سوريّة المُفيدة/ د. مازن أكثم سليمان
(1)
انشقَقْتُ عَنِ سَرمديَّةِ الخوف
وهذهِ هُوِيَّتي…
(2)
الجُغرافيا هيكلٌ عظميٌّ يتغذّى من طبقاتِ اللَّحمِ التي تكسوهُ، كي ينمو.
… النُّموُّ تطوُّرٌ؛ والتَّطوُّرُ ليسَ تقدُّماً أو تقهقُراً: التَّطوُّرُ حركةٌ بلا اتّجاهٍ مُسَبَّق، وكُلُّ حركةٍ جَمال…
(3)
على السَّلالِمِ الفضِّيّة لغُيومِ فصْلٍ غريب،
ترتسِمُ الحُدودُ بأنامِلِ أميراتٍ يُدافعْنَ عَنِ القُبَلِ بحَرْقِ السَّتائرِ الحريريّة.
حتّى آخِرِ نفَسٍ في الأغنيةِ تستمرُّ البراعِمُ بتوريث الحيِّز لأزهارِها.
أستقبِلُ الغَدَ من دون وهمِ الإلهام،
السّاعاتُ المُرتَّبةُ كالغسيلِ على رُفوف الوقت تذبلُ إنْ وضَعْنا لها خُططاً مَضبوطةً للارتداء،
وعلى المدنِ التي يتمرَّدُ فيها الزمنُ
أنْ تستحمَّ عاريةً بلا وجَل.
(4)
الجُغرافيا حُفرةٌ مائيّة تتمرَّغُ فيها فِيَلةُ التّاريخ، والتّاريخُ ضميرٌ أعمَى ينتقِمُ بلا مُسوِّغات حتّى من نفسِهِ أحياناً..
الانتقامُ الحَسَنُ هوَ أنْ يُغْرَسَ الخنجَرُ البوهيميُّ في ظَهْرِ الأيديولوجيا، كي يسيلَ ذلكَ النَّوع الكثيفُ من القيْح، وتُترَكَ قطعانُ حيوانات اليقين تموتُ ببطءٍ ساديٍّ، وبلا ندَمٍ.
(5)
في سوريّة المُفيدة تُودَعُ مَحاصيلُ الحياةِ كأسرارٍ خطيرةٍ في آذان قصَبِ السُّكَّرِ الحزين: ماتَتْ وردةٌ أُخرى تحتَ التَّعذيب، وكانَتِ الغابةُ قد دفعَتْ ملايينَ اللّيراتِ رُشَىً كي تعرفَ خبَراً واحِداً عنها..
… وحدهُ العطرُ المُتبقِّي يفهَمُ دلالات تلكَ النَّسائِمِ المُترنِّحة بينَ أصابِعِ تلويحاتِ الوداع.
(6)
قد تكونُ سوريّة المُفيدة المَنامُ الذي تُمزِّقُهُ الطَّعناتُ الشَّرِهة، لكنَّهُ يتكرَّرُ كُلَّ يومٍ مُحمَّلاً بالحِرْصِ الطُّفوليِّ على ملابسِ العيد.. مَنذوراً للتَّندُّرِ السّاخِرِ والشَّكِّ الواثِقِ إلى أقصى كثافاتِ النَّظافة والعبَثِ بالأقفال والتَّجاوُزِ العسَليّ..
قد تكونُ سوريّة المُفيدة (الشِّيك) في جَيْبِ فزّاعةٍ تُلقي خِطاباً، أو العِملةُ الصَّعبةُ التي لا يُصرَفُ إلّا بها ذلكَ الغُبارُ المُتطايِرُ في عشوائيّات الحنين..
قد تكونُ سوريّة المُفيدة الأوكسجينَ الخارِجَ من زنزانةِ بالونٍ مُنفجِر، والعائِدَ إلى مدىً بلا نهاية..
(7)
لنْ يستدرِجَني الصَّمْتُ المَديدُ لعُقودٍ
إلى أُغواءِ كلمةٍ واحِدة لا تُشبِهُ عاصِفة.
ينبغي حتماً أنْ تطيرَ ضاحيةُ الأسلاكِ الشّائِكة
وتترُكَ جُذورَها الصَّدِئة تتحلَّلُ مَنبوذةً كالمَحكومينَ بالمُؤبَّدِ في تُرابٍ نفَضَتْهُ مَزروعاتُهُ عن أجسادِها، وهربَتْ . .
(8)
سأُدلِّلُ المَفاهيمَ كأبٍ لهُ ولَدٌ وحيد.
سأصنَعُ للتَّعريفاتِ عجَلاتٍ أسرَع من البرق وهوَ يعزفُ على الشُّرفات وعودَهُ الصّاخِبة.
ولنْ أبخَلَ على الدَّلالاتِ بأراجيحَ أو قفزاتِ أرانب فرِحَة في حقلِ خسٍّ لا يُنازِعُها عليهِ أحد.
هكذا: سأُؤسِّسُ سوريّة المُفيدة، ومن سيسألُني عن الفرق بينَ الوقائعيّ والمُتخيَّل، سأحرقُ لهُ مَجازاتي كامِلةً كي يتدفَّأَ بأوراقِها في أوَّلِ شتاءٍ قادِم.
(9)
سوريّة المُفيدة تتعيَّنُ في القلَقِ حينما يُجفِّفُ المُستنقعَ الآسِنَ كشمسِ تمّوز.
الضّارُّ والضّروريُّ والضّارِيُ أولادُ عُمومةِ الأسئلةِ التي تكشفُ ولا تُفضي إلى أجوِبة.
لا غاية للمَعنى إلّا أنْ يكتفيَ بذاتِهِ، والأوطانُ من فصيلتِهِ الأصليّة.
(10)
الصِّراعُ يُطهِّرُ..
ينفثُ المَحمودَ والمَذمومَ في كُلِّ شيء.
المَرئيُّ لصيقةُ تجسُّسٍ على غيرِ المَرئيِّ: وما يُخطِّطُ لهُ السّاسةُ، تغدرُ بِهِ الذَّواتُ التي لم يحسب حسابَها أحد.
في الهامِشِ مركزٌ أيضاً يتفكَّكُ تفكُّكَ الصّوفيِّ في رقصةٍ حُرّة.
(11)
تقسيمُ المُقسَّم لُعبةٌ مُملّة لمَنْ لا يشربُ إلّا من رأسِ اليُنبوع.
الكُلِّيُّ لسانٌ مَمدودٌ يهزَأُ من ثقةِ الرّاهِنِ المُتحوِّل وثرثراتِهِ.
الكُلِّيُّ حركةُ تكرارٍ تتبادَلُ فيها الجهاتُ مَواقِعَها، فلا يكتمِلُ الاختلافُ، ولا ينضب.
(12)
ما يجمَعُ بينَ سوريّة المُفيدة وسوريّة المُؤذية أنَّهُما ليستا قطبَيْ ثُنائيّة؛ إنَّما فَجوة جدَليّة للانبثاق السّاحِر الأليم.
فليحدث ما ينبغي أنْ يحدث، وأنا سأتابِعُ تغزُّلي بعينيْكِ حتّى مَطلع الفجر: هذهِ ليسَتْ يوتوبيا يا حبيبتي، فأنا لم أعملْ يوماً مُرمِّمَ مُستحيلاتٍ..
هذا هُبوطُ الغَيبوبةِ من عُلِّيّة الغيبِ لتصحوَ مَفاتِنُ العُدوانيّة، ثُمَّ تخمد.
يا حبيبتي: كُلُّ مَجهولٍ عدوٌّ خلّاق.
(13)
أيُّها الجُنونُ الوبائيُّ المَعصومُ عن الخَير والشرّ: هل لي في المَسافاتِ الافتراضيّة المَفتوحة بلا سُلطاتِ تَحَكُّمٍ قَبْلِيّة بعضُ هفوات الاقتراب..؟!!
الهَواجِسُ المَريرة تحتالُ دائماً على أحلامِ الضَّوءِ بشمعةٍ قنوعة، والتَّجريبُ دواءُ السَّراب.
لا آخِرَ للأقدارِ في أقدامٍ مُتوثِّبة كالرّيح.
(14)
كُلّ تعريفٍ تواصُلِيٍّ للأوطانِ زائِفٌ: الوجودُ وحدهُ يُحرِّرُ اللُّغةَ من تدوينِها على الجُدران الكهلةِ، أو على الآرماتِ التي أكَلَ حوافَّها العثُّ..
التَّحنيطُ يأسٌ باذِخٌ، وعدمُ مَعرفةِ قَبرِ الميتِ أمَلٌ يُخلخِلُ كُلَّ لحظةٍ، وينزاحُ حامِلاً على قُرونِ بلاغتِهِ الشاذّة ما يَخلقُ ويُولِّدُ في عُمْقِ التَّراجيديّ..
(15)
القطيعةُ تواصُلٌ مَقلوبٌ: رغبةٌ خرقاء لمَنْ لم يكابِد التباسات الله الكُبرى، ولم يتعلَّم كيفَ يحيا في مَفازاتِ الزيَغان المُنهِك..
(16)
سوريّة المُفيدة طوعُ بنانِ المُوارَبة.
تدرَّبْ أيُّها الغريبُ على تفريغِ الحدائِقِ مِن عُشّاقٍ التزموا بالخطِّ المُستقيم لدربٍ أجوَف.
تدرَّبْ على الالتزامِ بالنِّسيانِ الأصيلِ كخيانةٍ خالِدةٍ تحوزُ وطَناً.
بناءُ الأوطان يبدَأُ بوقاحةِ حَرْقِ الفضَلات الصَّوتيّة المُتكدِّسة على امتداد العُصور.
(17)
لا جَدوى من هذيانِ امتلاكِ التّاريخ، فلا حقيبة تتَّسِعُ لتثاؤباتِهِ المَرِحة.
هوَ حيوانٌ قَصِيٌّ يفترِسُ ظِلالَهُ المُتجدِّدةَ كُلَّما جاعَ في بَراريهِ الشّاسِعةِ المُباغِتة: على هذا النَّحْوِ أُعرِّفُ سوريّة المُفيدة، وهذهِ هُوِيَّتي…
(18)
الانشطارُ فنُّ المُغامِرِ، والمُصافَحاتُ الحُرَّةُ الهدَفُ النِّهائيُّ لقنّاصِ الجَمالِ في مِحْنَةِ سوريّة المُفيدة.
شاعر وناقد سوري