صفحات الناس

سيرة ناقصة لطلّ الملوحي/ راشد عيسى

ليس في السيرة الغضة لطلّ الملوحي ما يستحق الأخذ والرد والتأويل، فهي حين أُخذت من أحضان عائلتها لم تكن قد بلغت التاسعة عشرة من عمرها. لم تعفها حداثة عهدها بالسياسة وبالتدوين والكتابة الافتراضية، من قبيل مناشدة “الرئيس” تحقيق وعوده في محاربة الفساد وفي إنجاز التحول الديمقراطي وما إلى ذلك.

لطالما جرى استدعاء الصبية الحمصية، التي لم تكن قد أكملت دراستها الثانوية (مواليد 1991) بعد إلى فروع الأمن، وحتى إلى مقر السفارة السورية في القاهرة حيث أقامت مع عائلتها لبعض الوقت، للتحقيق في ما تعرفه عن نشاطات زملاء لها أو أصدقاء، وللتحذير من النشر على مواقع الانترنت. لكن بُعيد عودتها مع عائلتها بوقت قصير إلى مدينتها حمص جرى اعتقالها بعد استدعائها، كان ذلك في العام 2009. هكذا، لم يشفع لها لا عمرها ولا لكونها حفيدة الوزير السابق محمد ضيا الملوحي. زجت، وكان على أهلها الخوض في متاهة مدوخة لمعرفة أين تكون، بعد شهور من إنكار وجودها عند هذا الفرع أو ذاك.

حملات عديدة مكثفة لناشطين ومنظمات حقوقية. صفحات ومواقع الكترونية راحت تتابع قضية طل الملوحي. أصبحت البنت رمزاً لمقاومي النظام، الذين لم يكونوا آنذاك يلوون إلا على الكتابة والقول. وبقدر ما وعى النظام ذلك بقدر ما ذهب في قضية طلّ إلى آخر العناد، شأنه كما يفعل دائماً في إصراره على عدم الاستجابة للضغوط أو المطالب، حتى لو كان هو نفسه في مرحلة ما سيحقق مطلباً ما بنفسه. اعترف بوجود طل لديه، وسرعان ما قام بحملات مضادة لتشويه صورة البنت، فحاك قصصاً وأكاذيب مخابراتية، ليحاكم البنت ويحكمها في 14 شباط 2011 بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة إفشاء معلومات لدولة أجنبية.

ثلاث سنوات وعشرة شهور مرت وطلّ في السجن، لم تنفع مناشدات، ولا بيانات، ولا مرافعات محامين لإطلاق سراحها، على غرار ما فعلوا حين أطلقوا سراح مجرمين وأصحاب ملفات جنائية حافلة، لكن بالأمس قررت محكمة الجنايات الأولى في حمص، حسب ما ذكر محامي الملوحي، إعفاء طل الملوحي من ربع عقوبتها الأصلية “5 سنوات سجن” وإطلاق سراحها فوراً. من دون أن يكون واضحاً إن كان ذلك في إطار عملية تبادل المعتقلين الأخيرة، حيث جرى تبادل المخطوفين اللبنانيين التسعة مقابل 127 معتقلة من النساء في سجون النظام.

أقل قليلاً من أربع سنوات قضتها طلّ في سجون النظام، كانت كافية لتنهي دراستها الجامعية، وأن تستقبل حياتها بمشاريع، ومدونات وكتب، ولكن من قال إن تلك السنوات لم تكن معلماً آخر، بلا أوهام، ولا تزييف، يأخذ المرء إلى طريق واضح؟

في الوقت الذي ضجت صفحات التواصل الإجتماعي بخبر إحتمال إطلاق طل اليوم الخميس، كان هناك من يعترض على التركيز عليها أكثر من باقي السجينات. وفي الواقع، ليس التركيز على طل هنا، بل التركيز على ديكتاتورية النظام، التي طالت الجميع سواء كانوا مدونين أو مواطنين عاديين. طالت طل سواء كانت كلماتها على مدونتها غنية أو مبتكرة أو مجرد شعر.

قبل الثورة السورية كتب كثيرون يقولون إن طلّ الملوحي عارنا جميعاً، إذ كيف تسجن وردة مثل طلّ لننعم نحن خارج القضبان بمزايا الصمت وكذبة الاستقرار، والعيش الرغيد. ربما كان ذلك القول صحيحاً من قبل، لكن بعد الثورة، ومئات الآلاف من الضحايا، أولئك الذين قضوا أو اعتقلوا أو شردوا من أجل أن لا تظلم طلّ أخرى، ولا تتعذب أم كأمها بصمت على طرقات السجون، حالمة بأن تعود طلّ إلى حضنها، لم يعد ممكناً إلا أن نقول إنها عار النظام وحده، كذلك كان حمزة الخطيب وهاجر ونايف وسواهم. وسواء تأخرت طلّ الملوحي، اليوم أو غداً عن رفيقاتها، نعرف أنها لا بد ستأتي، لأن الوقت يكفي كي تعود، لأن الوقت يكفي كي يرتاح العالم من سجانيها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى