صفحات العالم

سوريـا فـي عيـن العـاصفـة مـن يـوقــد الـحـرائــق


غالب ابو مصلح

-1-

يمر النظام العالمي، بقيادته الاميركية، في أزمة شاملة، تنذر بسقوطه، أو بإحداث تغييرات جذرية في بنيته وتوجهاته. فقد عصفت أزمة الركود الكبير سنة 1929 بعصبة الأمم المتحدة والفكر المركنتـيلي السائد، والمعبر عن مصالح الامبراطوريات الاستعمارية التي بلغت اوج تمددها سنة 1920. وأسقطت هذه الازمة والحرب العالمية الثانية التي تخللتها، عهد الاستعمار وفتحت عهد الامبريالية الاميركية، وريثة عهود الاستعمار. كما انتجت ازمة النظام الرأسمالي في اواسط الستينيات سقوط « الكينزية « كفكر وتوجه اقتصادي واخلاقي، لمصلحة الليبرالية الجديدة، مع وصول المحافظين الجدد الى السلطة في مراكز النظام. ومثلت الليبرالية الجديدة ثورة اصحاب رؤوس الاموال على القوى العاملة، ونجحت في اعادة اقتسام الناتج لمصلحة رؤوس الاموال وعلى حساب الرواتب والاجور.

وأتت ازمة النظام الرأسمالي الراهنة، في مرحلته الاكثر احتكارية وعولمة، لتعلن نهاية سيطرة الليبرالية الجديدة، التي تقدس حرية الاسواق وعقلانيتها وعدالتها واخلاقياتها الدارونية، وتدعو الى اسقاط دور الدولة في الاقتصاد، كما الجيلان الثاني والثالث من شرعة حقوق الانسان.

تواكب ازمة النظام الراهنة انزياحا متسارعا للثروة العالمية من الغرب الاوروبي الأميركي الى الدول الناشئة، وعودة التوازنات الاقتصادية العالمية بالتالي الى ما كانت عليه قبل سنة 1800، اذ كان الانتاج الآسيوي يساوي اضعاف الانتاج الاوروبي. وتحدد القدرات الاقتصادية في النهاية القدرات العسكرية والسياسية، وطبيعة النظام العالمي والقوى المهيمنة فيه، وتعمم ثقافتها وقيمها على العالم كقوة سائدة.

ويعيش عالمنا اليوم في مرحلة مخاض وآلام ولادة نظام عالمي جديد ذو سمات غير اوروبية واميركية. وعسى ان يولد هذا النظام دون حرب عالمية، او سلسلة حروب مترابطة، نتيجة العدوانية الاميركية في مرحلة انكماشها. فتاريخ هيمنة الحضارة الاوروبية لاكتشاف العالم واستباحته، حتى يومنا الحاضر تمثل أقسى درجات العنف والجرائم ضد حقوق الشعوب. وكما قال شاعر الهند الأكبر طاغور: «من الواضح ان شعلة الحضارة الاوروبية لم تكن لتنير الاقاليم الواقعة وراء حدود اوروبا، بل لتوقد فيها الحرائق».

وتزداد اميركا توترا في مرحلة تراجعها النسبي على كل الصعد، ونتيجة هزائمها في اكثر من مكان، وتتصرف كالنمر الجــريح، وتـبالغ في استعمال قدراتها العسكرية باكثر من طاقتها، لعـلها تستطـيع ايقاف تراجعها الاقتصادي النسبي. فتفرض بضائعها المسمومة على الدول التابعة والصديقة، وتفرض على هذه الدول رؤيتها الاقتصادية التي تتناسب ومصالحها، واسعار صرف عملتها، وتجبرها في بعض الاحيان على فتح اسواقها امام تدفق رؤوس الاموال الساخنة، لقنص ثرواتها، كما فعلت في دول جنوب وشرق آسيا في النصف الثاني من التسعينيات.

واندفعت اميركا لتوسيع حلف شمالي الاطلسي شرقا، مطيحة بحلم «بناء البيت الاوروبي الواحد» الذي حلم به غورباشيف. وهذا الحلم مغاير لتاريخ اوروبا وانقساماتها المذهبية والثقافية. ودفع حلف الاطلسي شرقا يعني استمرار التناقض مع روسيا الاتحادية لاسباب غير عقائدية، والعمل على محاصرتها. وعملت اميركا على احتواء الصين ومطاردتها في القارات. وتعمل على توسيع سيطرتها على مكامن النفط وطرق امداده، من بحر قزوين الى الشرق الاوسط الى القرن الافريقي ودول الساحل والصحراء. وعملت على اعادة صياغة العقيدة العسكرية لحلف شمالي الاطلسي، من حلف للدفاع عن اوروبا الى حلف «للدفاع» عن مصالح اوروبا واميركا في العالم .

