صفحات الرأي

سوريـــا؛ أزمة معقّدة، وعلمانيـة مُهّدَدة


عماد يوسف

عرفت سوريا خلال العقود الأخيرة نظاماً اجتماعياً علمانياً واضحاً. ولو أنَّ هذا النظام كان منقوصاً في المستوى السياسي المتعلّق بهرم الدولة ومؤسساتها الكبرى، ودائرة القرار المحيطة، إلاّ أن تجلّيات العَلمَنة التي شكلّت نموذجاً استثنائياً للتعايش في المنطقة، كانت من الوضوح بحيث أنها أُعتِبرَت مثالاً يُحتذى لدى الآخرين خارج سوريا.

لا شك أنَّ القيادة السابقة لسوريا (ماقبل العام 2000) قد عملت على انتهاج الكثير من التوازنات التي تتناقض مع الفكر العلماني لحزب البعث، فاشتغلت على إرضاء الجميع (طوائف، عشائر، أديان، إثنيات، قبائل، وجاهات مدن ومناطق، وغيرها) سعياً لإرضاء المجتمع الأهلي السوري المتنوّع للحفاظ على سدّة السلطة والحكم وضمان عدم خروج أيّ كلمة رافضة. وقد كان الرئيس الراحل حافظ الأسد (ماستر) حقيقي في إرضاء الجميع، وامتهان البهلوانية الحذقة جداً في سبيل الإبقاء على نظام حكمه. طبعاً ساهم عامل انتماء الرئيس حافظ الأسد إلى الطائفة الثانية في سوريا من حيث الحجم، ساهم في تعزيز هذا النهج “غير الرسمي” والذي تحوّل لاحقاً إلى عُرْف عامّ، بدأت تأخذ به قيادات حزب البعث المدنية، الوجه السياسي للسلطة. والقيادات الأمنية والعسكرية، التي تشكّل الحامي لهذا النظام والداعم له. حيث تحوّلت هذه الثقافة أو النهج، إلى أحد أهمّ أدوات النظام عزّز استمراريته الثابتة من خلالها، “ويمكن أن نسميّ هذا؛ (التوازن الأهلي) إذا صحّ التعبير”. وخاصة بعد شباط 1982 عندما حسم صراعه مع الإخوان المسلمين في مدينة حماة. وبدأت دفّة الحكم تنحو أكثر باتجاه شخصنة النظام وتقديس الفرد، وقولبة المؤسسات وخاصة الأمنية منها بقوالب فئوية دقيقة الإختيار لضمان الموالاة العمياء والمطلقة لنظام الحكم. وقد ترافق ذلك كلّه مع اطلاق يد المسؤولين لجني مكاسب المرحلة السابقة التي انتصروا فيها على الإخوان، فعاثوا فساداً في البلاد، في الكسب غير المشروع، والفساد، والبيروقراطية. وصولاً إلى المركزية المطلقة، وتحويل البلاد ومؤسساتها إلى ما يُشبه المزارع لهؤلاء القيّمين عليها..!

تعود ثقافة العلمانية في سوريا إلى عوامل كثيرة، يمكن فقط ذكر بعضها هنا بسبب ضيق المساحة، فقد كان لوقوف الشعب السوري وقفة واحدة ضدّ الإستعمار الفرنسي الأثر الكبير في إذابة الفوارق المذهبية والطائفية والدينية في سوريا، وكان صعود فارس الخوري(المسيحي الكاثوليكي) كرئيس للبرلمان عام 1949 أكبر دليل على تجاوز المجتمع السوري لتشابكاته الدينية وتعقيداتها، وتناقضاتها البنيوية التي كانت قد ذللّتها نزعات المدّ القومي والوطني التي حملتها المشاريع القومية (حزب البعث العربي الاشتراكي 7 نيسان 1946 نموذجاً)، وكذلك مشاريع اليسار الاشتراكي والمدّ الشيوعي بعيد الثورة البلشفية في روسيا 1917 (الحزب الشيوعي السوري بزعامة خالد بكداش الكردي عام 1926)، ومفاهيم الديمقراطية والحرّيات التي حمل بعضاً منها الاستعمار الأوروبي في العالم العربي. يمكن أيضاً إضافة عامل التنوّع السوري مع عوامل أخرى، وقناعة السوريين أنفسهم بضرورات تحقيق شروط العيش المشترك بعد أن فقدوا جزءاً كبيراً من سوريا الكبرى (فلسطين ولبنان والأردن) ما جعلهم أكثر تماسكاً وتعاضداً في التصدّي لأي محاولات جديدة لشرذمة ما تبقى من سوريا، وهذا أحد الأسباب الرئيسية التي أفشلت محاولة فرنسا تقسيم سوريا عام 1926 وانتهت في عام 1936. مجمل هذه العوامل زرعَت في العقل الجمعي السوري(الباطني) خوفاً شديداً على البلاد، وخاصة لدى السياسيين، وفي لقاء مع الشيخ صالح العلي أحد قادة الثورة السورية، يعكس هذا الرأي بشكل قاطع، عندما سئُل عن نسبة السنّة في سوريا، فأجاب بأنها كلّها سنّة. وحين سئُلَ وأين العلويون إذاً؟! قال بالحرف: ” عندما يُستهدف السنّة في سوريا، تصبح سوريا كلّها سنة”*..!

في معرض البحث عن مظلّة شاملة، وهوية جامعة تؤسس لانتماء أعرض من الانتماء الأهلي والديني الضيّق، نرصدُ في تلك الحقبة اقبالاً كبيراً عند الأقلّيات الإسلامية والمسيحية، والإثنية للانضواء في أحزاب يسارية قومية واشتراكية تكون عابرة للانتماءات ماقبل الوطنية. وهذا كان أيضاً من العوامل التي حرثت الأرض لجذور الثقافة العلمانية السورية في أحد جوانبها المعرفية الذي يتجلّى بقبول الآخر كما هو، والتعايش معه كما يكون، لا كما نريده نحن. وبدأ شيئا فشيئاً يذوب الفارق بين أقلّية وأكثرية، وبين مذهب وآخر، وقومية وأخرى. وصولاً إلى 8 آذار عام 1963 حيث استولى حزب البعث على السلطة. يمكن هنا ملاحظة أربع حقبات رئيسية، من عام 1963 وحتى حركة 23 شباط في عام 1966 . ومن 1966 إلى عام 1970 سنة استلام الفريق حافظ الأسد السلطة. ومن 1970 إلى عام 1982 تاريخ انتصار النظام البعثي في حربه على الإخوان الملسمين. يمكن القول بأن الحقبات الثلاث الأولى، كانت سوريا تسير بحسب احداثيات المنطلقات النظرية لحزب البعث قولاً، ونهجاً، وتطبيقاُ. في عام 1985 عُقِد مؤتمر لحزب البعث، وكان الأخير الذي عُقد في عهد حافظ الأسد حتى وفاته في العام 2000. أمّا الحقبة الرابعة والتي تمتد من عام 1982 وحتى العام 2000 فهي الحقبة الأخطر والتي تخللتها الإنزلاقات الفكرية في النهج والتطبيق، حيث غاب الفكر الإيديولوجي الحزبي نهائياً عن الساحة بعد أن تمَّ استبداله بالعصا الأمنية لمن عصا، والجزرة لمن والى وصفّق، ودخلت سوريا في حالة ستاتيكية خطيرة جداً، كان من أهم سماتها :

1-                   تعزيز سيطرة النظام وقوته على الدولة والمجتمع.

2-                   فتح الباب أمام الإمتيازات والمكتسبات غير المشروعة لرجال الموالاة والسلطة.

3-                   العمل بقوة على عسكرة المجتمع بما فيها الجامعات من خلال نظام التدريب الجامعي.

4-                   التخلّي شيئاً فشيئاً عن رفاق الدرب في المراحل السابقة “السياسيين منهم والعسكريين” من غير المضمونة ولاءاتهم المطلقة.

5-                   كبح الحياة السياسية في المجتمع وخنقها وصولاً إلا إلغائها بالمطلق.

6- شخصنة النظام وإظهاره بهالة من القدسية في شخص الزعيم المفدّى والذي تدور في فلكه الدولة برمّتها. بالإضافة إلى نتائج كارثية كثيرة في التصحير الثقافي والفكري والركود الاقتصادي والانغلاق الاجتماعي بسبب الأحداث التي شهدتها سوريا من حرب الإخوان والسلطة. وعوامل أخرى جانبية جعلت من سوريا تشهد بدايات العدّ الخلفي، أو كالقطار الذي يُسافر بعكس الاتجاه، فتتحول إلى دولة يبقى فيها رئيس وزرائها محمود الزعبي مدة 15 عاماً متواصلة دون تغيير ..

كان مستهجناً جداً لدى السوريين أن يُسأل شخص ما عن طائفته، أو دينه، أو حتى قوميته. وكنا نتقاجأ في حالات كثيرة بمدير مدرسة كردي، أو آشوري أو كلداني. ولا نعلم عن دينه شيء. أمّا في الجامعات فكان السوريون يدرسون سنوات طويلة دون أن يعرفوا ما دين زميلهم في الغرفة نفسها أو مذهبه، أو أستاذهم الجامعي، أو رئيس الجامعة. أو حتى دين وزير التعليم الذي يتبعونه أو مذهبه أو قوميته. وفي المدن والمناطق نادراً ما كنا نسأل عن دين المحافظ أو رئيس المنطقة أو مذاهبهم. وفي ملايين الأبنية في جميع المدن السورية، يسكن عائلات من جميع الانتماءات الدينية والقومية والتي تتشابك وتتعايش كأبناء العائلة الواحدة. كذلك هناك قرى كاملة وعلى امتداد مساحة الأراضي السورية، نرى فيها هذا النموذج للتعايش حيث يكون قاطنوها من قوميات وأديان، بل وحتى طوائف مختلفة ومتنوعة. كان السوريون بعيدين جداً عن البركان المذهبي الذي يوشك أن يُذيب المنطقة بحممه ونيرانه، وذلك حتى وقت قريب جداً قبل الحراك الذي بدأ فيها في 15 آذار 2011.

ساهمت الأحداث الأخيرة( الثورة السورية) بما انضوى تحت جناحيها من تيارات سلفية ووهابية وإخوانية، وبما مارسته السلطة من طرق خاطئة جداً، وغير مدروس يغلب عليه طابع الحماقة والعماء، ساهم الطرفان في الهاب المشاعر المذهبية والطائفية والدينية في المجتمع السوري. والذي كان على ما يبدو مهيئاً لهذا اللهيب، يعود ذلك إلى التجارب المحيطة به في العراق ولبنان، والمدّ الشيعي الكبير في المنطقة بموازاة مشروع وهابي سلفي يجتاحان العقل العربي الذي فرّغته الحكومات من مضامينه خدمة لاستمراريتها في السلطة، إذا لا يستوي بحال من الأحوال الاستبداد والتنوير. بل الجهل والاستبداد هما صنوان لا ينفصلان..!

تخوض سوريا اليوم (معارضة، ونظاما، وشعبا) حرباً داخلية ضروسا تُهدّد وجودها كدولة، وتهدد مجتمعها بشرياً وإنسانياً واقتصادياً، ومن أكثر ما تهدد في هذا المجتمع هو فقدان نموذج العلمانية الجميل الذي كان سائداً في سوريا خلال عشرات السنين التي مضت. فالاصطفافات المذهبية والدينية والطائفية قد بلغت ذروتها، وأضحى الحديث في انتماء هذا أو ذاك من البديهي جداً في الأحاديث العامة والخاصة. وباتت شريحة كبيرة من السوريين تنظر إلى الآخر نظرة اقصائية قمعية، ويغالون في بعض الحالات لتصل حد القتل، والتصفية الجسدية. وهذه ثقافة دخيلة على سوريا ومجتمعها. ولم تكن أبداً حاضرة فيه. رغم بعض الحوادث والأحداث التاريخية التي حصلت هنا وهناك، إلاّ أنها لم تتحوّل يوماً إلى ثقافة عامة شاملة. وبقيت في حدودها الضيّقة والمضبوطة ذاتياً.

يمكن إرجاع أسباب هذه الصراعات المذهبية والطائفية في المنطقة إلى عوامل عديدة، نذكر منها هنا:

1-                   المشروع الوهابي الأصيل الذي يسيطر في منطقة الخليج على الدولة والمجتمع.

2- الثورة الإيرانية التي اندلعت في عام 1979 وأطاحت بنظام الشاه وبنت ما يُشبه الإمبراطورية المذهبية الشيعية الإثني عشرية ” بحسب دستور البلاد”.

3-                   وجود إسرائيل كدولة دينية متطرّفة مما انتج في المقابل تطرفاً آخر لتحقيق التوازن السيكولوجي في أذهان الناس وعقولها.

4-                   سقوط بغداد وتسعير الحرب المذهبية فيه بين سنته وشيعته بتغذية ودعم من عوامل خارجية كثيرة بينها أمريكا وإيران والسعودية وسوريا.

5-                   الحرب الأهلية اللبنانية وثقافتها التي عمّت المنطقة مع تطور وسائل الإعلام الجماهيرية الواسعة التي أصبحت في كل بيت وفي متناول كل طفل وهرم وشيخ وعجوز.

6-                   غياب الفكر التنويري العربي واحباط المشاريع القومية والوطنية وعجزها عن مواجهة المدّ الديني الأصولي منه وهو الأكثر خطورة.

7-                   غياب اليسار العالمي والفكر اليساري وصعود اليمين العالمي المتطرّف وخاصة في امريكا وبريطانيا والذي يعوّل كثيراً على الدين (الإنجيليون الجدد في أمريكا، جورج بوش الإبن نموذجاً)

8- وهو الأهمّ؛ غياب التنمية والتنمية المستدامة وانضمام جيوش عريضة من العاطلين عن العمل سنوياً إلى سوق العمل العربي مما أوجد بيئات حاضنة وحاملاً اجتماعياً هيّأ لنموّ هذه المشاريع بسبب الفقر والعوز ونقص الخدمات وغياب الدولة كمفهوم ومضمون، والفساد والنهب الممنهجين، وتهميش الطبقات الأكثر فقراً وغيابها عن التأثير في المجتمع. مما جعلها فريسة التجنيد للضخّ الديني الذي تمّوله عدّة دول في المنطقة.

هذه الظواهر الخطيرة التي تضرب العالم العربي، وسوريا منه، يستوجب التوّقف طويلاً للتأمل بأسبابه ودواعيه ونتائجه الكارثية. ولأنَّ سوريا هي بلد من الأهمية بمكان بسبب طاقاتها الفكرية والثقافية الكبيرة، فإننا نحاول هنا الإبقاء على إرثٍ تاريخي عريق يمكن أن يشكّل لبِنة قوية لإعادة إنتاج مشروع النهضة العربي الذي خاب واندثر منذ أربعينات القرن الماضي. واليوم نحن أمام تحدّيات هائلة، نبارك من خلالها التحوّلات الديمقراطية التي حملها غبار الطلع في الربيع العربي، ولكنّ السؤال الأهمّ هو : هل يجب علينا أن ندمّر هنا لنبنيِ هناك؟ أم أنها معادلة حتمية، تذهب بشياطين السياسة لتأتِي بديناصورات الدين المنقرضة؟!

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى