صفحات العالم

سياسات الثأر في سيدني وبيشاور/ حسن شامي

 

 

من السهل ربما إدراج المقتلة الصغيرة التي وقعت في مقهى في مدينة سيدني الأوسترالية في عداد أعمال عنف ذات طابع فردي، لأنها تصدر عن أفراد يزعمون أو يتصورون أنهم مرشدو الجماعة إلى طريق الخلاص والنجاة. على أن تكرار مثل هذه الأعمال في بلدان ومناطق مختلفة، خصوصاً في أوروبا والغرب عموماً، يجيز الظن بأننا حيال ظاهرة تستحق التوقف عندها.

فقد وقعت عمليات مشابهة في كندا وفرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة وبريطانيا، ناهيك بالمجزرة الرهيبة التي ارتكبها في النروج أصولي مسيحي هذه المرة، وليس أصولياً إسلامياً كما هي الحال في الحوادث الأخرى المتكررة دورياً. وبات شائعاً في أدبيات الإعلام الغربي إطلاق صفة «الذئاب المتوحّدة أو المنفردة» على هذه الظاهرة بالنظر إلى تدليلها على أفراد ضعيفي الصلة ببيئات اجتماعية معينة، بل حتى يغلب عليهم أن يكونوا من ذوي السوابق ومرتكبي الجنح ومرتادي السجون قبل «اهتدائهم» إلى وجهة الخلاص في الدنيا والآخرة.

حالة الشيخ الإيراني الذي احتجز رهائن في مقهى أوسترالي مما استدعى تدخل القوات الخاصة وسقوط ثلاثة قتلى لا تشذ عن الترسيمة العامة المشار إليها. فهو مضطرب عقلياً، وفق مسؤولين أوستراليين، وذو سوابق ومتهم بعشرات دعاوى تحرش جنسي إضافة إلى شبهة المساهمة في قتل زوجته قبل أشهر ولكن من دون أدلة جنائية دامغة، ما استدعى إطلاق سراحه بكفالة. فوق ذلك هو لاجئ منذ 1996 مما يضعه في الخانة الفضفاضة للمعارضة.

لا يعدم متابع تعبيرات هذه الظاهرة العثور على قواسم مشتركة في مقدمها اضطراب الفرد المتفلت من أثقال الروابط الاجتماعية المعهودة، وانتفاضه على نحو خلاصي ضد ظلم مفترض وسعيه إلى انتزاع صفة البطل كتعويض عن عقدة هامشية ونبذ مستبطنَين. مع ذلك، ثمة وجه آخر قلما يجري التوقف عنده وهو تورط هؤلاء الأفراد في علاقات تشغيل من قبل أجهزة استخبارات في بلدان إقامتهم مما يرسم علامات استفهام حول ظروف وملابسات قتلهم بعد إقدامهم على ارتكاب عمليات عنيفة لا يخلو بعضها من الانتقام من الهيئات أو الرموز الدالة على مواجعهم. هذا مثلاً ما قيل بطريقة مواربة عن محمد مراح الجزائري الأصل الذي قتل قبل عامين في مدينة تولوز الفرنسية ثلاثة عسكريين من أصول مسلمة ثم هاجم مدرسة يهودية وقتل بضعة أشخاص بينهم أولاد. في منطقة محاطة بالكثير من الظلال يصعب تقديم صورة واحدة وجازمة عن مسارات «الذئاب المنفردة».

ما ينبغي التشديد عليه أنّ دلالات العنف الصادر عن أفراد لا تتوفر لهم شروط التجذر في محيط اجتماعي وأهلي راسخ تختلف عن دلالات العنف الصادر عن حركات وقوى تزعم استعجال الخلاص وإقامة أحكامه الأبدية. مثل هذه القوى لا تعدم التجذر في، أو التحدّر من، بيئات اجتماعية يغلب الالتحام القبلي والعشائري على ترسيمة بيئتها الاجتماعية. وعندما تكون على درجة عالية من ادعاء الاستعلاء الأيديولوجي على أي مكون اجتماعي، كما حال «داعش» والعديد من السلفيات الجهادية المشابهة والمنافسة، فهذا لا يمنعها من إنشاء صورة عن الجماعة المثالية المفترضة مشتقة من صورة الاجتماع القبلي وتنويعات عصبياته.

من المؤكد أن الحركات التي تعتبر الولاء الأيديولوجي بمثابة هوية لجماعة عالمية تتمتع بقدرة أكبر على جذب المناصرين من التشكيلات القبلية التي تعج بها مجتمعات المنطقة وأريافها. فهذه الأخيرة تستطيع أن تحشد أبناءها وتحتكم إلى تقاليد متوارثة في تسويق شرعية أحكامها كما يسعها أن تعقد تحالفات وتفاهمات مع قبائل أخرى، لكنها لا تستطيع التوسع خارج حدود الجماعة القبلية وإقليمها إلا عن طريق الغزو العاري. المقبرة الجماعية التي جرى الكشف عنها قبل أيام في دير الزور السورية والتي ارتكبها متطرفون إسلاميون ضد أبناء قبيلة الشعيطات تندرج في إطار صراع مفتوح بين نظرتين لتحديد العلاقة بين الدعوة الدينية والقبيلة كمنظومة اجتماعية وأيهما، الدعوة أم التقاليد القبلية، مصدر ومدار شرعية السلطة.

هناك بالتأكيد حالات تجمع بين النِصابين من دون أن تلغي التدافع بينهما. وهناك حالات نجد فيها تجاوراً ملتبساً لا يتبدى فيه وجه الغلبة لهذا النصاب أو ذاك. يبقى أن منطق الثأر هو الوجه المشترك بينهما وهو ما يكاد يكون خطة قائمة بذاتها لشحن الجماعة بتصورات وانفعالات عن وحدتها وتماسكها.

ويعتبر هذا الشحن عصارة السياسة. قد تكون حالة حركة طالبان الباكستانية الأكثر تعبيراً عن التباس العلاقة بين الدعوة الدينية والقبيلة. وهذا الالتباس خزان عنف ثأري لا ينضب.

ففي معرض إعلانه عن مسؤولية حركة طالبان الباكستانية عن المجزرة الرهيبة التي أسفرت عن مقتل أكثر من 140 تلميذاً في مدرسة ببيشاور مخصصة لأبناء العسكريين، قدّم الناطق باسم الحركة محمد خرساني ما يتعدّى مجرد الإعلان الإشهاري عن المسؤولية. فهو برّر الهجوم على مدرسة تضم قرابة الخمسمئة طالب بأنه عملية ثأر وانتقام على قاعدة العين بالعين والسن بالسن. والبادئ أظلم وفق إضافة إسلامية على هذه القاعدة التوراتية التي يحسبها كثيرون ذهبية. فرأى الرجل أنّ استهداف المدرسة ردٌّ على عمليات الجيش الباكستاني منذ حزيران (يونيو) ضد معاقل الحركة المسلحة وأن طائرات الجيش «تقصف نساءنا وأطفالنا وينبغي على عائلات العسكريين أن يبكوا على أولادهم كما بكينا نحن».

سنسارع إلى القول إن معظم ظواهر العنف المتفجر في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، خصوصاً الربيعية منها، تندرج في تصوّر انفعالي مثقل بالجروح الغائرة إلى حد اختزال السياسة إلى تصفية حسابات وعمليات ثأر وانتقام تشفي الغليل وحده ولا تشفي غيره.

سبق للكاتبة الأميركية هنة آرنت، الألمانية الأصل والنشأة، أن رأت بحق أن اعتماد مقولة العين بالعين قاعدة ومبدأ للعلاقات الصراعية بين البشر كفيل بتحويل قسم كبير من الناس إلى عور وعميان، يسعنا أن نضيف وإلى دُرُد (جمع أدرد أي بلا أسنان). وليس مبالغة القول إن قطاعات واسعة من شعوب المنطقة، في المعنى البدائي وما دون السياسي لكلمة شعوب، تخطو خطوات جبارة نحو الهاوية هذه. ولا يشذ قسم بارز من أدبيات الاصطفاف عن هذه القاعدة.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى