سورية والعقم السياسي
د.مضر رياض الدبس
‘ان امتلكت من الوقت ساعة واحدة لقطع شجرة، فإني سأمضي خمسا واربعين دقيقة في شحذ فأسي’ والاقتباس عن ابراهام لينكولن. تحمل هذه الصورة معاني دقيقة جدا في السياسي والاستراتيجي وحتى التكتيكي، حيث تكمن اهمية الفكر والعقل، بالتالي التخطيط والتنظيم، في ممارسة السياسة وفي تقويم السلوك السياسي وتحديد الاهداف والاستراتيجيات. ومن البديهي القول: ان الممارسة السياسية واللعبة السياسية بدون الفكر والتنظيم السياسي العالي تصبح اشبه بجدل عقيم لا يلبث ان ينتج الخسارة تلو الاخرى.
يتولد هذا العقم نتيجة مباشرة ومنطقية لغياب العقل، او لتغييبه الممنهج، ونتيجة للتصحر الفكري، او للخسارة امام استراتيجيات الخصم الممنهجة في تصحير الفكر. وانه لمن السذاجة بمكان الاستهانة بالجانب السياسي والمراهنة، كما الموضة الثورية اليوم، على العسكرة والاعتماد على السلاح، وكأن الصراع بكريٍّ تغلبيّ، وكأن الحرب قد قامت من اجل الانتقام لا من اجل احلال دولة مؤسساتية حضارية تتمحور حول الانسان وحقه في الحياة الكريمة والحرية غير المنقوصة التي لا تعيش مع الاستبداد.
للعقم السياسي في المشهد السوري اليوم سببان موضوعيان يظهران بوضوح تام عند فهم سلوك النظام، وبالمقابل سلوك المعارضة السياسي. فسلوك النظام يسعى دوما الى ‘تعقيم السياسة’، وحالة العقم الراهنة وممارسة لعبة الوقت تخدمانه استراتيجيا، فيما تبدو المعارضة السياسية السورية وكأنها تُسدي له خدمة كبيرة، من حيث لا تدري، في ممارستها لسياسة عقيمة، فتكون كمن يريد ان يقطع شجرة، بدون سقف زمني، بفأس مُثلَّمة لم تعرف شحذا منذ جيل. لن نناقش كثيرا الجانب المتعلق بالنظام، الذي اصبح واضحا جدا انه يمارس السياسة، وحلفائه كذلك، بخبثٍ كبير، وللاسف، فعَّال ينجح دائما في انتاج الحالة العقيمة سياسيا، فاسحا امامه الوقت للقمع والقتل وارتكاب ابشع انواع الجرائم والمجازر واضعاف الخصم معنويا، فيما يستنفر اداته التسويقية التي تصوره، امام مؤيديه من السوريين، نظاما وطنيا مقاوما يقاتل الارهاب والارهابيين. هذا نجاح للنظام، في حربه، ومن منظور اهدافه، طالما ان العقم السياسي يَصبُّ في كفته، ولكن ليس في كفة السوريين، ولا في مصلحة الشعب السوري الثائر وطموحاته الكبرى الذي، من المفترض، انه مُمَثلٌ سياسيا بواسطةِ المعارضة السورية وهيئاتها ومؤسساتها. وهنا نفرق بين السلوك السياسي والموقف السياسي، فليس في النية التشكيك اوالتخوين في مواقف المعارضة ووطنيَّة ابنائها، انما انتقاد السلوك كطريقة معينة في التصرف تنبع عن ثقافة وخلفية فكرية واستراتيجية سياسية، فهناك فرق بين السلوك والموقف، فهذا الاخير يتضمن عنصرا اراديا، اي نتاج التفكير المسبق، في حين ان السلوك يكون غريزيا على الصعيد الشخصي، وفي الواقع السياسي يعكس نمط تفكير ومنهجية مقاربات المفاهيم وتكوين الخطاب. هنا لا نشككّ او نطعن في المواقف المعلنة للمعارضة، من دعم الحراك الشعبي الثائر وهدف اسقاط الاستبداد ورموزه وبناء سورية موحدة لجميع السوريين…الخ. انما ما ننتقده هوالافتقار للرؤية السياسية الواضحة، وعدم وضع الاستراتيجيات السياسية الناتج عن تدني مستوى التنظيم وعدم القدرة على تكوين ثقافة سياسية للمعارضة تنهل منها لتكوين منهجية تفكير سياسي سليم. لنتذكر اننا لا ندخل الحرب من اجل ان نقتل اكبر عدد من الخصم، انما تُخاض الحروب من اجل تحقيق الهدف الاستراتيجي الذي قامت من اجله الحرب، وتحقيق هذا الهدف من عدمه هو معيار الربح والخسارة وليس عدد الجنود الذين قتلناهم، او الاليات التي اعطبناها، من هنا لا يمكن الا ان تملك المعارضة وضوح الرؤية الاستراتيجية: ‘مجموع الطرق المستخدمة لحرمان الخصم من وسائل المعركة، واجباره على التخلي عن الصراع′، حسب ميشيل فوكو. فالاستراتيجية هي نقيض الارتجال والتصريحات الفوضوية والسلوك المهزوز، هي جوهر الفكر المنطوي تحت تنظيمٍ حقيقيّ، وتنطلق من الطموحات الكبرى للجماعة، وتعكس تطلعات المجتمع الذي تمثله. هذا النوع المُنظم من العمل السياسي لا يفسح مجالا لغياب العقل القادر على توقع الاشياء وبالتالي لا نقول مثلا: خدعتنا هذه الدولة او تلك، او خاب املنا في المجتمع الدولي الذي رَاهنَّا عليه، بل نتوقع سلوك الدول والمجتمعات ونبني خياراتنا وفق الواقع والمعقول، ونمارس فن الممكن. وقعت المعارضة السياسية السورية في سلوك سياسي عقيم، داخليا وخارجيا، وحصدت وتحصد نتيجة هذا اللافكر، بل وحصد الكثير من الابرياء نتيجته مواجهة آلة قمع همجية يقودها النظام. نؤمن بان الكثير من المكاسب التي كان يمكن للثورة والمجتمع السوري حصدها قد ضاعت، بسبب السلوك السياسي الذي تتبعه المعارضة وللتوضيح نسوق على سبيل المثل لا الحصر، كيف كانت مقاربة المعارضة السورية، منذ اندلاع الثورة حتى اليوم، لمفهوم ‘الاقليات’ في سورية، ففي الوقت الذي كان الشارع السوري يهتف منذ البداية ‘الشعب السوري واحد’ و’كلنا وحدة وطنية’، قامت المعارضة السياسية بابتكار مصطلح ‘تطمين الاقليات’ وقامت بتخصيص مقاعد للاقليات على اساس مذهبي وديني في الهيئات التي تتشكل حديثا. ان مصطلح ‘تطمين الاقليات’ هو، اولا، اعتراف ضمني بتقسيم المجتمع الى اقلية واغلبية بالمفهوم المذهبي والديني، وليس بالمعنى السياسي، فلا يخرج الفكر المعارض عن فكر النظام الممنهج في زرع هذا التقسيم، وثانيا يثير المصطلح سؤالا على الصعيد الفردي: ما الذي يستدعي الطمأنة؟ وما الخطر الذي منه تُطَمئِنون؟ فبالتالي تُساهم الهواجس، التي تشكلها اجابات هذه الاسئلة، في تعزيز فكرة يعمل عليها النظام، وبشكل ممنهج، مضمونها تحويل المفهوم العام للحدث السياسي من ثورة ضد استبداد وديكتاتوريَّة الى حرب ضد متشددين اسلاميين. لمجرد العفوية والارتجال في تكوين الخطابات تمَّ تضييع فرصة رائعة لبذور وحدة وطنية ظهرت بشكل تلقائي مع بداية المجتمع الثوري السوري، ولم تترجم سياسيا في حين انها لو ترجمت لكان بالامكان تكوين تعددية سياسية حقيقية متناغمة ومتضامنة مع المسار الثوري، ولساهمت في محاربة الفكر الطائفي الذي يبني عليه النظام الكثير من استراتيجياته في التعاطي مع الثورة. يساق هذا كمثال على تَصحُر الثقافة السياسية الاستراتيجية عند المعارضة السياسية السورية، الامر الذي ساهم، وان كان ليس وحيدا، في تعقيد هذا المشهد السياسي السوري. يقول الجنرال والمؤرخ البروسي كارل فون كلاوزفيتز: ‘الاستراتيجية هي فن استخدام المعارك لبلوغ الهدف من الحرب’ لذلك يجب العودة دائما والتذكير بهذا الهدف وعدم الانجرار السياسي خلف هدف الانتصار العسكري بمفهوم ‘من قتل اكثر’، وعدم الانسياق خلف تلك اليوتوبيات الحالمة باحداث لا يحملها الواقع السياسي، والاهم هو القناعة بان النصر يمكن ان يأتي بدون معركة: عن طريق معرفة كيفية تنشيط دينامية التطورات المرتبطة بمجرى الاشياء.
‘ كاتب سوري
القدس العربي