مراجعات كتب

سوزان عليوان في كتابها الشعري الجديد “الحب جالس في مقهى الماضي”: قصيدة طويلة مباغتة بتكاوينها الموصولة

 

بول شاوول

سوزان عليوان تخطو في كتابها الشعري الجديد «الحب جالس في مقهى الماضي»، مساحات جديدة، تختلف ولا تختلف عن كتاباتها المنشودة السابقة، الشفافية الجارحة مستمرة. شفافية الماء «الجارح»، أو الأحوال في مساراتها، والحروب، والموت، والقتل، والربيع والشتاء، والأمكنة المتباعدة، كلها «جروح» قاطعة من فرط شفافياتها. قاسية هنا، متباعدة هناك، بوحية، أو اعترافية، أو واقعية، أو تخيلية أو افتراضية، أو جسدية، أو روحية.

هنا تأتي في صيغة أسئلة تبقى أسئلة، وهذا بالذات ما يحفرها في النص، وفي الالتباس؛ فالجواب يجعل الأشياء بلا تاريخ. لا زمنية (كالقصيدة) أو ميتة في راحتها. الجواب راحة الروح. السؤال القلق. الجواب أحياناً أن تسدل ستاراً نهائياً على الحقائق، أو الوقائع؛ كأنه كتاب الأسئلة: الذات المغروزة في الذات. الذات المكان، الذات الحب، الذات القلق، الذات اللايقين: أي الذات خارج الذات في تجوالها بين الأحوال، والأمكنة، والوجوه، والتناقضات، والآخر.

كأن كتاب سوزان جديد، ويبدو أن نصوصه صيغت لتكون كتاباً. كتاباً موصولاً من الداخل، وعبر التضاعيف، وإن موسوماً بعنوان عشرة نصوص. البنية واحدة، بفواصل وهمية، أو بحدود «افتراضية». وهنا بالذات تبدو سوزان عليوان مكملة تجاربها السابقة من التماعات، والتمامات، وبياض، وإيحاءات، والتباسات، أي الجملة التي تترك أثرها في البياض هنا، أو المفردة التي تبدو في كتاباتها السابقة أساس التركيب، وهنا بالذات يمكن الكلام على أهمية المفردة في فتح الجملة على مصاريعها: سواء بقيمتها «ألفيزيائية» (أو الإيقاعية) أو بكيميائيتها في الجملة المقطع؛ أو المقطع المفتوح على لعبة الصفحة، أو لعبة السينوغرافيا على بياض الكلمة. في «الحب جالس في مقهى الماضي» تبقى «مركزية» الكلمة، وتبقى بنية الجملة، لكن في سياق أوسع منها. أي القصيدة. قد تكون سوزان صاغت «شذرات» أو مقاطع تنفصل حيث تتواصل، وتتواصل حيث تلتبس في حركتها. هنا في كتابها الجديد «زمن» أوسع، ومسافات متباعدة، وأمكنة مختلفة، وحالات متنوعة، ومشاعر غامضة، وأسئلة خصبة، ومشهديات تلامس واقعية ضبابية لكن ضاغطة، وهذا كله احتضنه النص الكتاب، القصيدة، ويعني ذلك أن سوزان عليوان حاصرت اللقطة الصدفة، المشهد المنفصل، الشذرة المتشظاة، لتجعلها ضمن سياق القصيد. والمفارقة، أن القصيدة التي تجمع العناوين العشرة، بتفاوتها الإيقاعي الصوري الانفعالي التأملي، باتت «بنية» مشغولة، مصفاة، محذوفة منها «الزيادات»، رحبة بلا استرسال، غامرة بلا ضيق، ضيقة بلا اختناق. إنها القصيدة «الطويلة» المباغتة بتكاوينها المتصلة، الأليفة حتى بتنافراتها، الواحدة حتى تشذيرها. ولهذا لم تقع قصيدة سوزان بما يسمى «التمطيط» أو الرطانة، أو راحة الانسياق، أو الاستسلام لما يسمى فيض الحاجة، أو ركام الفوضى: فسوزان عليوان، وبعمل دقيق، ورهافة حادة، عرفت كيف تكبح تدفق النص فوق النص، أو خارج النص، وعرفت كيف تحول دون الترهل، والسمنة، والثرثرة التي عانتها قصائد عربية طويلة. وهذا يعود إلى تجنبها الصوت الواحد، أو المركبات المتشابهة، أو التوليد الذي يفسّر أكثر مما يوحي، إلى تعددية الأصوات البوليفينية: وهنا بالذات تنتج القصيدة (المغلفة بنيتها على خلاف النص المفتوح)، قدرتها التحولية، من خلال امتصاص كل الاختلافات والتناقضات (الصوتية المشهدية الموسيقية) في سياق تجمعها من دون أن يطمسها، يُداخلها من دون أن يجففها، يواخيها من دون أن يتواطأ معها. إنها لعبة المفارقات، تبرز لكي لا تنفر عن سواها، وتتجلى لكي تعلن انتماءَها إلى الإيقاع السمفوني العمومي. وهنا مكمن اللعبة. وهنا تبدو القصيدة هي «الفن الصعب» (على بساطته أحياناً)، من الحذف، من الوصول إلى جوهر الإيقاع الواحد الذي يذيب مختلف الإيقاعات. جوهر الصورة الواحدة المترامية التي تحضن كل المشهديات والصور، واللقطات، والمقاطع الوصفية والبوحية، وهذا ما عنيته عندما قلت في بداية المقال إن سوزان خطت نحو مغامرة جديدة. كأنها انتقلت من العزف المنفرد إلى العزف الجماعي. حتى في مقاربتها الحالات، والحب، والحرب، والشغف، والعنف، فإنها على تماثلها الذاتي، انخرطت في اللعبة الجماعية. في الحادثة. أو في الواقعة. أو في الانطباعة. أو في التلميح. أو في المباشرة. كأنها جمعت في هذا الكتاب فحوى تجاربها السابقة، ودفعتها من «الواحد» الخصب، إلى الواحد الجماعي. التقطت الحالات من أطرافها المتباعدة، لكن من دون أن تفقد خيوطها «المادية» ولا خيوطها الداخلية، اخترقت أرضاً وعرة، بأشواكها وورودها، وناسها، وعزلتها، وقوتها، وحضورها، لكن من دون أن تفقد مسارها، في التقاط اللطائف، والامتثالات، والتماثلات، والفخاخ (اللغوية)، وشميم الأمكنة. كأنها هنا تمشي على جمر، وهناك على عشب، وهنالك على اللاشيء: ربما العدم. ربما الامتلاء. ربما الضوء. ربما الظلمة. ربما الأمل. ربما الخوف. ربما الصوت الداخلي. ربما ما يعتمل في أعماقها المعتمة، حيث لا تصل لا يد ولا عين، ولا كلمة. إنها مستوحيات. وبهذه المستوحيات، المتوازنات أحياناً، المتكررة، أو التوليدية، أو المتوازية، أو المتنافرة، تمكنت من انتشال قصيدة، ملتمة جيداً على نفسها، متماسكة على غير اعتساف، بنائية على غير سردية. بهذه المستوحيات وبصرامْها الشفيفة، عرفت كيف تسرد لكي لا تسرد (وتقع في الروائي)، وكيف تبوح لكي لا تبوح (وتقع في المباشرة)، وكيف تعترف لكي لا تعترف لكي تبقى الأسئلة في أسرارها، وتصرخ لكي يكون صراخها في صمتها الأقسى، وتصور لكي لا تؤكد أبدية الصورة، بل هشاشتها الزمنية المكانية النفسية، وتُمشهد لكي ترفع المشهد (أو اللقطة) إلى مستوى «الرؤيا»، وترفع إيقاعها لتوافي مساحة النشيد وامتداداته، ونشيد الحواس، واللغة، والاحتفال بالمأساة، أو الاحتفال باللازمن، أو باللامكان… ونظن أن البنية المفتوحة (داخل القصيدة)، ترجح هذا السياق المتصاعد في قصائد الكتاب، لتكون النهاية أشبه بختام مسرحية. كأنما سوزان عليوان في كتابها الجديد «تمسرح العدم» أو «يمسرحها العدم».

 

[ مختارات في الحكاية

 

[(1)

 

الشارع الذي يحمل اسماً سماوياً

ولشبابيكه المتقابلة عيون عشّاق.

ذلك الذي بين مفارقه التقينا

بأُلفة صديقين قديمين،

أحدنا ملاك يضحك.

الموشوم في روحي بحانة من حنين،

بركبة حول ظلّ خجول

وكتاب لا يتكرّر.

الذي في زاوية من زواريبه باب وردة،

الطويل كنظرة تحوك ظلّين،

ذو النهر الواحد

مثل نهاية حبّ من طرف وحيد…

يا له من عمر بلا آخر

دونك يقاس بالدموع.

 

[(2)

 

أحدنا أفلت الحكاية،

بيده قَطَعَ الخيط الأخير.

صفق الأبواب خلفه

تاركاً أصابعه فوق المقابض.

كسر النوافذ كلّها

وكأنّها كابوس من كؤوس.

بغيمة غطّى المرآة

لئلاّ يبصر وجهه

وحيداً مثل إله.

في صناديق صغيرة من ورق

وأرى الفرح والهدايا

ثم كحفّار قبور

بظلاله دثّر أطفاله.

