سياسة روسيا في سورية.. محددات وأبعاد/ سمير سعيفان
أجمع المحاضرون والمشاركون في الجلسة المخصصة لمناقشة السياسة الروسية في سورية، ضمن المؤتمر الذي أقامه معهد الدوحة للدراسات العليا، بالتعاون مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يومي 4 و 5 مارس/ آذار الجاري، عن سياسة روسيا في الشرق الأوسط، أجمعوا على أن من الصعب فهم هذه السياسة في سورية، وتساءلوا عما إذا كانت روسيا تملك رؤية لإنهاء الصراع في سورية الذي انطلق في مارس/ آذار 2011، ويكمل سنته السابعة الشهر الجاري.
“سيكون الظنّ أن السياسة الخارجية لبلد ما لا تنطلق من أرض فكرية صلبة أمرًا غير مقبول في عالم اليوم”. وروسيا دولة كبرى، ولديها رؤيتها لدورها في العالم الذي تطمح إليه، ولديها استراتيجيتها وتكتيكاتها. كما كتب الدكتور نواف التميمي في مقالةٍ في “العربي الجديد” (19/10/2015).
لكن كل رؤية واستراتيجية وتكتيكاتها تحتمل الخطأ في رسمها، كما تواجه تحديات التنفيذ في أرض الواقع. ويمكن فهم سياسة روسيا في سورية على ضوء مجموعتين من العوامل: واحدة تتعلق برؤية روسيا لدورها في العالم واستراتيجيتها العالمية، وسورية جزء من هذه الاستراتيجية، وأخرى تتعلق بالصراع الدائر في سورية ذاتها وأطرافه الإقليمية.
دور ورؤية
يشكل الحنين للفترة السوفييتية عاملًا رئيسا في تشكّل الوعي الوطني الروسي، خصوصا أن القيادات العسكرية والسياسية والاجتماعية والفكرية قد عاشت شبابها وردحًا من عمرها في تلك الفترة، حين كانت روسيا في قالبها السوفييتي تشكل قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة. ويملأ الحنين لتلك الفترة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أيضًا الذي يعتبر أن انهيار الاتحاد
“الحنين للفترة السوفييتية عامل رئيس في تشكّل الوعي الوطني الروسي”
السوفييتي بمثابة الكارثة الجيوسياسية الأكبر في القرن العشرين، وقد وعد بوتين الروس بأنه سيعيد مجد روسيا. وبينما تتجه “نخب روسية ليبرالية معارضة” نحو رؤيةٍ أكثر قربًا من القيم والسياسة الغربيتين، تسعى “نخب روسية وطنية” اليوم إلى استعادة ذلك الدور الروسي – السوفييتي السابق، أو شيء قريب منه. وتتخذ مجموعة النخب الوطنية موقفًا سلبياً تجاه قيم الليبرالية والديمقراطية، كونها قيما غربية تمحو التقاليد والثقافات في البلدان التي تهيمن عليها، وترى أن النظام العالمي أحادي القطبية قد انهار، ولم يبق منه سوى القشرة، ويمكن للصين مع روسيا العمل لتغيير أحادية القطب العالمي الأميركي، ويطمح الرئيس بوتين إلى بناء الاتحاد الأوراسي واسع الأبعاد الذي يضمّ روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا وأوكرانيا.
جاء استمرار عداء الغرب لروسيا مثل طاسة ماء بارد على المشاعر القومية الروسية الحارة، فزادها تصلبًا وعنادًا، فقد سلخت دول الغرب من الهيمنة الروسية دول شرق أوروبا ودول الاتحاد السوفييتي السابق في آسيا والبلطيق، وشجعت التمرّد في كل من الشيشان وجورجيا وأوكرانيا، بل مولت الولايات المتحدة مظاهرات ضد بوتين سنة 2011، وطوّقت روسيا بحزام من الصواريخ البالستية، وفرضت عقوبات اقتصادية وسياسية على روسيا، ردا على سيطرتها على القرم، أي عاملتها كدولة عالمثالثية، بينما لم يفرض أحد أي عقوبات من أي نوع على أميركا وحلفائها الذين غزوا العراق بدون أي تفويض أممي، كما عامل الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، روسيا وبوتين باستخفاف، فقد قال في خطاب الاتحاد في ديسمبر/ كانون الأول 2015: “نجحنا في احتواء إيران وروسيا واستنزاف مواردهما في سورية. ولدينا أعظم اقتصاد في العالم وأقوى جيش في العالم، والدول التي لديها مشكلات تأتي إلينا، ولا تذهب إلى أي دولة أخرى”. وفي تصريح آخر، قال أوباما إن روسيا دولة إقليمية ودولة ريعية.
زاد هذا التعامل من عناد بوتين وعنفه، وبقية النخبة الحاكمة في موسكو. ولعل تمظهر شخصية بوتين، وميله إلى إبراز عضلاته وقوته الشخصية وحبه المغامرة هو التعبير الأبرز عن السياسة الروسية الجديدة اليوم. وقد شهدنا هذه العقلية في كل من الشيشان وجورجيا والقرم وشرق أوكرانيا، ونراها اليوم في سورية.
العوامل المتعلقة بالصراع
ضمن رؤية روسيا العالمية لدورها واستراتيجيتها في العالم، يشكل الصراع في سورية جزءًا
“جاء استمرار عداء الغرب لروسيا مثل طاسة ماء بارد على المشاعر القومية الروسية الحارة، فزادها تصلبًا وعنادًا”
من ساحة الصراع العالمية ولوحته، ولأن الخصم الرئيس لروسيا ورأس الحربة المعادية لها هي الولايات المتحدة، فإن سياسة أميركا تجاه سورية تعد باروميتر سياسة روسيا في سورية، وتسهم في الصياغة اليومية للمواقف الروسية تجاه الصراع. وقد شجع انسحاب إدارة أوباما من الإقليم بوتين على لعب دور أكبر في سورية والمنطقة.
تتبنّى القيادة الروسية إيديولوجيا معادية للحرية والديمقراطية، وترى أن الثورات الشعبية تؤدي إلى فوضى، وهي تقف ضد أي ثورة، وتؤيد الأنظمة المستبدة وتقف إلى جانبها. وقفت السياسة الروسية ضد الربيع العربي ككل، وضد الحراك الشعبي السوري العفوي الذي انطلق في مارس/ آذار 2011، لكنها اقتصرت، في السنوات الثلاث الأولى، على تقديم دعم سياسي ودبلوماسي وإعلامي للنظام، مع استعدادٍ لقبول إجراء إصلاحات يجريها الأسد. وبسبب الزخم الهائل للحراك الشعبي، وافقت على تطبيق مبادرة جامعة الدول العربية التي قدمتها في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، على الرغم من تضمنها مبدأ انتقال سياسي، كما وافقت على إعلان جنيف 1 نهاية يونيو/ حزيران 2012، لإدراكها ضعف النظام آنذاك واحتمال سقوطه، فرأت في اتفاق البيان إمكانية لتشكيل سلطة انتقالية بمشاركة النظام.
لكن مرونة روسيا المحدودة هذه اصطدمت برفض الأسد وإيران أي نوع من الإصلاح. أما بعد ازدياد الطابع الإسلامي لفصائل المعارضة، وبروز مجموعات سلفية قوية، فقد أصبح دعم الروس أقوى لنظام الأسد. غير أن التحول في سياسة روسيا تجاه الصراع في سورية جاء بعد أحداث أوكرانيا في فبراير/ شباط 2014، ثم عندما تضعضع الوضع العسكري للنظام وحلفائه الإيرانيين في صيف 2015 تدخلت روسيا عسكريًا في 30 سبتمبر/ أيلول 2015. وأدى تدخلها إلى قلب الموقف عسكريًا لصالح النظام. ثم جاء التبدل في موقف تركيا بعد تأزم العلاقة مع روسيا، إثر إسقاط الطائرة الروسية والإجراءات الاقتصادية العقابية الشديدة التي اتخذها بوتين ضد تركيا، ثم بعد الانقلاب الفاشل والموقف الأميركي المشجع له ضمنًا، ليكمل تبدل المعادلة السياسية في غير صالح المعارضة، والتي بدأت التراجع العسكري وبالتالي السياسي. فكانت عملية أستانة التي ساعدت بها تركيا، وتسببت في إضعاف المعارضة عسكريًا وعودة سيطرة النظام على مناطق واسعة، كانت تحت سيطرة المعارضة، وخصوصا مدينة حلب، وجديد تجلياتها الهجوم الوحشي على الغوطة الذي يتوقع أن تتلوه هجمات مماثلة على مناطق المعارضة في الرستن وتلبيسة والحولة، ثم في شمال محافظة حماة وغربها وفي منطقة الغاب، وستتبعها درعا، وهذا كله ما لم يتم فرض وقف شامل لإطلاق النار في عموم سورية، وما زال هذا الاحتمال غير قريب، وتسرع روسيا والنظام إلى قضم أكبر مساحة ممكنة من المناطق المتبقة تحت سيطرة المعارضة، قبل أن يصبح هذا الاحتمال أمرًا واقعًا.
في المحصلة، وبفضل تدخلها في سورية، دخلت روسيا بقوة أكبر الى الساحة العالمية. وحققت لها قاعدتها العسكرية في طرطوس وجودا في المياه الدافئة شرق المتوسط. واستعملت روسيا سورية حقل تدريب للعسكريين الروس، وحقل رمي لتجريب الأسلحة الروسية، وقد أنتج هذا الأمر عدة صفقات لبيع صواريخ إس 400 إلى عدة دول في المنطقة. وقد شجعت هذه المكاسب الروس على تقديم الدعم الكلي للنظام، سياسيًا، ودبلوماسيًا، وعسكريًا وماليًا.
لسنا في حاجة للقول إنه لا علاقة لموقف روسيا تجاه الصراع في سورية برفضها التدخل في شؤون الدول ذات السيادة، فروسيا تدخلت في جورجيا وأوكرانيا، وهي دول ذات سيادة، وتدعم متمردين ضد حكومة شرعية. واقتطعت القرم من أوكرانيا بقوة السلاح.
مأزق روسيا
وعد بوتين الروس بأنه سينتصر في سورية سريعًا، كما انتصر في الشيشان وجورجيا و
“يشكل الصراع في سورية جزءًا من ساحة الصراع العالمية ولوحته”
القرم. على الرغم من أن سورية أكثر تعقيدًا، وعلى الرغم من موقعها المطل على المتوسط، فهي أقل أهمية من القرم ومن أوكرانيا ومن جيورجيا ومن دول البلطيق السوفييتية السابقة. وسورية في النهاية جزء من استراتيجية روسيا الدولية، وتريدها ورقةً تقايض بها على أوراق أخرى بيد الغرب. ولكن شروط المقايضة لم تنضج بعد، ولا تعرف روسيا متى تنضج. ومن جهة أخرى، تعلم روسيا أنها تستطيع أن تكتسح مواقع المعارضة بوقت قصير، عبر زيادة كبيرة للقصف الجوي، لكنها تدرك أن هذا لا يخدم مصلحتها بإيجاد حلٍّ يحقق قبولًا غربيًا بحدٍّ أدنى، ولا يخدم قبول دول الخليج وأوروبا والمؤسسات الدولية في المساهمة في إعادة إعمار سورية بتكاليفها الباهظة، والتي قدرها البنك الدولي بأكثر من مائتي مليار دولار. وتعلم أيضاً أن زيادة التدمير المادي والاجتماعي سيجعل إعادة الاستقرار في سورية أمرًا بعيد المنال، وستبقى ثمّة حاجة لقوات روسية وإيرانية دائمة لحماية النظام.
تعلم روسيا أنها تخسر سمعتها في العالمين، العربي والإسلامي، بعد تدخلها العسكري في سورية، وهذا ما بينه عرض استطلاع الرأي العام العربي الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 2016، وبين تحولًا سلبيًا كبيرًا في موقف الشارع العربي من موقف إيجابي إلى حد ما وسلبي محدود، إلى موقف سلبي كليًا بعد التدخل العسكري في سورية، بل بات 70% من العينة يرى أن روسيا تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.
لا تعرف روسيا حتى الآن كيف توفّق بين حل سياسي يرضي الغرب ويدفع أميركا إلى التفاهم معها، حل يجتذب أوروبا ودول الخليج للمساهمة في إعادة الإعمار، وبين خشيتها من أن أي تغيير في النظام سيؤدي إلى انهياره، وضياع مصالحها مع أي سلطة قادمة. ثم لديها عقدة إيران باعتبارها شريكا لديه مليشيات قوية على الأرض، والتي لا ترى سورية بدون الأسد، وهي تريد نصرًا مبينًا على المعارضة وسحقها من دون رحمة، مهما كانت التكاليف، من دون أي حل سياسي. كما تصطدم روسيا برفض النظام السوري لأي حل سياسي. وقد سعت روسيا إلى أن تمسك إيران بيد، وتركيا باليد الأخرى، والسعودية بيد ثالثة، علها تخلق “الخلطة” الملائمة للحل، واخترعت مسار أستانة ثم مسار سوتشي الفاشلين بديلا لمسار جنيف. ولا تستطيع روسيا تجاهل رغبة إسرائيل بإبعاد حزب الله، وأي وجود إيراني عن حدود احتلالها في الجولان، بينما تحتاج إيران للمتاجرة بهذا الوضع. وتعلم روسيا أن الولايات المتحدة تريد أن تغرق روسيا في الوحل السوري، لذا ساهمت بعرقلة الوصول إلى أي حل سياسي، ثم
“تعلم روسيا أنها تخسر سمعتها في العالمين، العربي والإسلامي، بعد تدخلها العسكري في سورية”
جاءت استراتيجية ترامب المعلنة أخيرا، لتخرّب على بوتين كثيرا مما حققه من قبل، ووضع حدود لمساحة تحرّك روسيا في سورية، وتعلم روسيا أن نقطة ضعفها تكمن في أن أميركا يمكنها، في حال تصعيد الصراع، أن تلحق خسائر كبيرة بروسيا وهيبتها بالسماح بتمرير صواريخ أرض جو إلى سورية. ولعل إسقاط الطائرة الروسية بصاروخ قبل أسابيع رسالة بهذا المعنى. واليوم أصبح لدى الولايات المتحدة الآن 13 قاعدة عسكرية وموقعا عسكريا في شرق الفرات، ولن تنسحب من سورية طالما كانت القواعد الروسية موجودة. وهذا يعرقل الوصول إلى أي حل سياسي يعيد وحدة سورية مستقبلًأ. وينتظر بوتين الوصول إلى تفاهم مع الأميركان حول سورية، ولكن يبدو أنه سينتظر طويلاً، فالأميركان ليسوا في عجلةٍ للتفاهم مع بوتين بشروطه، والبديل هو إغراقه في الوحل السوري، لكي يقدم تنازلًا في أوكرانيا، وهو غير مستعد لذلك. وكل هذا في النهاية تسابق بين جميع اللاعبين لإغراق سورية وشعبها في الوحل.
أخيرا
تحتاج روسيا إلى حل، ومستعدة لعقد صفقة، لكنها لا تعرف ما هي، أو لا تجد عناصرها حتى الآن، لكن شعورها بأنها في أزمة ضاغطة يتزايد كل يوم. على الرغم من أن كل ما تحتاجه للخروج من الوحل السوري، ووضع حد لأكبر مأساة في العصر الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، هو أن تفكر بطريقة أخرى، مختلفة عما سبقها، فإعادة استعمال المبدأ نفسه، والأدوات نفسها، والمنهج نفسه، لن يعطي نتائج مختلفة، وهي نتائج كارثية يدفع الشعب السوري ثمنها الآن ومستقبلاً وستكون مشكلة لروسيا. وليس أمام روسيا سوى طرح رؤية جديدة، وصياغة حل يحقق جزءا من مصالح كل طرف، ولا يحقق كل المصالح لأي طرف، حل يقوم على تعاون واقعي بين أطراف الصراع لإنجاحه، حل قابل للتطبيق والديمومة، يعيد الاستقرار الحقيقي لسورية، بدلا من الاستقرار المفروض بالسلاح، حل يفتح آفاقا لإعادة وحدة سورية وإعمارها وبناء نظامها السياسي الديمقراطي التعدّدي الذي يعيد السلطة إلى الشعب. وفي الوقت نفسه، يحقق مصالح روسيا، ويلقى قبولًا معقولًا من مختلف أطراف الصراع في سورية. فهل هذا ممكن؟ إنه السهل الممتنع حتى الآن.
العربي الجديد