“سويداء” القلب/ياسمين نايف مرعي
بعد انقضاء 3 سنوات على فراق السويداء، المدينة التي احتضنتني نازحة، ومسحت بابتسامات أهلها ودفء قلوبهم غبار الموت عن وجوهنا نحن أبناء حمص ودرعا وريف دمشق، كان علي أن أستعيد كل ذكريات الثورة فيها، وأكون بما أكتبه على قدر ما تستحق تضحيات أهلها من صدق في التناول.
ففي الوقت الذي انشغل فيه السوريون بفجائع الغرق، المجازر اليومية، واليأس من ثورة انقلبت عليهم هجرة وموتاً واعتقالاً وإعاقات دائمة، جاء استشهاد الشيخ وحيد البلعوس في السويداء قبل أيام، ليحيي في قلوب الكثيرين روح الثورة، فيبدؤون بالترحيب بانضمام السويداء إليها، وكأنها طارئة عليها، وبتنا نلحظ ما يشبه الرهانات على هذا الدخول، وفي بعض الأحيان المطالبات غير المنصفة بما يحمّل السويداء أكثر مما يمكنها حمله.
لقد علم النظام السوري أن ثمن استشهاد الشيخ البلعوس لن يكون رخيصاً، لكنه لم يجد خياراً أمام عنجهيته وهو يقتل السوريين بدماء باردة في حلب وإدلب وريف دمشق، وخجله من مرتزقته من حزب الله وإيران، سوى الانتفاض لكرامته التي ظن أنه يستعيدها يوم قرر حرق وتدمير المدن التي أسقطت تمثال المجرم الأب، فيما أكد له مشايخ الكرامة أن كرامته المتخيلة تلك لم يكن لها اعتبار في كل مرة اقتحموا فيها فروعه الأمنية وأجبروا عناصرها على الاستسلام، محررين معتقلاً مرة، ومستردين مجنداً إجبارياً مرة أخرى، وهو ما لم يحدث في أي مدينة سورية أخرى.
لم يجرؤ نظام الأسد خلال سنوات الثورة الخمس على قصف السويداء حفاظاً منه على ادعاء حماية الأقليات، فاكتفى بتصفية أبنائها من المجندين الإجباريين الذين رفضوا قتل إخوتهم السوريين، واعتقال المعارضين المدنيين أو تصفيتهم تحت التعذيب، وبإشعال الفتن الطائفية بين السويداء وجيرانها، من خلال قيامه أو دعمه لعمليات خطف متبادلة، وتخويف الأهالي مؤخراً من شبح التطرف والإرهاب المتمثل بداعش والنصرة، في محاولة منه لتخييرهم بينه وبينهم، لكن خطر الشيخ وحيد عليه ما كان ليزول بأي من تلك الوسائل، فكان اغتياله.
وبالعودة إلى ما جرى في السويداء الثائرة، لم يتوجه الرقيب أول المنشق “مجد زين” إلى بيته، بل بقي في الرستن يحارب ظلم النظام حتى استشهد، كذلك الشهيد خلدون زين الدين، الذي نادى “الكرامة يا أهل السويداء”، فما خيبه أهلها.
وفي تشييع الشهيد معين الرضوان الذي سقط بتفجير سيارته، برفقة الشهيد صفوان شقير، هتف المشيعون: “يا حمص حنا معاكِ للموت.. يا درعا حنا معاكِ للموت..”.
لم تغب السويداء عن الحراك إذن، وليست طارئة عليه، لكنها اختارت خطاً مدنياً واضحاً. قصدتها نازحة من حمص مع أهلي، كانت الخيار الأفضل للهروب من الموت والبقاء في سوريا معاً، مدينة فقيرة بذل أبناؤها ثمن كل شيء فيها، فيما حرمها النظام من كل شيء إلا فروعه الأمنية الموزعة بما يحكم السيطرة عليها من الداخل، والثكنات والمطارات العسكرية من الخارج، بحيث لا يكون للمدينة إلا مواسمها من العنب والتفاح، وتعب أبنائها من المهاجرين، الغائبين عن كل بيت فيها. ورغم محدودية الإمكانات، اقتسم أهالي السويداء مع 40 ألف نازح عام 2012 (هم اليوم 60 ألفاً) ملابسهم، مؤونتهم، أقاموا مشاريع لتعليم أبناء النازحين خلال الصيف بما يسد ثغرات النقص في المناهج لديهم، ونظموا برامج لاستيعاب الأطفال نفسياً، كل ذلك قبل أن تعم موجة المشاريع والتمويل، فعلوا ذلك بمواردهم الشخصية وبدعم مغتربيهم، فتح العديد منهم منازلهم والكثير من أطبائهم عياداتهم للمعاينات مغطاة الكلف، وسيأتي يوم نسجل فيه نحن، النازحين إلى السويداء، أسماءهم للتاريخ.
لم يصدق بنو معروف يوماً كذبة حمايتهم كأقلية، لكنهم عرفوا كيف يحتضنون أبناء المحافظات الأخرى، كيف يردون عنهم الحيف، ففي اعتصام كان مقرراً في آب 2012، منع ناشطو السويداء الكثير منا من الخروج، كانوا يخافون أن يدخل ابن حمص أو درعا أو ريف دمشق المعتقل هناك فلا يغادر، وهو ما لن يسمحوا بحدوثه. ويوم عرفت أن الأمن بدأ السؤال عني، كان شباب السويداء من حذرني، خبأني، وأوصلني إلى الحدود اللبنانية، بعد التأكد أن اسمي لم يكن معمماً على الحدود، وكانوا هم من خلفوني وإخوتي المعتقلين في أهلي، من زاروا والدتي صباح كل عيد، وحملوا والدي وجدي يوم وفاتهما، ودفناهما في تراب السويداء كما لو كانا من أهلهم.
ما زلت أذكر كلمات الصديق الذي خبأني قبل مغادرة سورية: “استقبلك عامين شرط أن تتكتمي، ليس من أجلي، بل من أجل سلامة كل من نعمل معهم”..
ما يحدث في السويداء اليوم يرمم روح الثورة فينا، لكنه يضعنا أمام مسؤولية عدم مطالبتها بالتعويض عن كل خذلاناتنا في خمس سنوات، بما يضع أهلها وساكنيها من أبناء المحافظات الأخرى أمام مصير معروف سلفاً، وعدم المزاودة عليهم، هم الذين يتحولون إلى محاصرين مؤهلين للموت جوعاً بمجرد قطع طريق دمشق-السويداء، منفذهم الوحيد على الحياة.
سيعرف عقلاء هذه المدينة العريقة في وطنيتها وثوريتها كيف يديرون الدفة، وفي هذا الوقت سيكون علينا أن ننظر إليها بكثير من الوفاء وقد قدمت مروان الحاصباني، وأسامة بركة، وتامر العوام وصلاح صادق، وخرجت نساؤها في كل الاعتصامات والتظاهرات، وخاطرت 3 منهن في بداية الثورة بحمل لافتات للتضامن مع حمص قاطعات السير على طريق قنوات، معرضات أنفسهن وعوائلهن لكل أشكال انتقام النظام. السويداء التي احتضنت الثورة بحاضرها وريفها بدءاً من زيتونها، وانتهاء بتظاهراتها في شهبا وغيرها، لا ينصفها الترحيب بانضمامها إلى ثورة لم تنفصل عن مسارها منذ اليوم الأول فيها.
(سورية)
العربي الجديد