واميركا المأزومة على اكثر من صعيد تقاتل بكل الوسائل والأدوات المتاحة للأبقاء على النظام الدولي الراهن الذي صنعته ،وعلى هيمنتها على هذا النظام. فرفض استبدال الدولار، كعملة عالمية، بعملة رمزية تمثل سلة من العملات، أي حقوق السحب الخاصة ( SDRs) فهي تبتز دول العالم بالدولار كعملة عالمية. وتتخوف أميركا كثيرا من مزاحمة اليورو للدولار، وكذلك من توسيع دور اليوان الصيني، الممثل لاقتصاد نابض قوي وسليم، كعملة عالمية في القريب العاجل. وتمارس اميركا ضغوطا على الصين لرفع سعر صرف « اليوان « للتعويض عن تدني قدراتها التنافسية. كما تعمل على السيطرة على الممرات البحرية الاساسية لتهديد الصين، وفي المحيط الهندي بشكل عام. فعبر هذا المحيط تمرّ نصف تجارة الحاويات في العالم. وتمر عبر مضيق ملقة 40% من التجارية العالمية. ويصر اوباما، بالرغم من عمله على تخفيض موازانة البنتاغون، على تعزيز التواجد العسكري الاميركي في اوستراليا، والانتشار في بحر الصين الجنوبي، لمحاصرة الصين. كما يعمل اوباما على نشر شبكة صاروخية مضادة للصورايخ في بولندا وتركيا، وفي البحور المحيطة بالاتحاد الروسي، عبرنشر منظومات صاروخية محمولة على سفن حربية في بحور الابيض المتوسط ،والاسود، وبارنتس والشمال والبلطيق.

شكلت هزيمة حزيران نقطة تحول في مسيرة حركة التحرر العربية الصاعدة، ولم تستطع حرب تشرين رغم انجازاتها ان توقف تراجعها وان تجبه الهجمة الاميركية الصهيونية. فبعد حرب تشرين عقدت المملكة السعودية اتفاقا مع اميركا التزمت بموجبه الاخيرة حماية حكم العائلة السعودية، مقابل التزام العائلة بعدم اللجوء لسلاح النفط في المستقبل، مع انشاء لجنة سعودية اميركية للاشراف على انفاق عائدات النفط. وتمّ اسقاط النظام العربي بخروج مصر منه، وتوقيعها اتفاقات كامب دافيد، ولحاق الاردن بها مع توقيع اتفاق وادي عربة. وكان اجتياح اسرائيل للبنان لالحاقه باسرائيل، وباشراف اميركي اطلسي، وتم اجتياح الصومال ثم حرب الخليج الاولى وحصار العراق، وانهاكه قبل اجتياجه وتدميره. وانتشرت القواعد الاميركية في امارات الخليج من البحرين الى الكويت، ونمت العلاقات المتعددة الاوجه السرية والعلنية لهذه الكيانات مع اسرائيل. وتم تقسيم السودان وخلق كيان سياسي في جنوبه حليفا لاسرائيل وبإمرة اميركية. وتمت محاصرة ايران بغية اسقاط نظامها وحصار سورية وشن حرب على لبنان لاسقاط مقاومته، وحرب متكررة على غزة. كل ذلك يدل على ان الهجمة الامبريالية الاميركية الصهيونية لم تتوقف يوما على المشرق العربي بشكل خاص، وعلى الشرق الاوسط الكبير، أي العالم الاسلامي. توقفت الهجمة العسكرية الاميركية على سورية بسبب تعثرها في العراق وافغانستان، وعدم قدرة هذه القوة على توسيع ساحة صراعها، لكن الاندفاعة الامبريالية الامريكية ما زالت مستمرة ولو بوسائل اخرى، او على الاصح بكافة الوسائل الاخرى، بالرغم من مأزقها التاريخي الشامل ومأزق حلفائها واتباعها المحليين، فاميركا، حسب قول كولن باول، عاجزة عن القيام بأي عملية تتعدى عملية اغاثة من كارثة طبيعية، وذلك قبل انفجار الازمة البنيوية في آواخر سنة 2007. أما الآن فالوضع مختلف .

عند بداية سنة 2011 (في 15/1/2011) اقترح وزير الدفاع الاميركي تقليص موازنة البنتاغون بمبلغ ماية مليار دولار على مدى خمس سنوات، نتيجة «الوضع الميؤوس منه لموازنة البلاد، وما تمثله من خطر على مصداقية اميركا ونفوذها في العالم»، مما اثار حفيظة رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، اذ رأى ان هذه الاقتطاعات مبالغ فيها. أما في 15/11/2011 فاعترض وزير الدفاع الجديد «ليون بانيتا» على مخاطر اقتطاع تريليون دولار من موازنة البنتاغون على مدى عشر سنوات قائلا: «بعد عشر سنوات من مثل هذا التوفير، سنمتلك اصغر قوة برية منذ سنة 1940،واقل عدد من السفن منذ سنة 1915 (اقل من 230 سفينة، في مقابل 284 سفنية حاليا، واكثر من 700 سفينة في 1945)، واصغر سلاح جو في التاريخ». ويمكن ان تتخلى اميركا عن مشاريع تسلحية عديدة منها على سبيل المثال: المقاتلة F35، والدرع الصاروخي الاوروبي، وان تقلص اسطول الغواصات النووية من 14 الى 10.

لكن على اميركا ان تقلص موازنة البنتاغون بأكثر من تريليوني دولار خلال عشر سنوات لمحاولة وقف تدهور مقومات اقتصادها. فالعجز السنوي في الموازنة بلغ حولي 1,5 تريلون دولار ومعدل البطالة الحقيقي بلغ اكثر من 22,7%، وبناها التحتية منهارة، وقدراتها التنافسية متدنية ونطاق الفقر يتوسع، ويبشر كل ذلك ربما بحروب اهلية وتشظي الاتحاد الاميركي.

أما اوضاع شركائها الاوروبيين في حلف الاطلسي فلــيست افضل. يقول «روجير أوين» ان تخفيض الموازنة العسكرية البريطانية لا يقتصر على وضع حد «لمهمات بريطانيا العسكرية في الخارج، بل يجعل بريطانيا عاجزة تماما عن الدفاع عن نفسها في حال اي اعتــداء خارجي. وهي ملتزمة الآن على ان تشترك في هذه المهمة مع جارتها فرنسا.» وكانت بريطانيا قد عقدت معاهدة لتعميق التعاون العسكري مع فرنسا في تشرين الثاني 2010. وستجري المشاركة في حاملات الطائرات، وتشكيل قوة تدخل عسكري مشترك، قوامها عشرة آلاف جندي ( The Economist Nov 6/2010)

فالاحلام الامبراطورية ما زالت تدغدغ مخيلات الدولتين في ارذل ايامهما. وحال فرنسا اسوأ من حال بريطانيا، وهي مهددة باللحاق بايطاليا في اطار ازمة الديون الاوروبية، ووضع مصارفها خطير جدا، بسبب تورطها الكثيف في اقراض الدول الاوروبية المهددة بالافلاس.

ان القوى الامبريالية وعلى رأسها اميركا، المأزومة على اكثر من صعيد، قادرة على النباح وعاجزة عن العض، ليس بسبب ازمتها الداخلية فقط، بل بسبب نمو القدرات الاقتصادية والعسكرية لعدد كبير من الدول الناشئة ومنها ايران في المنطقة بجانب الاتحاد الروسي، ونمو قدرات المقاومة العربية، التي اثبتت فاعليتها واستعصاء هزيمتها من قبل اميركا واسرائيل.

