سورية والعالم في أواخر العام السادس/ ياسين الحاج صالح
يتواتر أن نُوضَع نحن السوريون الذين يحاولون تمثيل صراعهم التحرري في منابر غربية تحت ضغط تقديم صورة واضحة عن «الحل»، وما يقترب من مطالبتنا بضمان أن تسير الأمور في بلدنا بعد التغيير المأمول في طريق معبّدٍ نحو أوضاعٍ أفضل، مع تعريف الأوضاع الأفضل بأنها إما تنزع إلى مشابهة الغرب الحالي، أو هي على الأقل مستقرة. وإلا فلم لا يبقى الوضع الحالي، «المستقر»؟ بيد أن اشتراط الضمان هذا يعني عملياً حرماننا من امتلاك تاريخنا، أو من الصراع من أجل امتلاك تاريخنا، وهذه عملية غير يقينية إلى حد بعيد، لا ضمانات فيها ولا تُعرَفُ نهايتها مسبقاً.
وبدل أن تُقدَّمَ لنا مساعدة، جرى طوال ما يقترب من ست سنوات استجوابنا بتشكك وبلا توقف حول الحل المتصور الذي كان يتعذر يوماً بعد يوم. وبدل ترحيب بالتغيير ومحاولة التأثير عليه في اتجاهات أكثر عدالة وتحررية، هناك قلق من التغيير يبحث عن طمأنينة مُهدّئة.
1
لا ضمانات لدينا. ما نرجحه هو أنه كانت أمامنا، لو سقط نظامنا، أوضاع مضطربة لسنوات طويلة، وربما عنفٌ دامٍ يؤمَلُ أن يطال أصحاب الامتيازات أكثر من المحرومين منها، وأن يكون أقل وحشية وشمولاً في الوقت نفسه. لكن لا نملك ضمانات مسبقة بذلك. ما نميل إلى ترجيحه أيضاً هو أن ديناميكيات جديدة كانت ستنطلق في البلد، معاكسة لديناميكية التشدد والعسكرة والأسلمة، ديناميكية اعتدال واستيعاب وتقارب، تحل محلها أو تنافسها وتحد من أثرها الممزق. لكن هنا أيضاً ليس ثمة ضمانات مسبقة. تاريخنا مثل تاريخ غيرنا هو تاريخ صراع قد يكون بالغ القسوة، وتاريخ جهود تسير وتتعثر نحو أوضاع أقبل للاستقرار. مفهوم التاريخ يتعارض كلياً مع فكرة الضمان المسبق. ومفهوم الحرية أيضاً. فطلب الضمان لا يتعدى أن يكون اشتراطاً على التغيّر بأن يكون تحت السيطرة، سيطرة طالبي الضمان.
ولعل في مطالبتنا بضمانات مسبقة فيما يخص التغيّر في بلدنا تخوّفٌ من الفراغ الفكري والسياسي، يتملّك نخباً غربية، بمن فيها بعض متعاطفين معنا ومتضامنين. وفيه التماس لصورةِ طالبِ الضمان في مرايانا المتكسرة، وكذلك ذاكرة قصيرة، يفوت منها أن تاريخ بلدان الغرب لم يكن مكفولاً في أي وقت، أن الغرب ليس كافلاً لحسن سير التاريخ، وأن الغرور المضمن، مثلاً، في عبارة «الجهة الصحيحة من التاريخ»، يمكن أن يكون وخيم العاقبة. هو منذ الآن كذلك.
ربما تُضمِرُ هذه المطالبة أيضاً قلقاً من عواقب وآثار على المجتمعات الغربية، يُبطِّنها هي ذاتها تقدير صائب بأننا في عالم واحد، وأن تواريخ المجتمعات والأقاليم ليست تواريخ متوازية قد تتقارب في النهاية، مع بقائها تواريخ خاصة. التواريخ متقاطعة، متشابكة، متداخلة، ويعلم الجميع اليوم، والثورة السورية والصراع السوري سجّلا نقلةً في هذا الشأن، أن لا داخَل لأحدٍ (مجتمع، بلد، ثقافة/ منطقة، «حضارة»)، يقع خارجَ داخلِ أحدٍ آخر. غير أن هذا التقدير الصائب لم يتحول، ولا يبدو في سبيله إلى التحول، إلى أساس لتفكير جديد وسياسة جديدة.
2
العالم في تداخلٍ كبيرٍ لم يُبنَ عليه ما يقتضيه من تفكير نظري، ومن ضمير أو أخلاقية عالمية، ومن هياكل ومؤسسات عالمية جديدة. وليس فقط في العالم الإسلامي يثيرُ التوترُ بين واقعِ التداخل العالمي وبين أشكال تمييز متنوعة ردودَ فعلٍ دفاعية، بل في الغرب أكثر من غيره اليوم. البريكسيت البريطانية وأزمة الاتحاد الأوروبي وانتخاب ترامب في أميركا وصعود اليمين القومي في بلدان غربية متعددة، وعودة سياسة الحدود، تبدو ردود فعل مذعورة على مشكلات التشابك العالمي، خوفٌ محليٌ من عالم متداخل يأتي إلينا بعد أن كنا وحدنا نذهب إليه حين نشاء، ونرجع حين نقرر. وهو هربٌ من أكلاف عالمية فوضوية اليوم نحو أشكال سابقة للدولة والتنظيم السياسي: القومية. وما يجري الكلام عليه من أزمة اللاجئين وتصاعد تقييد حركات الهجرة، وأكثر من الكل «الحرب ضد الإرهاب»، مؤشرات على جفولٍ مما في التشابك العالمي من فائضٍ على طاقة استيعاب الهياكل السياسية والثقافية القائمة اليوم في الغرب، والتي تفقد بتسارع صفة الذات العالمية، أعني المصدر الأول للمبادرة والأفكار والحركة والتنظيم والتغيّر في العالم.
وتبدو «الحرب ضد الإرهاب» تحديداً حرباً ضد العالمية المتسعة من قبل شاغلي القمة الدولية، وتحويل مشكلة أمنية يواجهها العالم المتسع إلى سلسلة حروب خارجية وداخلية، تقاوم التداخل العالمي، وتدفع نحو التخارج والتباعد، و«الوطنية» ومعاداة الغرباء. إنها حرب ضد اتجاه الحدود بين الداخل والخارج إلى الامحاء، وإعادة رسمٍ لهذه الحدود لفصل الداخل الممتاز الآمن عن خارجٍ حسودٍ مضطرب. الغرب السياسي يرتد مرتبكاً أمام عواقب العولمة التي كان فاعلها الأساسي قبل سنوات قليلة.
3
ويترتب على التداخل العالمي تفكيرٌ جديدٌ في التدخل، يشكل الصراع السوري مناسبةً ممتازة له.
الطرح المهيمن اليوم يرتب الوقائع على هذا المستوى في واحد من نسقين. إما تدخل عسكري ينقل المتدخّلين من داخلهم القومي إلى خارجهم وداخل بلد أو منطقة أخرى، أو هو امتناع تام عن التدخل استناداً إلى أفكار السيادة والدولة القومية ومبدأ عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية. لكن اللاتدخل التام يبدو ممتنعاً كل الامتناع بفعل وقائع التداخل الدولي المتعددة المستويات، حركات الأموال والسلع، ومنها التكنولوجيا، بما فيها السلاح، والترتيبات الأمنية والدبلوماسية، دون قول شيء عن مشكلات البيئة والأوبئة، وكذلك عن تداخلات ثقافية نزعت مزاعم «الأصالة»، بقدر ما نزع التداخل السياسي والأمني والاقتصادي والمعلوماتي مزاعم السيادة.
وبما هي الذوات السياسية للمجتمعات، تحاول الدول التأثير بنسبة قوتها وبأدوات مختلفة على ما يعرض من تغيرات سياسية في بلدان أخرى، الأقرب منها بخاصة، وهذا لأنها هي ذاتها تتأثر بهذه التغيرات. عملت الدولة الأسدية، على سبيل المثال، على التأثير على التغيّرين العراقي 2003 واللبناني 2005، على نحو يرفع الطلب على الاستقرار الذي تستطيع بيعه لمن يشتري. وبما أن الولايات المتحدة تجاور كل بلدان العالم، وبخاصة «الشرق الأوسط»، الذي تجاوره جيرة مضاعفة، إن جاز التعبير، عبر علاقة الحب التي تربطها بإسرائيل وكفالة أمن الخليج، فقد عملت على الدوام على التحكم بعمليات التغيير في المنطقة، عبر الانقلابات العسكرية في وقت أسبق، عبر الغزو وتشجيع الغزو في وقت سابق، وعبر استعادة الاستقرار والحيلولة دون التغيّر اليوم. إشغال الموقع الذي يتيح التحكم بعمليات التغيّر ثابت، أما أدوات التحكم وأشكاله فمتغيّرة.
في سورية، لم يكن هناك في أي وقت معنى للاتدخل الذي دافعت عنه الحركة المناهضة للحرب في الغرب، وهي تختزل التدخل إلى التدخل العسكري مفهوماً هو ذاته فهماً ضيقاً: Boots on the ground، بحيث أن غياب هذا الشكل من التدخل يعني اللاتدخل. في واقع الأمر كان هناك تدخل أميركي في سورية لم يتوقف في أي وقت: دبلوماسي وسياسي ومالي وأمني، وعسكري أيضاً، أسهم في هندسة الأوضاع السورية في الصورة الكارثية الراهنة، التي لا يزيدها كارثية إلا ما فضله الأميركيون، والإسرائيليون أكثر منهم، أعني بقاء بشار الأسد (بالنظر إلى أن لا أحد يستطيع إعطاءهم ضمانات بتغيّر مُتَحَكَّمٍ به من الألف إلى الياء). وإن كان صحيحاً أن الأميركيين قدموا مساعدات عسكرية ومالية لتشكيلات معارضة مسلحة، فقد كانت على نحو متعمد أقل بكثير من أن تساعد في حسم الصراع (لم تُمَكَّن المعارضة في أي وقت من امتلاك مضادات طيران فعالة، ما عنى عملياً ترك المناطق الخارجة من سيطرة النظام مباحة للطيران الأسدي، وبعده الروسي). وفوق محدوديتها، اقترن ما حصلت عليه القوات المعارضة من سلاح بفيتو على إسقاط النظام عسكرياً منذ ما قبل نهاية عام 2012 على الأقل، وقت كان ذلك ممكناً فعلياً. والصفقة الكيماوية كانت الواقعة التي تكثف أكثر من غيرها نسق التدخل الأميركي وأولوياته: تحقيق مطلب إسرائيلي بسحب السلاح الكيماوي من يد النظام، وإباحة السوريين الثائرين له بكل الوسائل الأخرى، بما فيها غاز الكلور. وأسوأ حتى من ذلك، قامت إدارة أوباما بإلحاق الصراع السوري بـ «الحرب ضد الإرهاب»، الأمر الذي جعل صراع السوريين التحرري غير مرئي وأخرجه من السياسة، ونقل بشار الأسد من موقع المعتدي القاتل إلى موقع الشريك، ومعه كل مسانديه من إيران والميلشيات الشيعية الطائفية، وروسيا طبعاً.
«الحرب ضد الإرهاب» متمركزة حول الدولة وشركائها، تقوي وتشرع من هم أقوياء سلفاً بقدر ما تضعف وتنزع الشرعية عمن هم أضعف في الأصل، وبهذا فهي حرب غير مباشرة ضد الديموقراطية، ليس في سورية وحدها، بل في العالم. هذا فوق كونها حرباً ضد العالمية ونكوصاً إلى القومية، وتتوافق على نحو ثابت مع رهاب الغرباء. الحرب ضد الديموقراطية هي ذاتها الحرب ضد العالمية على كل حال. في الحالين إعادة تنشيطٍ للقومية، وللثقافة والجذور الخاصة.
طرحُ مسألة التدخل في الصورة التي تطرحها الحركات المناهضة للحرب، وقد نشطت لمرة واحدة وقت كان يبدو أن إدارة أوباما قد تعاقب الدولة الأسدية على استخدامها السلاح الكمياوي في قتل السوريين في 21 آب 2013 (وليس على قتلهم ذاته بحال)، أو قل طرحُ الأمر على صورة أن لا تدخل عسكرياً مباشراً يساوي لا تدخل إطلاقاً، ليس اختزالاً خاطئاً إلى أقصى حد فقط، وإنما هو عملياً إغضاء عن كل أشكال التدخل الأخرى، إن لم يكن مباركتها بوصفها هي اللاتدخل الطيب. وهذا فوق ما كان ينطوي عليه موقف تلك الحركة من جهل مطبق بافتراض أن الإدارة الأميركية كانت تريد تغيير النظام السوري. ما أرادته الإدارة الأميركية هو في واقع الأمر ألا يتغير النظام الأسدي، إلا إذا توفرت ضمانات كافية بأن يكون هذا التغيير مؤاتياً لها ولا يطرح عليها أية تحديات، ومناسباً لإسرائيل، وسقفه الفعلي هو أسدية بلا أسد. وبما أن هذا غير مضمون، فقد كان الخيار الفعلي للإدارة الأميركية ترتيب الأمور على نحو لم يدمر سورية على نطاق واسع فقط، بل وضع الضعفاء في سورية والشرق الأوسط ككل في أوضاع أكثر انكشافاً وأقل حماية أيضاً، فكان بهذا المعنى أيضاً عدواناً على الديموقراطية.
كان مناسباً لإدارة أوباما تماماً اعتراض حركة مناهضة الحرب على معاقبة النظام الأسدي، وهي كانت خلال الأسابيع الثلاثة الفاصلة بين المذبحة الكمياوية والصفقة الكيماوية تقول وتكرر إن الضربة في حال حصولها ستكون محدودة، ولن تهدد مصير النظام. لم تفز حركة مناهضة الحرب على إدارة تواقة إلى الحرب، بل عززت ميلها إلى ما تفضله أصلاً: عدم معاقبة الأسديين، مع مثابرتها على التدخل في الصراع السوري بكل صورة أخرى.
4
سورية هي البلد الذي ظهر خلال السنوات الستة الماضية كم أن التغيّر السياسي فيه هو قضية عالمية. العالم كله منشغل به، وأميل على نحو حاسم للحيلولة دون التغيير مما لتشجيعه أو لللاتدخل في شأنه. هي أيضاً البلد الذي ترك فيه لتشكيل حاكم مجرم أن يسحق الثائرين عليه، وأن ينال دعماً إسعافياً مرتين عل الأقل حين بدا أنه مقبل على الخسارة، مرة في ربيع 2013 من إيران وأتباعها، ومرة في خريف 2015 من روسيا. ورأيي أن أول تدخل إنقاذي للنظام وقع في أواخر 2012، عندما مُنِعَ الثائرون من الدخول إلى دمشق بضغط أميركي سعودي.
لدينا، إذن، تداخل عالمي يضع بيد الدول الأقوى وسائل تدخل كثيرة فعالة، مرئية وغير مرئية، ويجعل المطابقة بين اللا تدخل العسكري المباشر واللاتدخل التام خطأً جسيماً، ربما تترتب عليه جرائم سياسية كبيرة. فإذا أخذنا علماً بهذا التداخل العالمي تحولت الإشكالية من لا تدخل ممتنع مقابل تدخل مرفوض، إلى: أي تدخل هو الشرعي؟ ما هي الأطر الدولية التي يمكن أن تضفي الشرعية؟ ومن هو المتدخل الشرعي؟ وهذه الأسئلة تدفع إلى التفكير في أن تقدم العالمية لم يترجم نفسه في تعبيرات سياسية ومؤسسية عالمية شرعية، وبقي الإطار المؤسس للنظام الدولي هو الأمم المتحدة، وهي تشكيل عاطل يقوم على القومية، ومجلس الأمن الذي هو تشكيل أوليغارشي يحمي سلطة الأقوياء دولياً ويوفر إطاراً شرعياً لتوفير «الشلل الدولي» المرغوب. حيال الشأن السوري بالذات، لا شيء يكشف أن الولايات المتحدة كان تخبئ نفسها وراء الفيتوات الروسية الصينية أكثر من أنه عملياً أبيحت سورية لروسيا منذ خريف 2015. ما يسمى «الشلل الدولي» هو أكذوبة، الغرض منها تمويه اشتهاء الأميركيين منع تغيير يمتكله السوريين.
وما يودي بمبدأ التدخل الإنساني والحق في الحماية اليوم هو أن المتدخل الشرعي غير موجود، وأن الهياكل الدولية الحالية لا توفر شرعية حقيقية حتى حين يساند مجلس الأمن التدخل. مبدأ التدخل الإنساني ينتمى إلى تعبيرات سياسية جديدة عن العالمية لا تزال غير موجودة. والظاهر اليوم أننا نسير باتجاه إنكار هذا المبدأ والتخلي عنه، وليس باتجاه تطوير هياكل عالمية قادرة على التدخل الإنساني المشروع.
ويُظهِرُ سبعون شهراً من صراع السوريين أنه يمكن لثورة شعبية كبيرة أن تُسحَق، وأن يُحطَّم شعب ويُمزَّق بلد بفضل نجدة نافذي العالم لتشكيلٍ إجراميٍ حاكم. تدويل القضية السورية كان سنداً للدولة الأسدية، وليس للثائرين السوريين الذين كانوا على وشك الانتصار في مطلع 2013 وقت كان الصراع لا يزال سورياً سورياً إلى حد كبير. لكن القوى النافذة، إقليمية وعالمية، هي ما مكنت هذا التشكيل الأسدي المتطرف من سحق الثورة. والاستخلاص البسيط من ذلك هو أن الثورات تُسحَق حين يحصل الفريق المحلي المحتل للدولة على دعم خارجي متنوع وكبير ومديد.
5
فإذا كانت العالمية تتقدم بينما تبقى الأطر السياسية لتمثيل العالم جامدة متحجرة، لا يبقى غير مخرج آخر: التراجع عن العالمية ذاتها. الانعزال ورفع الجدران والأسوار. لا نستطيع أن نقول إن هذا غير ممكن. قد يكون ممكناً للأسف، بل يبدو أننا سائرون على هذا الدرب فعلاً. بلدان تحصن دواخلها، وتشن غارات على «البرابرة» خارجها.
لكن لا يبدو تسوير المراكز ممكناً دون ارتفاع الأسوار الاجتماعية داخلها هي ذاتها. القومية التي تنكفئ أمام واقع الاختلاط والتمازج العالمي، تخفق في التماسك هي ذاتها، وتجازف بانقسامات داخلية على أسس دينية وعرقية وجهوية. ومنذ الآن هناك مخاوف بين السود وغير الواسب في أميركا بعد انتخاب ترامب. والمهاجرون و«الملونون»، وهم أبرز الأوجه العالمية الصاعدة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، في وضع دفاعي أكثر من أي وقت سبق. مواجهة العالمية بالانكفاء والتسليم بواقع التجزؤ العالمي لن يوقفه عند الأسوار التي رفعها الأقوياء في وجه عالم البرابرة، بل سيقتحمها، وتنتصب أسوار داخل الأسوار، ويُنتَج البرابرة الداخليون.
وبعد أن كان أمثال إدوارد سعيد يثنون على «الهُجنة»، وعلى حياة المنفى، وعلى نيويورك بوصفها المدينة الأكثر عالمية، أو المدينة العالم، نسمع اليوم من سلافوي جيجك كلاماً متحفظاً على موجة اللجوء السوري (العراقي الإيراني الأفغاني) في عام 2014 و2015، يفترض المرء سماع مثله من مثقفي اليمين الأوربي. ويبدو أن أدبيات العالم المتغير خلال ثلاثة عقود انقضت في سبيلها إلى الانطواء، وهي أدبيات رصدَت تآكل اليقين، وتحوّلَ كل ما هو صلب إلى أثير، حسب مارشال بيرمان (مستعيراً العبارة من «البيان الشيوعي» لماركس وإنجلس). ما يُخشى اليوم هو انقلابُ ما هو أثيري إلى صلب، إلى جواهر وماهيات، وما هو مختلط ومهجّن إلى صافٍ و«طاهر».
منتقداً العولمة، كان سمير أمين يأخذ عليها أن حرية حركة السلع والأموال عبر حدود الدولة لا تقترن بحرية حركة الأشخاص التي ظلت مقيدة بشدة. هذه الحركة المقيدة مرشحة لتقييد أشد اليوم، ولا ندري إن كانت ستعقبها في ذلك حركة الأموال والسلع، والأفكار. الانكفاء عن العولمة يتقدم في الغرب ذاته.
وغير التجزؤ الاجتماعي وإنتاج برابرة داخليين، لا يبعد أن يفضي الانكفاء عن العالمية إلى سير نحو الوراء، نحو مواريث بدت قبل حين مهجورة أو متقادمة، أو مخفوضة المرتبة. هذا مسار محتمل، وهو نذير بقرون وسطى جديدة، قد تدوم طويلاً، هذا إن لم يتكفل أحد القروسطيين الجدد بتدمير ربع الكوكب أو نصفه، أو كلّه.
من يستطيع اليوم أن يقول بثقة إن هذا مستحيل؟
موقع الجمهورية