سوريو عصر “التمز”/ عمر قدور
في بداية الثورة، كانت الإشاعات قد نقلت عن شقيق “الرئيس” السوري، أو عنه شخصياً توعُده بإعادة سوريا إلى ما كانت عليه قبل انقلاب الأسد الأب. الإنذار كان يتضمن أيضاً إعادة عدد السكان إلى ما كان عليه في عام 1970. والحق أن مؤيدي النظام وشبيحته كانوا يؤكدون تلك الإشاعات بأقوالهم وأفعالهم، فيتوعدون المناطق المحررة باقتحامها وتسويتها بالأرض، ومن ثم حرث الأخيرة وزراعتها بالبطاطا، من دون أن يدري المتلقي سبب اختيار البطاطا تحديداً وأسباب ذلك الولع التشبيحي بها.
وبالطبع كان المؤيدون يحسنون الظن بقيادتهم إلى أقصى حد، فالقتلى والدمار ليسوا في طرفهم، والحصار غير مضروب حولهم، ونقص الخدمات أو انعدامها أمر يقتصر على المناطق الثائرة. إذاً، كان كل شيء يسير على ما يرام، وكانت مناطق المعارضة ترجع في الزمن، حتى العودة إلى ما قبل عام 1970، قد أضحى ذلك الكلام عنها دعابة خفيفة، لأن ما حل بها أرجعها إلى أبعد من ذلك بكثير. في الوقت نفسه، كان إعلام النظام يواظب على تصوير الحياة الاعتيادية في مناطق موالاته، حيث أماكن السهر والسمر حافلة بالحضور، وحيث الموائد والأفراح عامرة، أما أحزان قتلاه فلا مكان لها على شاشاته. بل بلغت الوقاحة بالنظام ومؤيديه أن يعتزوا بالحياة الاعتيادية لأحياء موالية بالقرب تماماً من أحياء تم تدميرها نهائياً، وبلغت الوقاحة الفكرية أوجها بالحديث عن المعارضين على أنهم “عُربان” متخلفون قياساً إلى فينيقية الموالاة. وحيث أن هؤلاء العربان متخلفون بطبعهم فهم يستحقون إعادتهم إلى ما قبل الحضارة.
حينها، كان قلائل من الموالين “الفينيقيين” يعرفون ما هو “التمز”، ربما سمع به البعض من الأجداد، وربما بهذا يلتقون مع سوريين “عربان” سمعوا به أيضاً من أجدادهم. التمز، والبعض يسميه العرجوم، يتكون من الفضلات الناتجة عن عصر الزيتون، ومن ثم تجميعها وتجفيفها وتشكيلها في قوالب قابلة للاشتعال. ويمكن الحصول على معلومات أوفى من صفحات موالية للنظام راحت مؤخراً تطنب في منافع التمز وصداقته العريقة للبيئة. فهو بديل عن الحطب ويحافظ على الغابات، وهو أيضاً يتميز بأناقة اشتعاله وبالغازات التي تتفكك تلقائياً فلا تضر بالغلاف الجوي، وفوق ذلك مفيد للعلاقات الاجتماعية لأن العائلة ستضطر إلى التحلق حول موقده. ولأجل تعزيز أهمية الاعتماد عليه في التدفئة تتحدث الصفحات الموالية عن أزمة طاقة عالمية، هكذا في ظل انخفاض أسعار النفط عالمياً، وبالتأكيد لا أدنى إشارة فيها إلى سيطرة داعش على حقول النفط، أو إلى تخلي أصدقاء النظام الروس والإيرانيون عن تزويده بالنفط كما كان يحصل في الفترة الأولى من الثورة.
يُحكى أن حافظ الأسد أغرم جداً بنموذج كوريا الشمالية عندما زارها عام 1974، فنموذج أولئك الأطفال المنضبطين الذين يؤلهون القائد هو ما كان يريد رؤيته لدى عموم السوريين. البدء بالأطفال كان يهدف إلى تربية أجيال متتالية تقدّس كل ما يصدر عن الرئيس الإله، لكن أهم ما في النموذج الكوري الشمالي عزلته التامة عن العالم، وبحيث يقتنع البشر بأن ما يجري لهم هو الأفضل كلما ازداد منسوب تخلفهم. نجاح ما فعله حافظ الأسد ظهر جلياً منذ انطلاق الثورة في بيئة مؤيديه، وهذه المرة لا بسبب عدم المعرفة أو العزلة الإجبارية على غرار النموذج الكوري، بل بسبب العزلة الاختيارية التي يريدها المؤيد لنفسه. ففي هذه العزلة وحدها يرى المؤيد نفسه منتصراً، ومن خلالها يرى خسائره مقبولة مهما بلغ عدد القتلى، ومن خلالها يرى حياته سعيدة وهو يتحلق حول موقد التمز، بل يرى نفسه متفوقاً وصديقاً للبيئة قياساً إلى عالم متوحش ليس صديقاً لها، ويعاني فوق ذلك من أزمة طاقة عالمية.
لا يهم وفق ما سبق أن يعمد النظام مؤخراً إلى رفع أسعار عدد من السلع الأساسية والمحروقات، ولا يهم أن هذه الأسعار ارتفعت نحو خمسة أضعاف منذ بداية الثورة، ولا يهم أيضاً أن يقرر رئيس النظام زيادة أجور الموظفين “لتعويض” زيادة الأسعار بمبلغ يساوي 19 دولاراً فقط، فهذا المبلغ التافه يصبح مكرمة أو منحة رئاسية كما اعتاد خلال عقود. المؤيد محام جيد عن كل ما يفعله النظام، وصولاً إلى المنافحة عن معاناته الشخصية في ظله، أما محامو نقابة النظام فلا يتورعون عن الدفاع عنه بكل ما أوتوا من عضلات، لذا لم يكن شاذاً اعتداؤهم بالضرب على المحامي اللبناني فادي سعد في مؤتمر المحامين العرب، لأنه أشار في كلمته إلى إرهاب النظام.
محامو عصر التمز، شأنهم شأن فينيقيي عصر التمز، لا يتورعون عن ارتكاب شيء فداء لمحبوبهم. هم ليسوا أغبياء أو حمقى كما قد نظن، فعندما اكتشفوا مضار التدفئة بالنفط أقلعوا عنه طواعية، وغداً إذا اكتشفوا مضار التمز وأنه لم يكن وفياً للبيئة حقاً فسيقلعون عنه، وقد يكتشفون قريباً أنهم زاهدون أصلاً بالعديد من وسائل العيش المعاصر فيتخلون عنها. ذلك لا يجعلهم شبيهين بسوريين آخرين تحت الحصار أو في مخيمات النزوح، لأن الأخيرين عادوا إلى ما يجب أن يكونوا عليه، أما هم فضحّوا بمكتسباتهم عن طيب خاطر.
المدن