-2-

ان أميركا واتباعها في المنطقة خائفون على مصيرهم، نتيجة التطورات العالمية كما نتيجة الانتفاضات الشعبية العربية. فعلى طول الشاطئ الغربي للخليج صنع الاستعمار البريطاني كيانات سياسية هشة، تم اغراقها بالعمالة الاجنبية بدل العمالة العربية المسيسة. وتعيش الآن الاقلية العربية الحاكمة فيها على ريوع النفط وكدح الاجانب، وحماية القواعد العسكرية الاميركية وتحت امرتها. وتعمل الآن اميركا على انشاء حلف للدول والكيانات التابعة لها على امتداد الوطن العربي، كما استطاعت ان تلحق الجامعة العربية بسياساتها المعادية للشعب العربي ومصالحه الاستراتيجية. وتستعمل كل اتباعها وقسما من تدفقات اموال النفط العربي لإذكاء الثورة المضادة فوق الارض العربية. وتركيا اردوغان، القادم الجديد الى ساحة المشرق العربي مأزومة على اكثر من صعيد. فهي مرذولة في «النادي الاوروبي المسيحي» كما تقول الإيكونومست، بالرغم من توظيفها لعقود في حلف الاطلسي للدفاع عن هذا النادي. وفشلت تركيا في استقطاب دول شعوب وسط آسيا، التركية بمعظمها، وبينها وبين روسيا عداء تاريخي يتخطى الايديولوجيا. ولم يبق لها غير اميركا واتباعها للدخول الى مجالها الحيوي المتبقي ـ الوطن العربي. ولبس اردوغان قناع العداء لاسرائيل، لمواكبة التحول الكبير والسريع في وعي الجماهير التركية، وكبطاقة دخول الى الوطن العربي. لكن المرشد الروحي لأردوغان وحزبه هو «فتح الله غولن»، الذي يعيش في اميركا، ويمثل مجموعة ضخمة من المؤسسات غير الحكومية في تركيا، ويجاهر بصداقته للغرب، ويمزج خطابه الصوفي بالدعوة لرجال الاعمال. ويبرر قتل الكوماندوس الاسرائيلي لتسعة اتراك على سفينة مرمرة، كما تقول مجلة الإيكونومست عنه. بالرغم من حدة خطاب اردوغان ضد اسرائيل، فانه لم يلغ معاهدات تركيا العسكرية والسياسية معها. ونمت العلاقات التجارية التركية الاسرائيلية بشكل سريع منذ سنة 2010 حتى اليوم. وصعدت تركيا في علاقتها التجارية مع اسرائيل من المرتبة التاسعة في الفصل الرابع من سنة 2010 الى المرتبة الثالثة (بعد اميركا وهولندا) في الفصل الاول من سنة 2011. ويعاني الاقتصاد التركي من صعوبات جمة. فوتائر نموه تتراجع بسرعة. وخلال فترة (آب 2010 الى آب 2011) ارتفع العجز التجاري السنوي من 57 مليارا الى 100,9 مليار دولار، وارتفع العجز في ميزان المدفوعات الجاري من 33,6 مليارا الى 86,1 مليار دولار. والجيش التركي عاجز ومقعد. يقول «ارك ادلمان» سفير اميركا السابق في تركيا: «ان الجيش التركي يعطي كل الدلائل على انه جيش مكسور ويبحر دون توجيه» مع وجود 12% من جنرالاته العاملين في السجون (The Economist .Aug. 6/2011) .

وتتناقض توجهات اردوغان للحاق باميركا، مع توجهات الشارع التركي. فحسب استطلاع غربي للرأي، كان 52% من الاتراك ينظرون بايجابية لاميركا سنة 2000، وانخفضت هذه النسبة الى 10% في سنة 2007. واظهر استطلاع الماني للرأي في تركيا ان نسبة التأييد لاوروبا انخفضت من 50% سنة 2009 الى 28% سنة 2010 .

وأدخلت اميركا تركيا المأزومة الى دول الخليج التابعة، كشريك استراتيجي، عبر معاهدة مع مجلس التعاون الخليجي في سنة 2008 لتوجيه التوظيفات الخليجية الى السوق التركية، ولدفع تركيا الى مواجهة ايران بدل التقارب معها في اطار الشرق الاوسط الكبير .

وبعد انتفاضة الجماهير العربية في طول الوطن العربي وعرضه، وسقوط حكومتي تونس ومصر، حشدت الولايات المتحدة واوروبا تركيا واتباعها من الانظمة العربية لشن ثورة مضادة، جندت لها كل وسائل الاعلام واموال النفط، من البحرين الى ليبيا والتصدي لايران، واجهاض ثورتي تونس ومصر، واخيرا لاسقاط سورية ودورها القومي التحرري، كمقدمة لاسقاط المقاومات في لبنان وفلسطين والعراق، ثم الانقضاض على ايران، وضمن مخطط عالمي في اطار تجديد الحرب الباردة. ويجري كل ذلك تحت شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان مجندة متساقطي اليسار المأزوم، وحطام المناضلين والمثقفين على الصعيد العربي، مسترشدين بمقولة صحافي بريطاني بأنه «لكل انسان ثمن، حتى ملكة بريطانيا»، واموال النفط كفيلة بدفع الاثمان.

لكن هذا الحلف الرجعي العربي ومن يقف خلفه ليسوا مثالا يحتذى للديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان ـ وخدام الحرمين الشريفين ومطاوعتهم ليسوا مثالا للعدالة والمساواة وحقوق الانسان، ومنها حقوق المرأة. و«درع الجزيرة» ليس «جيش» الأم تريزا في البحرين. وامير قطر المثقل باموال النفط العربي المنهوب ليس خليفة عنترة بن شداد، وسورية ليست البحرين، وليست ليبيا. ليست سورية وحدها عربيا واقليميا ودوليا، ليست مع الماضي، بل مع حركة التاريخ الى المستقبل. جيشها ليس من المرتزقة، ودعائمها القومية والوطنية ليست من قصب, وفهم الصراع الدائر حولها يتطلب الخروج من زواريب حماه وحمص القديمة والنظر اليه من افق عالمي واقليمي وبعد تاريخي. والا … فان طريق الخيانة معبدة بالنوايا الحسنة وبالغباء.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى