحساب أجندة توسعية جديدة، تهدف إلى تطويق الخليج وإسقاط الجزيرة العربية كاملة تحت السيطرة الايرانية.
لكن، لا يمكن لسورية أن تكون، ولا يستطيع أحد أن يجعل منها، خط الدفاع عن أمن طهران، وشوكة في ظهر شعوب الخليج واستقلال دوله واستقرارها. ومن هذا المنطلق، ينبغي أن نستعيد المبادرة، ونرسم الخطط الدفاعية التي لم يعد يجدي فيها أن تكون وطنية ضيقة، ونحن في سياق مواجهة إقليمية تاريخية.
5-الضغط الايراني على المشرق كله، الهلال الخصيب والجزيرة العربية معاً، سيكون طويل المدى. فهو ليس نتيجة تحالفات دولية مؤقتة، أو تردد القيادة الأميركية الحالية فحسب، وإنما ينبع من اختلالات بنيوية، نشأت من فشلنا، في العقود الخمسة الماضية، في إقامة أي شكل فعال من التعاون والتنسيق الجاد، يساعد على تطوير قوانا الاستراتيجية، ويعزز استقلال قرارنا، وهو ثمرة استسلامنا، أيضاً، لوهم الحماية التي تقدمها الشرعية الدولية، والتحالفات الأجنبية، في وقت كانت طهران الخامنئية توظف سنوات الحصار، لتعيد بناء نفسها، وتعزز قدراتها التصنيعية في السلاح وغيره، وتعمل على التسلل إلى داخل البلاد العربية، لتقويض أسس الاستقرار والوحدة فيها، ولتحويل دولها إلى رهائن لميليشياتها، كما هو الحال في لبنان وسورية والعراق واليمن. وهي مستمرة، ما لم تجد أمامها قوة توقف اختراقاتها. المعادلة، في نظري، في غاية البساطة: منطقة فارغة استراتيجياً، ومنزوعة الحماية، وقوة توسعية معبأة مجاورة. وهي قادرة، أكثر من ذلك، على أن تخوض الحرب على أرضنا، وتستخدم فيها أبناءنا، وتحقق مكاسبها بدمائنا.
6-لم يعد من الممكن ضمان أمن المنطقة بأيدٍ خارجية، ولم يعد ينفع فيه الرهان على التحالفات الدولية، فحماية المشرق لم تعد من أولويات الاستراتيجية الأميركية والدولية. وواشنطن ليست مستعدة للاستثمار فيها، بعد أن حررت نفسها من ارتهانها للطاقة الشرق أوسطية. وأشك أن تتغير سياسة واشنطن كثيراً بعد رحيل أوباما وقدوم الجمهوريين. وما لم نخرج منطقتنا من الفوضى، ونفرض أنفسنا على المنظومة الدولية، بجهودنا وقوانا كمشرق قوي، إنساني، وموحد، لن يتردد الأميركيون في اعتماد القوة المتغلبة، مهما كانت، شرطياً للمنطقة، يتقاسمون معها المصالح والمنافع. وهذا ما كانوا يفعلونه، على نطاق أضيق، بتوكيل نظام الأسد في لبنان وفلسطين، ضد المقاومة ومنظمة التحرير، وغيرهما.
بالتأكيد، لن تستطيع طهران، مهما فعلت، أن تحقق هدفها في السيطرة على المشرق، وإخضاعه لأجندتها الخاصة. وسوف تستمر المقاومة العربية، وتتوسع حتى داخل الشرائح التي يعتقد القادة الإيرانيون أنهم كسبوها لصفهم. لكن حرب الهيمنة المفروضة على المشرق تحمل، في طياتها، موجات عميقة من العنف والخراب والدمار وملايين الضحايا البريئة.
7-ليس صحيحاً أنه لا توجد لدينا خيارات، وليس أمامنا إلا أن نذعن للضغوط والاعتداءات الخارجية، أو نتسول الحماية الأجنبية. نستطيع، منذ الآن، أن نغير اتجاه الأحداث، ونعيد الأمور إلى نصابها، إذا امتلكنا الجرأة والإرادة، لتغيير خياراتنا التقليدية، ونبذ أفكارنا المتكلسة. بمجرد إطلاقنا مشروع شراكة تاريخية، تجمع بلدان الخليج وبلدان الهلال الخصيب، وتوحد طاقات شعوب هذه المنطقة المعرضة لزلازل لن تنتهي، بسبب هشاشتها الاستراتيجية، سوف يتغير الوضع، وتتغير المعطيات السياسية والاستراتيجية. شعوب المشرق قادرة على بناء المشرق العربي الجديد، كتلة قوية ومتراصة في وجه جميع التهديدات والأطماع. ولدى الخليج القدرات المالية والبشرية ليقود مشروع هذه الشراكة الكبرى التي ستغير وجه المنطقة، في أقل من عشر سنوات، حتى في ظل استمرار الحرب والمقاومة، وتعيد بناء التوازنات المنهارة، حتى ينتصف العرب من ظالميهم، أولئك الذين خانوا عهد أخوة الحضارة والدين، واستخدموا دماء الشعوب وقوداً لمشاريع عظمتهم الامبرطورية، ونفوذهم الدولي. وما علينا إلا أن نخطو الخطوة الأولى، حتى تلتف شعوب المشرق جميعاً حول المشروع الجديد الذي لن يخسر فيه أحد، والجميع سيكونون فيه من الرابحين. البديل الوحيد لهذا المشروع تسليم الشمال العربي إلى الدول القوية المجاورة، وتحويله إلى مصدر تهديد لأمن الخليج والجزيرة.
8- فقد الشعب السوري الثقة، عن حق، بالأمم المتحدة وبدولها التي أظهرت شللاً وعجزاً غير مسبوقين، ووقفت مكتوفة الأيدي أمام المذبحة اليومية، المستمرة منذ أربع سنوات، على الرغم من كل القرارات الدولية والتصريحات الرنانة. لا يمكن الثقة بعالم يتنكر للعدالة وللضحايا، ويتذرع بالحرب ضد الإرهاب ليغطي على التواطؤ في جريمة استباحة دماء شعب كامل، لا لذنبٍ إلا لأنه كسر قيود العبودية، وأراد أن يعيش، كما تعيش بقية الشعوب، خارج الأسر والإرهاب والقهر.
كيف يمكن أن نتحدث عن المستقبل، من دون أن نفكر بمصير أولئك الشباب السوريين الذين تركوا مقاعد الدراسة للقتال ضد ميليشيات همجية، تتدفق على بلادهم، من كل مكان. بمصير مئات آلاف المعتقلين والمختطفين الذين يتعرضون، نساءً ورجالاً وأطفالاً، للتعذيب والتمثيل بالأجساد والتشويه والدفن أحياءً. بمصير هؤلاء النساء والأطفال الذين فرض عليهم الموت جوعاً تحت الحصار، لكسر إرادة آبائهم وإخوانهم في مقاومة العدوان، بملايين النازحين والمشردين الذين ينتظرون المعونة التي قد تأتي، ولا تأتي، من منظمات الإغاثة الدولية. بأولئك الذين انقطعت السبل بهم، فرموا بأنفسهم لتجار الموت في مراكب أعدت كي لا يصل أغلبها إلى أي بر أمان.
أخيراً
التفكير بآلاف السوريين المرميين على قارعة طرقات العواصم وأمام سفارات بلدانها، ليلاً نهاراً، بحثاً عن أمل في لجوء تتفنن في حرمانهم منه قوانين الدول المدافعة عن حقوق الإنسان. هؤلاء هم، أيضاً، إخوتكم وأخواتكم، وهم يستحقون اهتمامكم وينتظرون مبادراتكم. لا يمكن أن نعفي العالم من مسؤولياته، وأن نقف مكتوفي اليدين أمام مأساة التواطؤ الدولي ومؤامرة الصمت، ولا أن نقبل الاستسلام لإرادة تمديد حرب الاستنزاف التي أصبحنا هدفاً لها، والتي لن تكون نتائجها كارثية إلا علينا وحدنا.
كانت دول الخليج سباقة في تقديم أول مبادرة سياسية، للخروج من المحنة السورية، وهي التي أصبحت أساساً لكل المبادرات الدولية التي جاءت بعدها. لكنها تراجعت إلى الوراء، وتخلت عن دورها الأول للآخرين الذين عملوا على كسب الوقت، وخدعوا الجميع. ومع ذلك، لا يزال مفتاح الحل في أيدينا. وبإمكان مجلس التعاون، بعد أن استعاد وحدته، أن يستعيد دوره الأول، ويطلق مبادرة جديدة قوية، تبدأ من توحيد السوريين، سياسياً وعسكرياً، وتشجع الأطراف الدولية المترددة على السير بحزم في طريق إنهاء الحرب، ووضع حد للكارثة التي تهدد بالاتساع والتفاقم. ولا أتحدث، هنا، عن سورية وحدها، وإنما عن حق شعوب المشرق، في أن تعيش بسلام وأمن بمعزل عن التدخلات الأجنبية، وجميع أشكال زعزعة الاستقرار التي تقوم بها قوى داخلية أو خارجية.
العربي الجديد