سوريّة: أرقام بلا قلب/ علي جازو
الحجّة القائمة على أساس إحصائي فقط تكاد تكون حجّة لا يمكن دحضها. إنها شيء شبيه بنظرية حاسمة في الرياضيات، وهي لذلك تملك من قوة التجريد ما تخسره من حساسية المسؤولية.
في أيامنا هذه، يولي الباحثون الجدد الرقمَ والإحصاء قيمة أساسية، وعلى هذا النحو غدا ربطُ المعرفة بالرقم وإحصائه علامة على قوة تخطيط الدول ودرء الأخطار المستقبلية، وهو في الآن ذاته حجة وبرهان ودليل لمن يقف في وجه الحقيقة أو يدّعي نكرانها.
من ليس لديه إحصاء وافٍ لا يمكنه الوفاء بوعودٍ تبقى رجماً بالغيب، فالإحصاء علامة أساسية تُبنى عليها صدقية المعرفة، والأخيرة الخطوة الأولى نحو أي عمل مجدٍ. على رقمٍ ما يمكن لقرار أن يتخذ، ولموقف أن يتبدل. لكن دلالة الرقم وحدهها، إحصاءً جامداً، تكاد تحتكر كل شيء، لتسبغ على «المعدود» صفة كميّة، تخفي تعدداً مجتمعياً وشخصيات فردية هي مجمل أفراد قائمين بذواتهم، قبل أن يجري إقحامهم في إحصاء بارد.
على أساس إحصاءاتٍ معتمَدة يتخذ العلماء، كما يتخذ أصحاب القرار والمسؤولون السياسيون، مواقف محددة. يبدو الخلاف على الرقم، بعد أن تحوّل إلى قانونٍ مادي حاكمٍ، والجهات التي يمكنها رصده ولديها موثوقية، خلافاً على الهيمنة من جهة، وعلى إبداء المعرفة – الحقيقة من عدمها من جهة مقابلة. لكن المعرفة التي تستند إلى الرقم وحده، تبدو مقبلة من مخابر أبحاث بلا قلب، إذ تحوّل الفقر إلى محض إعلان عن الفقر.
يشكل الرقم أساساً للاستجابة أو الرفض، للتوافق أو التنازع. وغالباً ما جرى لومُ مؤسسات عربية، سواء كانت رسمية أم غير رسمية، لعدم إيلائها خطورة الرقم شأناً.
غير أن مأساة الشعب السوري، مثالاً يُلمس لمْسَ اليد، تكاد تتحول إلى سجل إحصائي لا غير، وما يزيد من الشعور بالإحباط أن كل هذه الأرقام المعلنة هنا وهناك عمّا حلّ بالسوريين لم يخفف عنهم هول ما لقوه نتيجة سلوك نظام الأسد البربري. لوم ٌ كثير يلقيه الضحايا على الأمم المتحدة، ذلك أن مسؤوليتها القانونية والإنسانية تحوّلت إلى فضيحة بسبب عجزها عن وقف آلة الدمار الهمجية التي أتت على مدن وبلدات سوريّة. والحال إننا أمام مؤسسة تكاد تتحول إلى جهة تراقب أعداد الضحايا وتقيس ميزان الرقم من دون أن تحوّل الإحصاء إلى أساس فاعل لمنع إضافة ضحايا جدد إلى ضحايا سابقين. لقد فضحت الثورة السورية دولاً وشعوباً بأكملها، وبيّنت أن منظمات حقوقية وإغاثية عدة تحولت عبئاً على السوريين في الوقت الذي كان يفترض بها أن تقدم لهم العون والمساعدة. ولربما تحول الرقم والإحصاء إلى حجة تختبئ خلفها هذه المنظمات والجمعيات كي تخفي عجزها وفشلها، إن لم نقل نهمها الشحّاذ إلى المزيد. والحال إن الأمم المتحدة مثلاً تتحول إلى مؤسسة للحفاظ على علاقاتٍ يتبادل فيها حكام العالم الأقوياء أدوار التزييف والتضليل. والأساس الذي يعتمدون عليه في هذا الشأن ينصب في مجمله إلى تحويل السوريين إلى محض أرقام. مثل هذا السلوك اتخذه النظام السوري إزاء محكوميه معتقلي الرأي قبل الثورة وناشطيها السلميين أثناء الثورة، إذ يختفي اسمُ المفقود أو المعتقل ويأتي مكانه رقمٌ لا غير! وهنا يكاد يتماثل عمل النظام الأمني القمعي مع عمل مناوئيه القانوني التحرّري، فكلاهما يحوّل الضحايا إلى أرقام.
عشرات آلاف المعتقلين تحولوا إلى أرقام. الرقم قناع يخفي العار ويخفي الجريمة المستمرة، وهو حجاب بلا رحمة، إنه مكان للعمى الكلي، وفي الآن ذاته لنقل العمى إلى الضمير العالمي.
هكذا قد تبدو الحقيقة عاجزة مشلولة، ذلك أنها في استنادها إلى الضعف بعدما تحوّل إلى رقم، لا تقدم غير الحجة الأخيرة على سقوطها.
* كاتب سوري
الحياة