العازف عن جمع نفسه

العاجز عن تمزيق رسالة

التقط صورة لصدى

حلَم حتى هرمت أهدابه.

كلّما تذكّر تلك الأغنية

كره الحواسّ والشوارع،

في التباس السادسة صباحاً

لم تعد توقظه عصافير الجوار.

أحدنا الذي يبكيه بيانو

وتسقطه قطرة من مطر.

 

[ (3)

 

مثل مطر تفرّقت ملامحنا في الشوارع:

معطفك على أكتاف مشرّدين

دموعي بين عابرينَ ونوافذ

وجهك ورقة لا يسقطها خريف

ضحكتي تذكرة قطار ممزّقة

كلمات مثل «حبّنا» لتماثيل

وعودنا شموع تَقِلّ وتضيء.

كلما تعلو أعمار على حُطام مدن

مثلما الشجرة تلويحة من تراب

يرمّم كلّ منّا نبضه

برماد ما مضى.

 

[ (4)

 

للغيمة أغفِر ما سرقتْه من النبع

لعصافير تشرين

ما فعلته بقشّ أيامي

للشتاء نياشينه من جماجم أزهار

للفجر نجمة بلا إجابة

للدروب الماطرة مفارقها

للحقائب أقفالها على قلوب

لشجرة اللوز

كل هذه العيون الحزينة

لأصدقائي دلاءهم وسط دموعي

أسامح الأوطان والأوثان والمصابيح المكسورة

التراب والعاصفة

أحقاد الأغاني

بياض السكاكين،

إلاّ أنت…

أدينك كما يشير ملاك بإصبعه

إلى بقعة سوداء ملء المرآة.

 

[ (5)

 

أن تتقاطع بسلوة غرباء رسائلنا

أن يحمل لي ملاكٌ

صدى صوتك

في باقة من صور.

ألاّ أتعرّف على أيقونة واحدة من دموعي،

أن أتألّم لأننا أكثر من اثنين.

كل هذه النجوم

من غزْلنا على سهر،

والليل خيط طويل

ومقطوع

من طرفينا.

 

[(6)

 

لنجلس وجهاً لوجه

مثل أي اثنين في مقهى،

كما يضاعف الوحيد

قلبه ودموعه

بجبين مرآة.

ثمّة كلامٌ

كشجر كبر فينا.

الحبّ حفرة في روحي

عيناك ليل لا يعرفني.

صرنا الغرباء الذين كورق أصفر

لشبابيك مبحوحةٍ من كثرة التلويح.

لشارعنا العتيق

عتب بعدد عابريه،

والمطر على رصيفين مجاز يصرّ:

لا قدر حقيقي يضيع.

 

[(7)

 

لا عتب على غيم وأحجار،

لا ذنب لملاكٍ

غرير الغفران.

بريئة هذه الدروب من دموعنا

ليست الشوارع نوايا عابريها.

نحن اللذان على أمطارها علّقنا عمرنا وقلنا:

هذه القلادة ذات الأحرف اللاتينية القليلة

أيقونة العالم.

أنت وأنا، أيها الآيل للكسر كوردة

مثل كسرة بسكويت في اليد

كما كانت تلك الضحكة تكرّر.

لم يخدعنا أحد

لم يخذلنا سوانا.

نحن اللذان أثقلنا الرحلة بأكثر من جناح

بثالث محايد

كل حجر على الكوكب

حقيبته أكثر من قلبه.

 

[(8)

 

على مهلي

كمن بلا ذاكرة يتنزّه.

كنسيانٍ،

على كاهلي هالة الهجران.

على مفرق الجسر

أن يبتكر أغنيةً أخرى لمنديله.

ليس الحب الملاك الذي

بقامة نبيّ

يبتسم لطفل في يده سكّين.

غدت المدينة صمتنا

عادت حبّة من غبار

والأماكن أصداء

لا تذكّرني بأحد.

 

[(9)

 

وحدي في الحكاية

هنا حيث المرآة متاهة.

في مكان آخر

رجل مريض يرسم الملائكة،

في حياة أخرى

أنا الردهة الطويلة بأطفالها.

ماذا أفعل باللوحتين؟

سريري سفينة لا تغادر.

باريس امرأة عارية

هيكل عظميّ تحت المطر.

إن كان هذا هو

الجحيم يا إلهي

من أين تنبع كل هذه الدموع؟

 

[(10)

 

لستُ من مطر لأتساقط هكذا،

لكنها أوراق أيلول.

كأننا في أول النسيان

نحن الذين قطعنا هذه النهاية من قبل.

على أفق تركناه

الغروب الذي ليس كتاباً لنغلقه،

وكلاماً معلّقاً بين مَقعدين متقابلين

لعشّاق على العتبة

لا يعرفون

أن الذي يجلس وعلى يساره الأزرق

يتألّم أكثر.

 

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى