صفحات سوريةفراس قصاص

سورية وثورتها.. أسئلة


فراس قصاص

لم تنتصر الثورة السورية بعد أكثر من سنة ونصف على اندلاعها ولم ينهزم الاستبداد في سورية على الشاكلة التي حصلت في تونس ومصر وليبيا واليمن رغم البطولة الخرافية والتضحيات الكبرى التي قدمها الشعب السوري. سقط حتى الآن في سورية اكثر من أربعين الف سوري بالإضافة الى مئات الآلاف من الجرحى ومئات الآلاف من اللاجئين خارج سورية والنازحين داخلها ولم يزل بشار الاسد على رأس السلطة في سورية ونظامه يبدو متماسكا بالنسبة للكثيرين، ولا شيء يدعو الى توقع سقوطه في المدى قريب . فما الذي ميز الوضع السوري حتى تتفارق التفاصيل والمسارات بين الثورة السورية من جهة والثورات العربية من جهة أخرى ؟وهل ستنتصر الثورة السورية وتتحقق في حياة السوريين أم أنها أيضا لن تشبه مثيلاتها في البلدان العربية الاخرى في المآل النهائي؟

اشتعلت الثورة السورية في واقع سوري، ذاتي وموضوعي معقد للغاية، معقد محليا حيث التعدد السوري الديني والإثني والمذهبي المتحكّم به سياسيا من قبل السلطة السورية المستبدة لمصلحة استمرار هيمنتها على الحياة العامة ولجهة ربط مصير سورية واستمرارها موحدة وآمنة بدوام استمرار ذلك النموذج من الحكم فيها، وحيث يتوافر إرث للسلطة يمتد لعقود نوّعت فيه أشكال تحالفاتها وشيدت شبكات متعددة لمصالحها. معقد إقليميا حيث الصراع العربي الاسرائيلي يتفاعل مع اختلاف الابعاد السوسيولوجية/السياسية المعينة لشعوب المنطقة الحاصل جزئيا على خلفية التأثر بتراثاتها الدينية والمذهبية المغلقة على اشكاليات قديمة مترافقا مع التمايز الأيديولوجي والنشأوي للأنظمة العربية والإقليمية الضابطة لسير مجتمعاتها بشمولية عالية النسبة بما يرسم خطوطا ومحاور سياسية في المنطقة لها امتداداتها الشعبية، متنافسة بالضرورة ومتعارضة في كثير من الاحيان. معقد دوليا حيث تشهد الساحة الدولية خلخلة في صفوفها الأمامية، يصنعها تعاظم لموقع الصين الاقتصادي والدولي وإرادات ناشئة لروسيا الجديدة في استعادة موقع رئيس في القطبية الدولية كرد فعل على تعافيها الاقتصادي وما تعتبره استخفافا بها وتجاهلا لمصالحها وتوسعا لقوى منافسة على حساب امنها القومي، وأزمة مالية عالمية تطال أكثر من سواها الدول الغربية والولايات المتحدة النافذة في الساحة الدولية معدلة بجداولها السياسية التقليدية عن الاولويات تاركة إياها نهبا لأوضاعها ومشاكلها الداخلية، كل ذلك مضافا اليه مصادفة أن العام الحالي للثورة السورية يحل وعددا مهما ورئيسا من الدول الفاعلة في المجتمع الدولي ينتظر المرور في مرحلة انتخابات وإعادة افراز رؤوس لأنظمتها السياسية وما يتركه ذلك عليها من آثار متفاوتة إزاء الملفات الخارجية وحسم مواقفها منها.

لكن الوضع في سورية وتأخر انتصار ثورتها واستمرار مقاومة نظام الأسد لما قيل عن حتمية سقوطه، يبدو بحسب ما تذهب هذه السطور اليه وأثناء محاولة الاجابة عما حدث للثورة ، ليس نتيجة لجملة التعقيدات تلك فقط، والتي لا يتحمل السوري، ثائرا أو سياسيا داعما، اي مسؤولية لوجودها، وإنما يتحمل المسار السياسي الداعم للثورة، ذلك الذي رسمته وتقوم عليه المعارضة السورية، نصيبا مهما في الاعاقة التي لم تزل تواجهها فصول الثورة السورية ويومياتها، فالتعاطي السياسي المعارض مع الواقع المتشابك والمتفاقم التعقيد الذي تعاني منه الثورة السورية كان سيئا للغاية، بل ربما كان صعبا تصور أشكال اخرى من التعاطي السياسي المعارض مع الثورة وإدارة ملفاتها السياسية أكثر سوءا مما كان ،فالعقد والتورمات الأيديولوجية والسياج الدوغمائي الذي ساعدها على تشييده تراث طويل من قمع النظام لها، فصل المعارضة السورية عن الواقع السوري الناشئ مع الثورة ومنعها عن ممارسة السياسة في بعدها البراغماتي كما حجبها عن الممكنات العملية التي تتيح لها التنسيق والتواصل والتأثير والتأثر فيما بينها وبين الفعاليات الثورية والقائمة على الثورة والمعارضة لها، وبدلا من أن تحاول تطويع المعيقات الاقليمية والدولية لنجاح الثورة السورية بالقدر الممكن فاقمتها وزادت من حدتها ،فشوشت بتعارضاتها وقراءاتها المختلفة وتشككاتها ذات الاصل الايديولوجي بالدول والأنظمة السياسية الفاعلة في الوضع السوري صورة الثورة السورية وأثرت بالتالي في الموقف منها. كما أنها لم تحسن التفاعل مع مواقف المجتمع الدولي المتضامنة أو المناهضة لثورة الشعب السوري معتبرة أنها مواقف تخضع لستاتيك ينتج كمحصلة لمعادلة المصالح الدولية لتتعامل مع الدول بوصفها أفرادا ذات مصالح مسبقة وليس باعتبار كل منها منظومة من المؤسسات المعقدة والمترابطة التي تستمد قراراتها ومواقفها من توازنات داخلية و قراءات تتأثر بشكل استراتيجي وكبير بالرأي العام في مجتمعاتها. وبالتالي يمكن محاولة النفاذ الى إراداتها عبر النفاذ والتأثير بعوامل صنع القرار فيها وآلياته.

بيد أن النظر إلى المشهد السوري المتفجر من الزاوية التاريخية، رغم كل ما سبق وكل الفاتورة البشرية والوطنية الباهظة التي يدفعها السوريون ثمنا والتي قد تستمر آثارها فترة طويلة، يوضح أنه ليس ممكنا بأي حال من الأحوال فشل الثورة السورية حتى والنظام المستبد يبدي ما يبديه من استشراس دفاعي عن وجوده. لماذا؟ لأنها نجحت بالفعل في تقويض شرعية الواقع القديم في سورية و فككت أبنيته ومسوغاته، ولم يبق سوى وضع الشكل الذي سيدفن فيه مع تحديد كم ستبلغ الخسائر والتضحيات بعد وكم ستستمر. وعلى الرغم من كل الألم الذي يصيب المرء وهو يراقب القيح الذي يطفو على السطح مع الكم الهائل من الوجع السوري، إلا أنها الثورات، غالبا ما تصنع هكذا في مجتمعاتها. خصوصا حينما تكون عميقة وجذرية.

‘ كاتب وناشط سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى