سيرياذا: الشعر محاور تاريخي/ محمود عبد الغني
نشر موقع “ضفة ثالثة” ملفّاً شعريّاً بعنوان “سيرياذا“، ضمّ رؤى نقدية وشهادات وقصائد لعدد كبير من الشاعرات والشعراء السوريين، قد يكون الأكبر من نوعه لقراءة ما يشتغل داخل قصيدة “الشتات” السوري. حين قرأت مواد الملف، شعرت بذهني يعود من جديد إلى قضايا شديدة الحساسية، يتعلق أغلبها بماهية الشعر ولغته ووظيفته في الثقافة المعاصرة. وكانت قناعتي راسخة دوماً بأنه لو كتب شاعر قصيدة، علينا أن نعيد النظر في الشعر برمته. وإعادة النظر هذه تصبح عملية مضاعفة حين يكتب الشاعر عن الحرب التي “جاءت لتشرب من دمه”.
أوحى لي ذلك أيضاً بالتفكير في القناعة السائدة في الثقافة العربية اليوم: لم يعد الشاعر موجوداً، بعد أن نشأت وتطورت تلك الذائقة القوية: الرواية. وعوضاً عن أن يخلق ذلك الأمر سجالا حيوياً، اكتفى المثقفون العرب بنقاش أحادي الجانب، بل ساكن سكون الموت.
جاء الموت إذن، ليشرب من دمائنا. فنهض الشاعر عارضاً قصيدته للاستيعاب. ولعلّ الشيء الجديد في ترشيح القصيدة للاستيعاب التاريخي، قضية تستحق وقفة فكرية متأملة. لكن دعوني هنا أقول في صفحتين أو أقل، ما أدعو غيري من الأكثر كفاءة إلى قوله في مئات الأوراق، وسيكون لذلك غرض واحد: تبيان الجسر الممدود بين الشعر والتاريخ. إن التخلي عن القصيدة هو نوع من الخيانة. وكلنا نعرف أن شعراء كثرا اصفرّت أوراقهم فتركوها، وهو إحساس عام ينطوي على الدور الثانوي الذي أصبح يؤديه الشاعر. لكن الحروب، كما دوماً، تجعل من الشاعر محاوراً تاريخيّاً له صوت جهوري، وسيّداً للاتصال المحسوس.
اتسعت الكلمة الشعرية، بعد الثورات العربية، وأصبحت لها طائفة من الدلالات هي منبعها ذاته. نؤكد هذا دون نية في وضع تقابل بين النثرية والشعرية. فالربيع العربي عرف، من جانب آخر، انفجاراً للنثرية (نبيل سليمان نموذج نادر، كما سليم بركات استثناء شعري نادر أيضاً). ويمكننا الحكم بالاعتماد على نصوص شعرية ونقدية قدّمها متن “سيرياذا شعرية” لعماد الدين موسى” (ضفة ثالثة، 3-4-5 مارس/ آذار الجاري). إننا في بداية فترة جديدة من الكتابة الشعرية، أصبح للشاعر معها ميزة وجود جديد.
بعدما أصبحت الرواية هي الأدب، عاد الشعر منتفضاً على ذاته ليصبح هو الأدب والحياة معاً في “سيرياذا”. اتسع القول الشعري، واتسعت الدلالة، وعاد القارئ، وقبله الشاعر، إلى دور كان قد اختفى. واتخذت القصيدة بنية غنائية، بناء على سمة تمييز صوت الشاعر في قصيدته. لم يعد من الحرب مهرب، حين بدأ الجانب السيئ من التاريخ في الظهور. تراجعت الخطابات الوطنية الحماسية وظهرت القصيدة المقاتلة، وعاد الشاعر إلى دوره في الحروب: ارتداء أزرار الحرب. هنا بدأت جولة الإثارة الأسطورية: سورية مجموعة مدن طروادية (نسبة إلى طروادة)، وجدت في شعرائها طريقة لقول شيء أعمق. الشعر يقول الشيء الأعمق دائماً. وقد استخدم الشاعر كل شيء للنجاح في المهمة: القول المحكم (عدد قليل من الكلمات في قصيدة حسام جيفي، أميركا)، التناغم الصوتي (قصيدة أمير الحسين، كردستان العراق)، الصوت والإيقاع (حسن إبراهيم الحسن، ألمانيا)، إبلاغ الحدث بطريقة فيزيائية (عبود سمعو، لبنان)، خدمة غرض غنائي محدد (وداد نبي، ألمانيا)، جعل النثر في خدمة الشعر (لينة عطفة، ألمانيا)، التجرد من خصائص الشعر المعتادة (تمام هنيدي السويد)…إلخ
سيُكتب الكثير، من السرد والشعر واليوميات، عن الحرب السورية. أدب طروادي بدأ في الظهور يشهد على الهدم والبناء، ثم الهدم والبناء. ولعل من شأن ذلك خلق نماذج أولية لأدب جديد. أدب له صيغة طقسية، وطاقة النطق الدقيق بالألفاظ القادرة على وصف ما يحدث. الشرُّ يخرج من التاريخ، واللغة تقوم بوصفه وإبلاغه. هنا تنتقل القصيدة من المعقّد إلى البسيط. وتبدأ في الامتلاء بالأصوات الحية، التي ينوي تقاسمها مع الناس في العالم، الذين بقوا منذ سنة 2011 في حالة تعجُّب دائمة، والقصيدة حسب بول إيلوار: “هي تطور لحالة تعجُّب”. وقد أضاف أوكتافيو باث لحالة التعجب هذه “حالة التوتر”.
لوقع أي شيء كتب شعراء ملف “سيرياذا” قصائدهم؟ ظاهريا الجواب هو: لوقع الحرب. لكنّ هناك جواباً ما يحتوي على أشياء سرية؛ القصيدة تُكتب لإزالة الخوف، حسب إدغار موران. والحروب تنقّي اللغة وتعيد إليها طبيعتها الأصلية، دون ابتعاد عن طبيعتها الدلالية والرمزية المتشعبة. تلك هي ممتلكات القول الشعري، ولا يستطيع التفريط فيها، مثلما بكى أحد شعراء “سيرياذا” حين جردته الحرب من ممتلكاته التي يحتويها بيته.
ضفة ثالثة