سياسِيُّــون بـدون وعْـــيٍ ثَقافــيّ/ صلاح ابو سريف
مشكلة السياسيين عندنا أنَّهُم لا يقرأون، ولا علاقةَ لهُم بما يجري في واقعهم الفكري والفني والثقافي. ومن يفهم المعنى العميق للسياسة، بما في هذا المعنى من دلالات لغوية، سيكتشف أنَّ المُشْتَغِلين في الحقل السياسي، من زعماء وُمناضلين، ومُنْتَسِبين للأحزاب السياسية، يعيشون خارج حقل الأفكار والرموز الفنية، التي كانت هي الأساس في بناء الحقل السياسي، وفي تفكير المفهوم الثقافي لمعنى «المدينة».
لا يمكن خَوْض السياسة، أو العمل في أراضيها، دون المعرفة بالمبادىء الضرورية التي هي بمثابة مفاتيح تُساعِد على فَتْح الأبواب، والانتقال بين الغُرَف دون عوائق أو مشكلات. فمن يذهب إلى السياسة عارياً من المعرفة بمحاورات سقراط، وبطريقته في استنفار الأفكار، وفي الاستدلال، وإقامة الحُجَّة على مُحاوريه، ودون المعرفة بكتاب «السياسة» لأرسطو، وبدساتير الآثينين، وما تحمله من تشريعاتٍ ومن قوانين منظمة لفضاء المدينة، ودون قراءة أفلاطون، باعتبار هؤلاء، الأساسات الكلاسيكية للفكر السياسي، وما سيترتَّب عنها من تَشْيِيداتٍ انتقلتْ بالسياسة إلى حقول ومعارف أخرى، لم تََكُن رؤية السياسي، أو رجل السياسة، تكفي وحْدَها لفهم طبيعة هذا الفكر، بل إنَّ المفكرين والفلاسفة والمثقفين، كانوا هُم من أتاحوا للسياسة أن تخرج من إطاراتها الضيقة والآنية، وتتوسَّع أكثر، لتصير أفقاً أوسع، ولتصير أرضاً مفتوحةً على المعرفة النظرية، ولا تكتفي بالعمل على الأرض، دون سَنَدٍ نظري، أو فكري، يُعَضِّدُها، ويجعلها أكثر استيعاباً لما يجري في الواقع.
فدخول حَنَّا آرنتْ، وهابرماس، على خط الفكر السياسي، من موقعهما كمُفكِّرَيْن، وتنظيرهما لمفهوم «الفضاء العمومي»، ووضع الفواصل والفروق النظرية، بين عدد من المفاهيم، في تأسيساتها الفلسفية، إمَّا بالعودة للفكر الإغريقي القديم، كما عند آرنتْ، وخصوصاً مفهوم المدينة، أو بالعودة للفكر الفلسفي الحديث، كما عند هابرماس، كان بمثابة تصحيح لمسار الفكر السياسي «العملي» الذي نَسِيَ أو تجاهَل الأُسُس النظرية التي لا يمكن لأيِّ فكر سياسي أن يكون دونَها. ولعلَّ ما يجري اليوم، في بيوت السِّياسيين، وفي أحزابهم وفضاءتهم العقائدية المغلقة، ما يكفي لفضح هذا العراء الفكري، أو «الأيديولوجي»، الذي لم يعد يستند على أي أساس نظري، باستثناء ما كان قائماً ومعروفاً، من أفكار، هي اليوم موضع تفكير ونقد ومراجعة.
وحين حاولتْ حنَّا آرنتْ أن تُجيبَ على سؤال «ما العمل؟»، هذا السؤال الذي كان طرحَه لينين، وكان بين ما أثار الكثير من النقاشات، وأصبح شعاراً عند الكثير من السياسيين، خصوصاً عند ظهور المآزق والاحتباسات، فهي لَخَّصَت الأمر، بذكاء المفكر والفيلسوف والمثقف، في الإجابة التالية، التي هي تعبير عن توسيع الأفق والرؤية، بما يتجاوز حدود الفهم الضيق لفكر وثقافة السياسي، الذي لم يحرص على تغيير نظَّاراته، رغم أنّ طبيعة وسياق طرح السؤال، وما يحمله من مُضْمرات، ليست هي نفسها ما كان طرح به لينين هذا السؤال نفسه. تقول آرنتْ «أنْ نُؤسِّسَ عالَماً نكون فيه أحراراً على مستوى الفعل والفكر» كما أنَّ «هذا العالم الجديد يحتاج لسياسة جديدة».
هنا، وفي هذا المفصل، بالذات، يحدُث الفرق بين المثقف والسياسي، وتظهر المسافة المعرفية بين الاثنين. كما يظهر العراء المعرفي والثقافي في وعي السياسي، الذي أصبح «مِهَنِياً»، ولم يعد مبتكر ومخترع أفكار ونظريات. وهذا يدلُّ على فراغ «السياسة» من «السياسيّ»، وانهماك السياسيين في تدبير الإخفاقات، وفي مراكمة الفشل الذريع في تدبير الشأن العام، وفي «القيادة»، لأنَّهُم تجاهلوا دور الثقافة، ودور المثقف في «القيادة» وفي اقتراح الأفكار. وما دامت أحزاب اليسار، دون فرق أو تمييز، كلها تتبنَّى الحداثة والفكر الحداثي، وتعتبر نفسها أحزابا أو تنظيمات تنويرية حداثية، فهي نَسِيَت، أو لم تصل بعد للفهم البعيد والعميق لمعنى ولجوهر الحداثة، وفق التصوُّرات التي ذهبَ إليها من نَظَّرُوا هذا المفهوم واشتغلوا عليه بوعي معرفي وفلسفي عميق، وهو أنَّ «أزمة الحداثة..هي أزمة ثقافية»، وأنَّ الحداثة تفترض «القطع» مع التقليد، ومع الفكر الشمولي الاستفرادي، ومع ثقافة الزعامة، وحتى ما قد يحتمله مفهوم الكاريزما نفسه من إيحاءات، كانت، في جوهرها عند الإغريق ذات معنىً غيبي، بما يعنيه هذا المعنى من امتياز يمنحُه الرب، لهذا لـ «الزعيم»، وهو ما سمعناه على ألسنة الإخوان، في ميدان «رابعة» لتبرير المعنى الغيبي لزعامة مرسي، وهو ما تكرَّر مع السيسي، في ما صدر عن مثقفين وفنانين وعلماء دين، حين اعتبروا هذا الأخير امتيازاً منحه الرب لمصر، أو هو «هِبَة النيل»، طبعاً ليس بمعنى هيرودوت.
استقالة السياسي من الثقافة، وجهله بضرورتها المعرفية في بناء فكره السياسي، هي من أعطاب المسافة التي تفصل السياسي عن المثقف من جهة، وتفصله عن واقعه من جهة ثانية.
٭ كاتب مغربي
القدس العربي