صفحات المستقبل

سوريٌّ في عهدة.. لا نعرف من؟!/ زينب ترحيني

إنها المنارة. الكورنيش البحري كما كل يوم. ناس ورياضيون وهواة وعشّاق وعائلات بأكملها مع نراجيل وأكياس بزر هائلة. في لحظة، انكسر صمت ليل الاثنين الماضي.

إنها التاسعة والربع تقريباً.

صوت عال لم يُعرف إلاّ مصدره. هل كان صوت ذكر أم أنثى؟ “يا بيييي” عميقة خرجت إلى مسامع المارّة. في لحظة تغيّر كل شيء على الكورنيش.

سريعاً، قطع كثيرون الطريق في سبيل الوصول إلى مصدر الحركة الغريبة. إنّه الخطّ الثاني، المقابل للكورنيش البحري. كلّ شيء جرى في العلن، لكنّ أحداً لم يجرؤ على الاقتراب.

إنّه إشكالٌ. لا، حادث سير. تضارب فجائي بين شباب. شاب سكران يُحدث ضجة.. وهكذا سالت التحليلات.

الأمر الوحيد الواضح كان التالي:

أربعة شبان في سيارة فضيّة توقفت إلى جانب الطريق سريعاً، يحاولون إقحام شاب سوري في المقعد الخلفيّ.

تناتشوا الشاب. شدّوا به، ضربوه بقوّة، ولم يُفلحوا. الشاب السوري بكنزته الزهريّة اللون تمسّك بالعمود وراح يصرخ: “يا ناس ساعدوني”. لم يقترب أحد. أفلتوه من العمود. عاد ليتمسّك برجل كان بدا أن لا علاقة له بالشبان. أمسك كنزة الرجل بأسنانه. لم يقترح أحد المساعدة، ولا التبرّع لفهم القصّة، حتى الآن. دقائق ويتدخّل شابان سوريان للاستفسار. يُطردان. يصرخ بهما أحد المهاجمين الأربعة بأنهم “دولة”.

دقائق وينجحون بإدخال الشاب إلى السيارة. سقط على المقعد الخلفيّ وصوت أنينه ما زال صادحاً في الجوّ. توقفت سيارات قليلة بالقرب منهم، من دون أي ردّة فعل. لا نيّة لأحد بعرقلة السير. يدور محرّك السيارة، بعد تثبيت الشاب بين رجلين في الخلف. صرخ كثيراً، فاتحاً يديه على وسعهما: “وين النخوة يا شباب، وين الشرف يا شباب… ولك ساعدوني!”.

نظر الواقفون في الوسط، ما بين الكورنيش والخطّ الثاني حيث الحادثة، من دون أي حركة. فقط، عيون وأفواه مفتوحة. لم يقترب إلاّ شاب واحد. تقدّم وعاد إلى الخلف. طارت السيارة الفضيّة ومعها الشاب السوري. ثلاثة شباب سوريون ظلّوا واقفين في أرضهم، غير ناطقين. نجح البعض من تسجيل رقم السيارة.

حاولت دراجة نارية اللحاق بالسيارة ولم تُفلح.

اختفت السيارة في البعيد. لا فكرة لأحد عمّا حصل ولا عن هوية المجموعة، أو عمّا “اقترفه” الشاب السوريّ وأسباب ندائه واستغاثته المترافقة مع أنين مرتفع.

الشباب السوريون الثلاثة عادوا إلى الكورنيش برؤوس تهتزّ يميناً ويساراً. تجمّع بعض الناس حولهم. يريدون فهم القصّة. لا شيء يدلون به. ربما كان الشاب ثملاً. على الأرجح أخطأ معهم بالكلام. كانوا يسيرون خلفه. فجأة حصل تلاسن بينه وبين الشباب في السيارة، وجرى ما جرى. هذا على ذمّة الرواة السوريين. كانوا خائفين، لا يعرفون ما يقولون.

انتهت القصّة.

لحظات وحطّت سيارة رباعية الدفع “مفيّمة” من جهة الكورنيش البحري. شابان فتحا النافذة وندها للسوريين. طلبا منهم معرفة بعض التفاصيل ثم غابا.

في المحيط بقي بضعة شبان، بدا أن من بينهم رجال أمن. أجروا الكثير من الاتصالات للتأكّد عمّا إذا كان الفاعلون فعلاً من جهة أمنية رسمية. لا جواب. لكن أحدهم سرد التالي: مع اقترابه من الحادثة لفهم ما يجري، أشهر أحدهم في وجهه ما ادّعى أنها بطاقة أمنية. فلذلك ابتعد.

لكنّ الحيرة ظلت بادية. عشر دقائق ومرّت دورية درك مسرعة في المكان. لم يُفهم شيء. ضحك الشاب السوري مع ابتعاد رجال الأمن (المدنيين) من قربه. أخبر شاباً إلى جانبه أنه يعرف “هويتهم”: “ولو، ما شي مخفي. كلّه بالعلن”.

ابتسم وغادر مع رفيقيه. طُلب منهم أخذ الحيطة، فكان ردّهم بأنّ الحامي هو الله.

حسناً، هذا ما جرى قبل يومين بالقرب من المنارة.

نكرر: سيارة فضية بأربعة شبان مدنيين وضعوا شاباً سورياً في سيارتهم بعد ضربه، ورحلوا. لا أحد فهم شيئاً ممّا حصل.

هكذا، فجأة، انكسر هدوء الكورنيش البحري، ليعلو صراخ ونزاع وبكاء وأصوات استنجاد. كما جرى، فجأة، التنبّه إلى أن نصف الموجودين على الكورنيش ربما كانوا رجال أمن ومخابرات بثياب مدنية… وحزبيين أمنيين. هدوء بيروت انكسر ليشعر المارة والسكان بانعدام الأمان. تجديد للشعور لا أكثر. محاولة السؤال عمّا حصل مشبوهة. محاولة معرفة هوية الفاعلين تعرّض صاحبها للخطر.

عاد الجميع إلى أعمالهم وحياتهم. الشاب السوري مجهول المصير. صحيح أن لا أحد عرف إن كان الشاب بات في عهدة الدولة أو أنّ مجموعة مدنية ما اختطفته، لكن لم تطل مدة الاكتراث. بائع الفول عاد إلى عمله. شابان سوريان عكفا عائدين في أول سيارة سرفيس. بائع الورد الصغير، القادم من مخيم شاتيلا، تمسّك بأول شاب ارتطم به ليعيد على مسمعه عباراته المعتادة. الرجل الأربعيني يتمسك برفضه شراء وردة لزوجته. بينما لم تسمع شابة تمارس الرياضة بكلّ ما حصل. الموسيقى في أذنيها حجبتا الصوت عنها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى