سيرياذا شعرية: رؤى نقدية لقصيدة “الشتات” السوري/ عماد الدين موسى
-1-
يدين نحت عنوان هذا الملف، “السيرياذا”، إلى لقاءات سورية جرت في مدينة فيتربو الإيطالية لتدارس الكارثة السورية ضمت عدداً من النشطاء الحقوقيين والمدنيين والمثقفين السوريين في الداخل والخارج. واضح أنه نحت مكوّن من سفر هوميروس “الإلياذة” وسورية باعتبارها موضع اشتغال الصراع الذي تشير إليه ملحمة شاعر اليونان الكبير. قد لا تتشابه أحداث الملحمة اليونانية مع ما يجري في سورية غير أن هذا لا يقلل من “ملحمية” الكارثة السورية التي نشأ سببها البسيط – المركب في آن، في محاولة قطاع واسع من الشعب السوري الالتحاق بركب “الربيع العربي”، كما لاح حتى تلك اللحظة، لكنَّ المحاولة المتسلحة بأقصى درجات السلمية، والملحَّة على بعدها السوري، قوبلت بأمواج من النيران التي فتحتها القوى الأمنية للنظام السوري على الذين كانوا يتظاهرون طلباً للتغيير.
لا مجال هنا لسرد فصول تلك الملحمة، التي قد تحيل، في الحالة السورية، إلى اللحم والدم الصرفين المهرقين على الملأ، فلهذا مقام مختلف. للملحمة، هنا، وجه آخر: إنه الشعر الذي لطالما ارتبط بالملاحم (الأدبية) بل كان عمادها. الشعر الذي يحسُّ، بأدوات استشعاره الخاصة، بالكارثة، أحياناً، قبل وقوعها. لم تعرف سوريا الأسد (الأب والابن) حريات تعبير أدبية ما كان يجعل الشعر، وأشكال فنية أخرى، يلتمس طرقاً جانبية للتعبير..الآن وبعدما وقعت الواقعة وحصل ما يعرفه الجميع، نحاول، في هذا الملف الأكبر من نوعه، الوقوف على الوجه الشعري لملحمة القتل والدمار والاعتقال والتهجير واسع النطاق الذي تعرضت له قطاعات واسعة، ومتعددة، من الشعب السوري. ما واقع هذا الشعر؟ كيف يفكر بما يجري؟ أي رؤى تسكنه؟
أ . ن
نبدأ بمقاربات نقدية لشعرية “الشتات” السوري الراهن:
حنين مريض وسلالة مبتورة/ علي جازو
ما من رابط فوريّ بين الشعر والالتزام الاجتماعي، إذ لا واجبات مفروضة على أحد. إذا كانت كتابة الشعر تطهيراً للأنا فإنها اعتراف مسبق بذنب بجريمة لم يكن للشعر أي دور فيها. من الأفضل القول إن الشعر عملٌ موجّه ضد القبح، حتى عندما تكون البشاعة والجريمة موضوعاً له.
***
يصعب الخوض في ما كتبه الشعراء السوريون منذ ربيع 2011 حتى اليوم. ما من جهة أكاديمية أو بحثية استطاعت حتى الآن تقديم طابعٍ فارقٍ لوجهة الشعر السوري.
هناك داخلٌ سوريّ يغلي ويفاجئ، يتحطم ويتحول بسرعة من حال إلى حال. لم تجد القصيدة السورية إزاء تحولات عاصفة ما يعينها على اجتراح “عاصفةِ شعرٍ” إذا صحت العبارة، وهذا ليس بالأمر السيئ.
الآن يخيّم الشتاتُ على حال معظم الشعراء بعدما صاروا خارج سورية. لكنني لا أفضل اعتماد “الداخل” والخارج” هنا لتمييز ما يُكتب داخل سورية عمّا يُكتب خارجها. ورغم الفرق الكبير بين الحالتين، إلا أن هذا الفصل يوحي بوجود نوعين من الشعر. أفضل تناول نماذج بعينها. قصيدة – ديوان “سوريا” لسليم بركات كانت حدثاً استثنائياً. لم يكن للداخل أو الخارج أثرٌ في هذا النموذج مثلاً. ما كتبه ويكتبه “محمد رشو” من نصوص لافتة تكاد تختصر حال البلد وأهله. تجد الحطام وتجد رحلة الهروب من بلد لبلد. ليست رحلة الشتات هنا توثيقاً بقدر ما هي مجابهة جوانيّة نفسية وشعورية عالية وفريدة التناول، ذات زمن مركّب. جمْعُ ما لا نتوقع حضوره معاً، نراه ماثلاً في قصائد محمد رشو. ديوان عارف حمزة “لا أريد لأحد أن ينقذني”، صرخة نقيضة ضد من يغيث ويريد إنقاذ من هو على وشك الموت. “الخريف هنا ساحر وكبير” لجولان حاجي حرثٌ وحفر متأنيان في أرض وعرة مخيفة وأليفة بآن واحد. هذه أمثلة لا تجد فرقاً بين الداخل والخارج.
***
لكننا بالمقابل نجد نماذج أخرى يغلب عليها طابع الحنين. تلعب الذاكرة دور الطبيب. عندما يصعب تحمّل آلام الواقع والمعاش، تبرز الذاكرة بما تحمله من حنينٍ واهمٍ للمكان والعائلة، كي تقدم نوعاً من السلوى، مكاناً للإقامة الضيقة والآمنة، بعدما غدا المسكن الأول حطاماً، مكاناً من المستحيل ترميمه والعودة إليه. يبدو السوري عموماً في مكان أعزل منبوذ. بيته الأول لم يعد موجوداً، بيته الجديد ليس له. إنه يطفو على المكان الذي يلفظه، كما لو كان ينجو من غرق أو يشكل علامة غرق يتكرر ولا ينتهي.
***
هناك نوع من مساواة قسرية فادحة في تعميم مصائر السوريين، لكن القصيدة تحاول أو ربما عليها أن تحاول الهرب من المساواة هذه لأنها تفضي إلى نوع من التشابه والتماثل الخانقين. الخروج السوري الكبير بُني أساساً وحدث حقيقةً بسبب رفض التماثل بما يعنيه من خنوع، من حصر الأفراد المتنوعين داخل اسم واحد وصوت واحد. لقد تحطم القيد، ومعه تحطمت العائلة والسلالة بمعناها القرابيّ والشعريّ. لكن غلبة الحنين هنا قد تفضي إلى نوع من العودة إلى كنف العائلة، بما تمثله من تدجين وتكيّف اجتماعيين ولغويين. لهذا أرى فيه نوعاً من الخطورة على أفق الكتابة والتفكير. حدّة الواقع وقسوته لم تجدا بعدُ لغة لها معادلها الشعري في حدّة الانفصال عن التلقي السائد وطرق الكتابة الخطابية الشائعة. يمكن للقصيدة السورية أن تقدم معرفة أذكى وأكثر أنسنة وحميمية إذا هي نقلت اهتمامها وشغفها خارج أرض الحنين وخارج السلالة العائلية. في النهاية نحن “لا نكتب مثلما نكون، بل نكون مثلما نكتب”. الكتابة- القصيدة بحد ذاتها واقعٌ فريد وحدث خاص. على هذا النحو، يمكن السير في طريق جديد على حجارة قديمة قدمَ الأمكنة كلّها.
شعر بين انتمائين/ مازن أكثم سليمان
تتأسَّسُ شرعيّةُ سُؤال الشعر السوري في الشتات من حيث المبدأ على ثنائية قياسية تقليدية هي: (القرب/البعد)، غير أنَّ هذا الفَهْم الرياضيّ بخلفيتِهِ الفكريّة الميتافيزيقيّة لا يصمدُ أمامَ طبيعة الوجود الشعري للإنسان في العالم في جذوره المَفهوميّة (المَجازيّة) النيتشويّة والهيدغريّة، وأمامَ مفهوم الاختلاف الذي ينبسِطُ تحديداً في الشعر بوصفه ناهِضاً على خُصوصيّة الحدَث السوري من جانبٍ أوّل، وخُصوصيّة كُلّ شاعرٍ من جانبٍ ثانٍ.
من نافل القول أنْ يحملَ كلُّ شاعرٍ سوريٍّ موقفاً ما ممّا يجري في وطنه، سواء أكان مُقيماً في الدّاخِل السوري، أم كان مُقيماً في الخارج. وهذا يعودُ بطبيعة الحال إلى بديهيّة الانتماء والهُوِيّة الموروثة طبيعياً أوَّلاً، فضلاً عن البُعد الإنسانيّ الذي يُفترَضُ أنْ يدفعَ الشعراء إلى تقديم رؤاهُم الخاصّة في ما يتعلَّقُ بالأحداث الكونية الكُبرى ثانياً، فما بالُنا إذا كانت هذه الأحداث تخصُّهُم على نحوٍ شخصيّ ووطنيّ.
لعلَّ نسبة غالبة من شعراء الشتات السوريِّين قد غادروا البلاد بعد فترة قصيرة أو متوسِّطة من بدء الثورة، ولكُلٍّ منهم أسبابُهُ ودوافِعُهُ المُرتبِطة بجغرافيّة الحدَث وتداعياتِهِ وانعكاساتِهِ المُباشَرة أو غير المُباشَرة. ولهذا يُمكن القول إنَّ معظم هؤلاء الشعراء قد عايَشوا الانفجار السوري بما انطوى عليه من أحلام عارمة في الحُرِّيّة والعدالة والخلاص، ثّمَّ عايَشوا مآلات هذا الانفجار التراجيديّة العنفية الهائلة، على أنْ نُلاحِظَ أنَّ جميعَ الشعراء السوريِّين في الخارج _حتَّى ممَّن كانوا قد غادروا البلاد من قبل بدء الثورة_ عرَفوا الاستعصاء النفسي والاجتماعي التاريخي لعُقود الاستبداد المَديدة، وتشرَّبوا بعُمق مَخاوِفَ القمع وهَواجِسَ الرعب والعَماء المُنظَّم لآلة تركيع الدولة الأمنيّة للأفراد والمجتمع التي كانت قائمة، ثُمَّ تلمَّسوا بعدَ ذلكَ مرحلة تحطيم التابوهات التي مثَّلَها انبثاقُ الحدَث الثوري، وتلقَّفوا لأوَّل مرّة نتائِجَ خلخلة البِنية السُّلطويّة المُستغلِقة التي كانت تُحكِمُ الخِناقَ على حُرِّيّة الرأي، وتكبَحُ فضاءات التَّعبير والنَّقد والكينونة الأصيلة للذوات الفرديّة والجَماعات المُختلِفة في البلاد.
وعلى هذا النَّحوِ، تتأكَّدُ موضوعة مُجاوَزة سُؤال (القرب/البُعد) القياسيّ الرياضيّ في سَبر مَلامِح شعراء الشتات، ليسَ فقط بحُكم مسألة المُعايَشة والانتماء؛ إنَّما أيضاً لأنَّ سُؤال الهُوِيّة قد حضَرَ بقوّة لدى هؤلاء الشعراء مُشبَعاً بالقلَق والألم والخوف على المُستقبَل الوطني من ناحية أُولى، ومُتشرِّباً من ناحية ثانية _وبطبيعة الحال_ دماءَ الدَّمار والخراب والمُعاناة التي مزَّقَتْ عُموم النَّسيج الوطني السوري، وأخذتْ إلى جانب البُعد السياسيّ بُعداً إنسانيّاً شديدَ الإيلام والخُذلان والتَّشظّي، فضلاً عن امتلاك شعراء الشتات سمةً إضافيّة نوعيّة في مُعالَجتِهِم لموضوعة الهُوِيّة، ترتبِطُ عميقاً بأسئلة الذّات الفرديّة والذّات الشعريّة بينَ الانتماء الأصليّ الموروث بيولوجيّاً للوطن السوري، والانتماء الجديد لمُجتمعات الشتات التي توزَّعوا فيها، وهيَ المسألة التي يُفترَضُ أنْ تُغنيَ قصائدَهُم إنْ من زاوية الجدَل الهُوِيّاتيّ والصِّراع الوجوديّ بين ائتلاف أو اختلاف الانتمائيْن؛ أي من ناحية تراكُبيّة الموقف الإنساني بين الانفصال والاتّصال من جانبٍ أوّل، وبين الاغتراب والاندماج من جانبٍ ثانٍ، أو من زاوية فنِّيّة وجَماليّة وتجريبيّة تتعلَّقُ بطبيعة التَّلاقُح النَّصِّيّ بينَ معجمِ مفردات القضية السورية وصورها وأحداثِها، ومعجمِ مفردات الحياة المُغايِرة التي وجَدوا أنفسَهُم في رحابِها وضمنَ صورِها المُتعدِّدة بتعدُّد كيفيات الوجود في مُنحنياتِها وأحداثِها، وهو الأمر الذي يُتوقَّع أنْ يمنَحَ عَوالِمَ قصائدهِم فضاءات واسِعة وغنيّة وقابِلة لأنْ تُحقِّقَ المقولة النَّقديّة القائِلة إنَّ النُّصوص هيَ فائِضٌ وجوديٌّ (زيادة في الوجود) لا انعكاس حرفيّ أو مُحاكاة تقليديّة للكوارث القاسية كما تنبسِطُ في سياقِنا هذا في الواقع المَعيش سوريّاً.
فإذا كانَ وجود شعراء الدّاخِل حتّى هذه اللحظة في قلب المَعمعة الهائِلة يعطي قصائدَهُم مصداقيّة تتَّصِل بحساسيّات الخطر والمُعايَشة والصِّراع المُباشَر مع أبسَط مُتطلَّبات البقاء على قيد الحياة في المَناطِق المُشتعِلة، أو على الأقلّ تتَّصِلُ يضرورات الصُّمود المَعيشي والاستمرار الحياتي في أقرب دلالاتِهِ في جميع المَناطِق السورية، فإنَّ شعراء الشتات يمتلكونَ سلاحاً آخَرَ لا يقلُّ أهمِّيَّةً عن أسلحة أو أوراق قوّة شعراء الدّاخِل، وهوَ سلاحٌ يُضفِي على قصائدِهِم مصداقيّةً نوعيّة من ناحية أُولى، ويُحمِّلُهُم مسؤوليّة أخلاقيّة وإنسانيّة مُضاعَفة من ناحية ثانية، وأقصدُ بذلكَ واجبَهُم ودورَهُم المنوط بهم وبشعرهم تحديداً في إيصال الصوت السوري ومُعاناتِهِ ومَظالِمِهِ إلى العالَم، وهي قضيّة تُعيدُ تعيين الوظيفة الشعريّة لديهِم بما يتجاوَزُ حُدودَ الانهِمام بالمُستوى الفنِّي _على أهمِّيَّتِهِ بوصفِهِ شرطاً مُلزِماً أوَّلاً وأخيراً_ إلى حُدودِ الرِّسالة الإبداعيّة التي تُنتِجُ تلقائيّاً تعريفاً عريضاً لمَفهوم الالتزام الفنِّيّ لدى شعراء يَعيشونَ في هذه الحقبة الخصبة والمريرة في آنٍ معاً. ولابُدَّ في هذا المضمار أنْ نلاحِظَ حجمَ الاهتمام الخارجي بالمُبدعين السوريِّين، وكثافة النَّشاطات التي يُقيمونَها في بُلدان الشتات، وكثرة الجوائِز التي ينالونَها، وهيَ الأمور التي تؤكِّدَ أهمِّيّة الدور المأمول منهم من ناحية أُولى، وقدرتهِم من ناحية ثانية على فعل الكثير لصالح خدمة القضيّة السورية.
ويبدو أنَّ هذا الحديث يقودُنا بالضَّرورة إلى الإشارة إلى قضيّة غاية في الأهمِّيّة، وتخصُّ على نحوٍ مُشترَك شعراء الدّاخِل والشتات، وتتعلَّقُ عميقاً بطبيعة الكتابة الشعريّة التي ينبغي عليها أنْ تتوخّى الحذر أمامَ هول الحدث الذي يُمكِنُ أنْ يستهلِكَ الروح الشعريّة ، وأنْ يُصادِرَ جَمالياتِها، إنْ لم يتمكَّن الشعراءُ من تخليق مَسافاتٍ زمنيّة وفضاءات مَجازيّة ومُعادلات إبداعيّة تقي المُستويات الفنِّيّة والجَماليّة من خطر السُّقوط في المُباشَرة الانفعاليّة أو الخطابيّة المُطابِقة أو التَّوثيق القاصِر الذي يُفترَضُ أنْ تنهَضَ بهِ أجناسٌ أُخرى أو حقول مَعرفيّة غير الشعر، على أنْ نعِيَ أنَّ المَسافةَ الزَّمنيّةَ لا تعني فقط مرور الوقت لامتصاص الحدَث نفسياً ووجودياً، وإعادة إنتاجِهِ فنِّيّاً وإبداعيّاً؛ إنَّما تعني أيضاً قدرة الشعراء المُبدعين على ابتكار آليّات وأدوات وأنماطٍ من الدِّربة والتَّجريب وهُمْ حتّى في خِضَمّ الصراع وضوضائِهِ وجُنونِهِ القاسي العنيف، كي يتمكَّنوا من توليد مَسافات زمنيّة تُمكِّنُهُم من خيانة دائرة الحدَث المُباشَرة، ومُغادَرَتِها مَجازياً لرؤية تفاصيل هذا الحدَث من خارج تلكَ الدّائِرة المُحكَمة الإغلاق، وهيَ المسائِل التي تسمَحُ بالوفاء لمَفهوم الالتزام الفنِّيّ إنْ على المُستوى الفكريّ المُرتبِط بالموقف الوطني والإنساني الكوني، أو على المُستوى الإبداعيّ الذي ينبغي أنْ يُضيفَ شيئاً للعوالِم الوقائعيّة بفتح أساليب وجود جديدة في العَوالِم الشعريّة.
إنَّ للالتزام الفنِّي بُعداً آخَر لابُدَّ من تلمُّسِهِ بحِنكَةٍ لدى الشعراء السوريِّين، وبوجهٍ خاصّ لدى شعراء الشتات منهم الذينَ يُنتظَرُ من قصائدِهِم أنْ تحملَ عبء إيصال الرسائل الحارّة المُتَّصِلة بالحدَث السوري للعالم- كما ذكرْتُ من قَبْل-، وهذا البُعد مُرتبِط بالخيط الإبداعي الدَّقيق الذي ينبغي أنْ يفصِلَ بين من يكتفون بنقل الصورة شِعرياً بوصفِها صورةً تجريديّة خاصّة بحربٍ مذمومةٍ مكروهةٍ بما تنطوي عليه من دمٍ وظُلمٍ وآلامٍ إنسانيّة كُبرى كما في جميع العُصور، ومن دون تحديد المَسؤول الأخلاقي وإدانتِهِ فنِّيّاً، ومن يتمكَّنونَ بذكاءٍ إبداعيٍّ من تمرير الموقف السياسي الأخلاقي العميق ضدَّ المصدر الأصليّ للخراب والدَّمار مُتحاشِينَ أوَّلاً تزييف المُستوى الوقائعيّ عبر الإشارة إلى النتائج وتجاهُل الأسباب، وقابضِينَ ثانياً على قدرة تخليق الطاقة الشعرية الفنِّيّة الجَماليّة في الوقت نفسِهِ الذي يتمسَّكونَ فيه بأصالة الموقف الإنساني الفطري المُناهِض للحرب والقتل بما هوَ موقف وجودي كوني كُلِّيّ الأبعاد، ومُدافِع بطبيعتِهِ عن الروح الكيانيّة المُتحيِّزة دائماً للعدالة والخير والحُرِّيّة.
دور القصيدة في الكارثة/ يسرى السعيد
في قراءتنا هذه سنلقي الضوء على أهم التجارب الشعرية التي حاول الشعراء السوريون خلالها أن يصفوا ببلاغة أقلامهم حال البلد في ظل الحرب، التي ستدخل سنتها السابعة، فمن عام 2011 وحتى الآن لم يتوقف النزف السوري، ولم يتوقف الشتات أيضاً.
وما يثلج الصدر حقاً أن ما كتبه أولئك المبدعون كان يمثل تجارب حية ومعاشة، حتى جاءت قصائدهم كصورة صادقة لما عاشوه وعاشه المواطن السوري ولما يزل حتى اللحظة. وما يؤلم أن تلك القصائد نبتت في أرض الحرب، وأثمرت في تربة السلام بعد أن هاجر الشعراء خوفاً وطلباً للأمان المفقود.
” خسرتَ أرضاً، سُميَّتْ أرضَ الخسارات، وربحتَ يوماً آخرَ لتصطادَ فيه ذاكرةً جديدة
لهذا أنت ابنٌ طفرةٌ زلزلٌ للحياة
ولمْ تكُ ابناً مطواعاً كمعدنٍ لينٍ للموت!”
بهذه الكلمات عبر الشاعر السوري محمد المطرود عن روح الشاعر التي غادرت موطنها الأم، وخاضت تجربة الاغتراب المر في بلاد الشتات، والتي كان عليها أن ترسم خطاً جديداًً مغايراً لما كان عليه في الوطن الأم، وقد عبر بكلمات بطعم المرار عن تجربته في الغربة:
“دفترُ عائلتي القديمُ، هو دفترُ عائلتي الجديدُ، لَم يزِد موتاً
وحريقاً، وزادَ تشظياً وعناقاً للجهات، كلّ الجهات، أطلَّ
من نافذة الحياةِ، مدَّ لسانَهُ الطويلَ للريح فأخذتهُ الريحُ
وحركتهُ كحريق يُرى من السماءْ”.
ولسنا قادرين على معاتبة الشاعر لتشاؤمه، ولسنا نتوقع أن يكون الشعر الذي نما في رحم الحرب وتلقّح من نطفتي الخوف والتهجير أي فرح، أو بهجة، فالمطرود حاله كحال الكثير من الشعراء الذين غربتهم حرب سورية، ونقلتهم لبلاد لما تستطع أن تمحو ظلال وطن عشش في قلوب أولئك المفرطين في الحساسية، والذين تركوا للشعر حرية البوح، ويغمرنا الشاعر محمد المطرود بحفنات الحنين المر لكل التفاصيل التي لم ولن تزول، ويبدع المطرود بسبر أغوار الجسد والروح معاً من خلال قصائده بلمسةٍ شعرية راقية، وبصور محببة لقلوبنا وذاكرتنا معاً.
“قبلَ أربعينَ سنةٍ
دَقَقَت أمي وشماً بحجمِ حبةِ العدسِ على يدي اليمنى
قالَت: ” للذكرى”.
لمْ أكُنْ قَوياً لأتخلصَ من إبرتِها
والرمادِ الذي عجنته بالكحلِ وبعضِ حليبِها
قبلَ خمسِ سنوات
تحديداً بعدَ سنةٍ من بدءِ مسلسل الموتِ في بلدي”.
الصور التي لونت أشعاره كانت تلون أيام الماضي وما زالت ماثلة في حاضر الذكرى التي تتعب ولا تستريح.
ومن هناك من حمص الجريحة والذبيحة تَمْثُل أمامنا تجربة الشاعرة المبدعة نادين باخص التي سجلت بقصائدها أرشيفاً كاملاً من الألم، و طقوس الحرب الدامية التي دمرت المدينة،، ودمرت الإنسان معاً. ففي ديوانها ( حمص… ويستمر)، تجتمع اليوميات وتتكىء على خاصرة مذبوحة، ومفجوعة، وتعيش كل الأحداث التي تعبر عن أزمة الحرب، فالقذائف، والتفجيرات والدم المسفوك يغطيان مساحة الذاكرة والحرف واللغة.
“هنا..
يكادُ الموتُ أنْ يكونَ الوحيدَ
الذي يُخلص لكَ
من دون أن يكون بينك وبينه خبزٌ وملح.
بهذه الكلمات تعبر نادين عن حال حمص تحت سقف الحرب، فهي قسمة ضيزى، بين الإنسان والموت الذي يتقاسمه لحظاته، ويندمج معه حتى يمتصه، وينهي تلك الحياة، وفي ديوانها ترسم آفاقاً للرؤى الجديدة التي صنعتها الحرب، وكونتها، ولم تكن تلك الرؤى مألوفة لدى الناس، ولا حتى لدى أصحاب الحس المرهف ونقصد بهم الشعراء.
وفي نفس اليوميات التي نشرتها باخص تحملنا الكلمات إلى مآلات النفس البشرية في زمن الحرب، وتحولاتها الداخلية، مما يغير طريقة تفكير تلك الذات بل ويقلبه أيضاً رأساً على عقب.
“كنتُ في ما مضى من الزمان الحمصيّ
حين أطأُ إسفلتَ الطريقِ
أُحسُّ كم أحبّ هذه الأرض،
اليوم وأنا أسيُر على أطرافِ أصابعي
لا أملكُ إلا أنْ أُحسَّ
بخوفي من حقدٍ ما
فُخّخَ به الأسفلتُ نفسه”.
لقد استطاع شعراء الشتات أن يصوروا المعاناة التي عاشها السوري في أرضه، لأنهم عاشوا تلك التجربة، ولأنها كانت سبباً مباشراً في تغريبتهم فكانت قصائدهم غنية بالواقع، وغنية بالخيال أيضاً، لكن الخيال الذي تأثر بالواقع وكان انعكاساً مباشراً له، فحتى الذاكرة تشوهت، وعانت بسبب ضغوط الحرب وقسوتها.
“لم أكن أتخيّلْ
أنّ الذّكرى يمكن أن تموتَ أيضاً
من شدّة التعذيب
ولا تجد لها قبراً،
فقط تغور تحت الأنقاض”.
وهنا تستوقفنا الحساسية الفائقة التي تميز أولئك الشعراء، والتي فاقت كل تخيلاتنا في الوصف، فقد جاءت كلماتهم تعبيراً مباشراً عن المصائب والأحداث التي عايشها السوري، ولم يألفها، والتي لم ولن يعتاد عليها، فهذا رائد وحش يناشد المطر كي يظهر وجهه أطفالنا الذين قضوا تحت أنقاض البراميل والقذائف، وهو يستخدم صوره المباشرة ذات الزمنن المعاصر جداً، والبيئة الواقعية لكن بلغة الشعر فيقول:
“مطرٌ أيتها السماء
مطرٌعلى الوجه الصّغير
وإلا ضاع بين الأنقاض.”.
وفي ركن آخر من الديوان يتساءل رائد أسئلة وجودية تحاكي الزمن المعاش؛ المفروض على أولئك الين هجرتهم الحرب، وتخطت انتماءاتهم:
“كيف يكون لنا ما للغيوم؛
تذهب دون أنْ تدري معنى لـ”أين”؟؟
كيف يكون لنا ما للجبال؛
تبقى دون أن تفكر بفلسفة لـ”هنا”؟
لقد تغيرت مواضيع الشعر وتغيرت دواوينه، فشعراء الشتات هم الذين كتبوا قصائدهم لتسجل أحداثاً عاشوها، وعانوا منها كما عاشها أهلهم وذووهم، وأصدقاؤهم ممن بقي بعد اغترابهم. ولذلك فلم تعد ليلى ولا عبلة هما المراد بالقصيدة؛ بل الدار والشارع والرفاق الذين ما زالوا على منصة الحرب لتنفذ بهم إعدامها بأشكال مختلفة، وها هو عمر يوسف سليمان ينزفف حروفه متسائلاً:
هذه قريتي
إنما أينَ الحجارةُ المغسولةُ بالدخانِ؟
وأينَ رائحةُ البارودِ القريبة؟
أينَ أخي وقد كنا واقفَين على الشرفةِ بانتظارِ الذبحْ؟
أينَ أصابعُ الأطفالِ الممزقة؟؟”
ولعل تلك الأسئلة وبكل ما تحمله من حزن تعبر بصدق عما عاشه الذين عانوا من الاغتراب، ومن الهجرة القسرية وما حملته من صور التيه، والضياع، وطقوس الحرب وما فيها من قصف وقذائف وموت وفقدان وخسارة للأهل والأصدقاء والجيران، والمسكن، والأرض، وفوق كل هذا الأحلام التي ضاعت وضاع معها كل ما بُنيَ عليها من مستقبلٍ أو حياةٍ راغدة.
وهذا حسن الشاحوت الشاعر السوري المغترب في ألمانيا يطلق زفرات الأنين والخيبة والحنين مندمجة بقصيدته، وهو الذي ذاق طعم الهجرة المريرة عن أرض الوطن:
” كنتُ أهذي بأسماء من رحلوا
تاركاً قصيدتي لصق النافذة
تتنفّس
خشية أن تصاب بالعدوى
الأمرُ بسيط جداً
ابتعدت عني رائحة البارود”.
تلك القصيدة الصديقة التي مثلت عكازاً استند إليها الشعراء المغتربون ليعبروا عما يجول بخاطرهم وعما كان، وعما صارت إليه حالتهم من ضياع، وفقدان للهوية، ولمكونات الحياة التي سلبتها منهم الحرب، ولم يعد ممكناً حتى أن يتصوروا العودة إليها لأن الحرب طالت، ولم تنته بعد. لذلك جاءت القصائد مرآة عكست كل الوقائع التي صورت الأحداث والمشاعر في ظل الحرب الدامية التي لم تبقِ ولم تذر.
وفي سلسلة شهاداتها تكتب وداد نبي شهادتها المعتقة بالخيبة:
“الأسى
هو أن تزورَ أنقاض بيتكَ في الحلم
وتعودَ منهُ وقد علق الغبارُ على يديك”.
وهكذا لم تترك لنا الحرب آفاقاً أوسع، ولا أحلاماً اكثر نضارة، ففي زمن الحرب تتساوى الأحلام مع الواقع؛ بل تتجاوز الأحلام في كآبتها الواقع لأنها مزيج حدث كان، ورغبة تلاشت. وبذلك تغدو القصيدة نسيجاً متكاملاً من الألم والأمل والأشواق والحنين والانعتاق من الماضي، والرغبة في تجاوز الخيبات التي تكبل تفاصيل حياة أولئك الشعراء، وتحملهم لتجاوز الذكريات التي عاشوها، نحو حياة جديدة تفترض التعايش والاندماج؛ مع كل ما تخبئه لهم من عوالم غريبة لم يعتادوها، بعد أن ودعوا وطنهم وعالمهم الأم:
” أودع الشوارع؛
أتهجاها كما لو أنها مكتوبة بلغة بريل/
كما لو أنني أقرؤها للمرة الأولى .
أودع البيوت ؛
أمرر عليها نظري كما لو أنها جهاز بصمة العين /
كما لو أنني أخزن ما استطعت منها في الذاكرة”.
بهذه الشحنات العاطفية العميقة يودع فايز عباس وطنه، بالكثير من الألم، والكثير من الشوق الساكن في القلب وعذاب اللحظات التي عاشوها في بلادهم، كما كتبوا وبحرفية كبيرة؛ بل وتفننوا في رسم الحروف التي عبرت عن عذاباتهم في الغربة، ولوعة الشوق الذي لا ينطفئ، ولا يبدو من فرط المعاناة أنه سينطفئ يوماً. هذه هي حياتهم، وتلك هي معاناتهم، ولا يخفى على أحد أن الغربة كانت دائماً موضوعاً خصباً للأدب، فكيف إن كانت غربة قسرية، مفروضة بسبب ظروف الحرب وتشريدها؛ فهل سيستطيع شعراء المهجر حقا تجاوز الماضي، وآهات الوطن المدفونة في تفاصيل وجودهم السابق؟ أم أن تجاربهم الشعرية ستظل تكريسا لحالة الفقد والخذلان الذي يخيم على الحرف، ويطغى على القصيدة؟.
ضفة ثالثة
-2-
كلب أعمى/ لواء يازجي
ليس للشعر دور أخلاقي، لكنْ للشاعر دور. ليس على الشعر حرج أن يصمت، أن يصاب بالفصام أو أن ينأى بنفسه فيتأمل. إذ إن لتحميل الشعر مهمات سياسية واجتماعية وتاريخية تبعات لا يحمد عقباها “شعرياً”… عواقب مضرة بصحة الشعر. أما أن يكون للشاعر مهمات، فهذا أمر آخر. لكن لا بدّ من حماية الشعر من أعراض البروباغاندا، علل التسييس و”شعر المقاومة”، حمّى الآنية وبردية غسل الضمير وأوهام تغيير الواقع السياسي وبالتالي تحتّم تحوّل الشعر إلى كلبه الأعمى.
الشاعر إن كان بدوره غصن من شجرة ينحني أكثر من غيره –ربما- أمام النسيم، والفصول، والفضول لا بدّ أن يتأثر بالعواصف والحرائق ومروحة هيلكوبتر تهبط في حقل من الصبار، فيطير الشوك. الشاعر الذي ينحني كغصن ليلمس ماء الساقية سيتألم عندما يلوي الجنود العابرون عنقه؛ جنود الكمين، كمين النهر الذي ستطفو على سطحه أجسام الأطفال الذين لم يشربوا الحليب وهم يراقبون الألعاب النارية تلك الليلة.
على الشاعر ما على غيره من حقوق وواجبات: على الطبيب مداواة الجريح الواقف عند بابه قبل أن يسأل من الذي أخطأ فلم يصبه في مقتله، وللشاعر أن يكتب ما يشاء. حريّ به أن يكون أخلاقيا (ما الأخلاق في الحرب؟- يجيبني صوت هامس: الشعر ليس نسبيا). يمكن له أن يكون حكيماً، أخلاقياً، عاشقاً، أباً وأماً، طفله هو… يحق له أن يكون عبثيا وغاضبا، متفائلا دون سبب، أو نادلاً… حزينا أو حتى يسير على حبل في سيرك الأحلام. الوحيد الذي سيحاسبه هو شعره، والوحيد الذي ينتظره هو شعره.
ماذا يمكن للكلمة أن تفعل؟
أن تتحرر وأن تُخلص لما يجري داخل مائها الحيوي؛ الداخل كانعكاس للخارج، الخارج كانعكاس للداخل. ربما ليس لها مناص إن لم تكن مؤهلة لتحمل طاقة الشعار المحدودة.
لا يمكن إعادة بناء أحجار بيت مهدم
لا يمكن سحب خيط من غادرنا لنعيده
لا يمكن لنا أن نكبح جماح الشر الذي حان فانفلت
للخيال أن يفعل ذلك، وللكلمة: سرج الخيال اللطيف.
الشعر “الغاسل” يغسله الوقت، ألم تسألني إن كان شعر الفترة جاء ليغسل الضمير؟
يمكن للكلمات أن تتفتت في الحرب كجدار.
يمكنها أن تكون أيضاً ثقب الجدار الذي نرى من خلاله، من الاتجاهين.
للشعر أن ينتظر، أن يتقلّب ليلاً، أن يراقب وأن يخاف (يمكنه بالطبع أن يحزن ويفرح و”يتحمس”) للشعر أن يتأمل، أن يقترب ويبتعد، أن يقفز في هواء المجهول، أن يحصي الأصابع المرمية على الأرض… ألا يخبر أحدا. أن يهمس: كنت أعرف أن ما حدث سيحدث.
تأخر الشعر، فقلقت.
كانت الصورة.
عندما حان فهمت.
الشعر خمر من هذا الزمن
“زمن النهايات القصوى”، من جديد.
كنت بعيداً، لكني رأيت/ عيسى الشيخ حسن
في عام 2010 بدأت أفكّر في العودة، كان الأمر يحتاج إلى قليلٍ من الشجاعة، كانت عشر سنوات من الغربة والفقد، قد فعلت فعلها، ولكنّني لم أعُد، وشاهدت الربيع العربي من بعيد، والحراك السوريّ أيضًا، غير مصدّق، فالشجاعة التي احتجت إليها، كانت هناك تصوغ مشهدًا مختلفًا، لا يعرفه البعيد مثلي، تظاهرات وأعلامًا وأناشيد، ورهبة أيضًا. يتصارعُ فيّ الشاعرُ والمعلّم؛ الشاعر المليء بأسباب النور والحياة لينتصر للشمعة، والمعلّم المشفقُ على أبنائه من عقابيل هذا الصراخ، وبين هذين كان السوريّ فيّ يقرأ المشهد، ويروي تباشير الغناء التي لم تكتمل. لست في صدد تحليل المشهد، بقدر ما أضع موقعي منه ناظرًا وناطرًا، المشهد الأسطوري المنبعث من حلم ببلاد جديدة تعيد تأليف الحياة والناس والقصائد، والمشهد المنذور لألف كارثة. أعادت حكاية دائرة الطباشير القوقازية إلى نموذجها السوريّ، وتبيّن أنّ الولد لايخصّ كثيرًا من الأمّهات. فقد اختطف المشهد برمّته إلى نصّ آخر، له أبطاله، وقوانينه، ولم يعد لنا إلّا الملعب الذي هتف فيه الجمهور للحرية، والحقّ.
كنت أرى من بعيد؛ ولكنّني رأيت، القصيدة كلّها تنحاز إلى الناس، القصيدة تخرج من حوفها، ومن عزلتها، ومن تعاليها، إلى البسيط واليومي والشعريّ أيضًا. وعلى مدار ثلاث سنوات تقريبًا كتبت يوميات الناس والحرب، وتفاعلت بعين الشاعر و(المعلّم) مع الصورة البعيدة عن نشرة الأخبار، الصورة الجديدة للسوريّ في خياراته الجديدة، بين الحصار والنزوح والحاجز والملجأ والساطور والبراميل والصواريخ بعيد المدى. ربّما كان منشورًا شعريًّا متخفّفًا من كلفة الشعر في لعبة المجاز والإيقاع، وكانت قصيدة النثر خيارًا مستجدًّا تآزر وصورة اليوميّ، ومنصّة نشره (وسائل التواصل الاجتماعي- الفيس بوك خصوصًا) والصحف العربية التي أتاحت للوجع السوري أن يغنّي على صفحاتها.
بعد سنواتٍ من الغربة تآلفت ونوبات الحنين، كان اغترابًا مشوّهاً كسرت حدّته، عطايا الحداثة في التواصل، والزيارات المتكرّرة، ورؤية الأصدقاء، ولكنّ ما حدث أعاد الاعتبار لأسئلة جديدة، خائفة، أكثر ممّا هي حزينة، أسئلة الوجود ذاته، الخوف من ضياع الأطلال التي كنا نقف عليها، الخوف من العودة الناقصة إلى المدينة التي لن نجد فيها الشارع والسوق والمكتبات والمقاهي والأصدقاء، والعودة إلى أهلي لاستعادة وجوه الغائبين. حنين غريب، ربّما هو خاصّ بالحرب أيضًا.
ومن تلك المصادر اتجهتُ إلى قصيدٍ آخر، يترفّق بالمتلقّي ويقدّم سرديّة شعرية عن الثورة والسوريين والبحر والقصف، وفي “حمام كثيف” مجموع هذا كلّه، وجدت مفردة “سوريّة” ومشتقاتها، مراحًأ كبيرًا في قصيدتي، إضافةً إلى قصاصات “وضّبتها” الذاكرة لمشاهد من ذلك البعيد.
يتّهمون القصيدة بسرعة التأثر، ونقل الحدث في مسارب الانفعال، ولكن التراجيديا السوريّة اليوم أكبر من أن تعبر عنها نصوصنا القصيرة، وعندما تتوقف الحرب، وتعود سوريّة جديدةً متعافية واحدة (ما أتمناه)، سنحتاج إلى نصوص ملحميّة طويلة ينام في ظلّها الناجون والغرقى. ستكون هناك تراجيديّات على أيّ حال، نحن الآن نبشّر بتلك القصيدة، التي تتخمّر في كلّ زهرة دم تقطف على مرأى العالم.
كانت القصيدة في حاجة إلى ربيعٍ أيضًأ، وكانت فرصًة لنفض سجّادة الكلام.
النهر يفيض بالمعنى/ محمد أبو لبن
أتذكر تماماً اليوم الذي فتح فيه العنف علاقتي مع الشعر على أسئلة الجدوى المُربكة. كان يوم الرابع من تموز 2011 حين رأيت فيديو على اليوتيوب يُظهر أهل مدينة حماة يُخرِجون من نهر العاصي إبراهيم القاشوش (مؤلف ومغني أنشودة” يلا إرحل يا بشار”) مقتولاً. لم أكن متفاجئاً من مقتل هذا الشاب الذي حرّك البلاد بصوته وهو يهزأ بأنشودته من بشار الأسد وأخيه وزوجته وأمه وحزبه… ما جعل هذا المشهد ثابتاً في ذاكرتي هو اقتلاع قتلة القاشوش حنجرته. في تلك اللحظة رأيت كيف يفتك العنف بالمجاز بتحقيقه على أرض الواقع: اقتلاع حنجرة المغني! هل هناك مصيرٌ أكثر تراجيدية من هذا لمغنٍّ؟! كان النظام السوري يبعث برسالةٍ حاسمة إلى المنتفضين عليه: سأتفنن في قتلكم، وأجعل خيالاتكم عن الموت حقيقةً. وهذا ما فعله حينما حقق بحرفيةٍ شديدة شعار: الأسد أو نحرق البلد، وما زال التفنن قائماً في مفردات إحراق البلد بمن فيه.
كلما تصاعد العنف كان إحساسي يزداد أمام ضعف دوري ككاتب وشاعر ولا جدواه، بدت فرص النجاة بالحياة للحظات صدفةً أمام منطق الحرب والرصاص الطائش الذي لا يفرق بين الناس على اعتبار مهنتهم. كانت الأسئلة مختلفة هذه المرة عن أسئلة أوقات السلم حيال جدوى ما تنتجه الكتابة. لماذا أكتب؟ هو سؤال ملازم لفعل الكتابة. بالنسبة لي كان سؤالاً محبطاً في اللحظة التي تحولت فيها الكتابة لتكون جزءاً من فعلٍ عام وليس فعلاً فردياً. تجربة العنف والحرب تصهر بلا رحمة التجربة الفردية بالعامة. ما حدث ويحدث إلى هذه اللحظة لا يمكن لأية فردية الخلاص من أثره أو الهروب منه، لذلك كان سؤال الجدوى سؤالاً ملحاً، فما الدور الذي يستطيع شاعرٌ أن يأخذه في مقتلة؟ كان خيالي يحاول تدريبي على التعايش مع الموت حتى وصلت إلى تمثّل دور قتيلٍ مثالي؛ لا دور لي أكثر من أن أكون ضحية مؤثرة في مقطع فيديو يتداوله الناس لأيام ويُنسى بعدها بسبب فيديو آخر أكثر تأثيراً. وفي محاولة استنباط معنىً ما من تجربة العنف تمثلت دور القاتل لأفهم لحظة القتل، الضعف والقوة اللتين تتناوبان على شخصية القاتل والقتيل قبل وأثناء وبعد فعل القتل. لا بد من إيجاد معنى ما كنتيجة لهذا.
كانت أكثر الإجابات عن ذلك السؤال منطقية وقرباً من الواقع هي أن يشهد الشاعر على المقتلة. ولكن هذه الإجابة تحمل جبناً وهروباً، وفي صميمها تفتح الباب على أسئلة أعقد: فهل حقاً يستطيع ما أكتبه أن يكون شاهداً على ما يجري؟ ما الذي تصنعه تجربة العنف باللغة؟ هل تتهدم القصيدة كما البيت والحي والمدينة؟ وهل لشكلها المهدوم كمال صورة الدمار الشامل الذي حل بأحياء المدن المقصوفة؟ كيف تتنوع فيها مفردات الخوف والموت وتلمع سخرية الخاسر؟ وماذا عن الأثر البعيد الذي نستطيع الآن وعلى الهواء مباشرة أن نرى الضربة التي تولِّده؟
على الشعر أن يكون أكثر ضرورية من السابق بعد أوشفيتز، هذا ما ردَّ به الشاعر إيف بونفوا على الفيلسوف تيودور أدورنو الذي رأى الشعر بربرية بعد الهولوكوست. برأي بونفوا كان يجب على الشعر أن يبدو شرطاً لا غنى عنه من الناحية السياسية بصفة خاصة، كان يمكن للشعر أن يساعد على استرجاع القوى، على إعادة الاعتبار للفكر النقدي، على الدفع بالطموحات الكريمة للتعرف على قيمتها… لا أظن البحث عن قصيدة جديدة أو السؤال عن قيمة الشعر ضرباً من الرومانسية أو خوضاً في جملٍ نمطية. إنه الشيء الوحيد الذي يتقنه الشعراء حقاً، طريقتهم في الدفاع عن علّة وجودهم ولحظة السلام التي يؤمنون بها أمام العبث الذي يولّده كل هذا العنف.
اظهار الألم الشخصي/ فادي سعد
كان من الصعب على الشعر، أيّ شعر، أن يكون واسعاً بما فيه الكفاية لوصف مأساة بحجم المأساة السورية. قميص الشعر، مهما كان جميلاً، ضيق جداً وملتصق كثيراً بجسد كاتبه، ليكون أميناً وقريباً بما يكفي من حدث بهذه الأبعاد الكارثية. الأمر متعلّق بطبيعة الشعر نفسه. التكثيف الشعري يصبح عائقاً أمام ضرورات الوصف. المجاز يمكن أن يتحوّل إلى استعراض غير ملائم أمام ركام الخراب. الرغبة في إنتاج الجمال تصبح خجولة ومُحرجة أمام الألم. ليس هذا انتقاصاً من الكتابة الشعرية، بل محاولة لوضع مفهوم الكتابة الشعرية ودورها في سياق تاريخي استثنائي جداً.
وهذا ما يجب أن يحدث. لا يمكن أن يمر حدث كالحدث السوري من دون أن تتم مراجعة عميقة لكل شيء تعادل عمق الحدث نفسه.
كان ثمة احتمال للقصيدة السورية التي تشرّدت في العالم وباتت تحتفظ بمسافة تأملية ربما عن الحدث السوري نفسه، أن تكون نافذة تعبّر بصدق وعمق عن هذا الحدث. لكن هذا الاحتمال لم يحدث. وفي الحقيقة، أعتقد أن فرص حدوث هذا الاحتمال كانت منذ البداية ضئيلة. الأمر يعود في جزء كبير منه إلى طبيعة الشعر كما ذكرت في البداية. لكن، من ناحية أخرى أيضاً، لم يستطع الشعر السوري أن يخرج من طبيعة كتابة محدّدة تَطبَّع بها منذ السبعينيات وبقي سجيناً فيها. لم تستطع الكارثة أن تغيّره وربما لن تستطيع. سأحاول توضيح مقصدي هنا حتى لا يبدو الأمر كأنني مع الذين ينادون بشروط محددة نقدية شكلية للكتابة الشعرية (وتلك مقاربة تخلّيتُ عنها منذ فترة طويلة).
قاربَ النقد الأدبي في السابق طبيعة الشاعر الشخصية، وطبيعة نصّه. باختصار، الشاعر شخص يكتب وهو يحدّق إلى داخله. الشاعر كائن ذاتي، يعتبر نفسه لحظة الكتابة محور العالم. بينما الروائي مثلاً يكتب وهو ينظر إلى العالم. الشاعر يكتب ليخبرنا عن نفسه أكثر من رغبته في تصوير العالم. هذا الموقف في الكتابة الشعرية أمام حدث بحجم الحدث السوري يمكن بسهولة أن يبدو نوعاً من الانهماك الذاتي الممزوج بالندب أحياناً، ورغبة استشفائية في إظهار الألم الشخصي. الكتابة النثرية، في امتدادها الأفقي وهي تنظر إلى الخارج، قادرة أكثر في لحظات تاريخية كهذه أن تتسع لحجم الحدث الهائل، ويمكن لها أن تتسيّد بسهولة أكبر الدور التاريخي الذي يمكن أن تؤديه الكتابة في مفاصل كارثية كهذه. من الممكن للشعر أحياناً أن يقوم بالدور نفسه إذا خرج من قوالبه السابقة، وهذا ما لم تفعله القصيدة السورية منذ بداية الحدث السوري (إلا في استثناءات نادرة، ونحن هنا نتكلم على الصورة الغالبة). بقيت القصيدة السورية في الشتات ذاتية، شخصية؛ وهذا ليس بالضرورة حكماً سلبياً في زمن آخر. لكن في الزمن السوري هذا، تبدو هذه المقاربة في الكتابة الشعرية، وبرأيي الشخصي، أنانية وصغيرة في أغلب الأحيان. كان يمكن للشعر (السوري) أن يلتقط اللحظة ويعبّر عنها إذا كسر بعض قوالبه، فلا قدر في أساليب الشعر. مثلاً، القصيدة الملحمية (تاريخ الشعر بدأ ملحمياً) كان يمكن أن تكون أكثر مواكبة لروح وتاريخية الحدث السوري. لكن القصيدة السورية بقيت صرخة شخصية لشعراء غنائيين منفيين.
كنتُ نشرتُ منذ فترة نصاً أسميتُه “السقوط في النثر”. حاولتُ التعبير فيه عن إشكاليتي الشخصية في الاستمرار بكتابة الشعر في الوقت السوري الراهن. في نهاية النص كتبتُ: “رأيتُ بلاداً تسقط أمامي، فقررتُ أن أسقط معها في النثر”.ربما يجب أن تستعير القصيدة السورية، أو الشعر بشكل عام، من النثر أكثر مما تفعل الآن.
صرخة في وجه الطغاة/ عبد الكريم بدرخان
منذ أقدم النصوص الشعرية التي وصلتْ إلينا، “ملحمة جلجامش” مثلاً، “الإلياذة” كذلك، كان للشعر وظائفُ ومهامّ محدّدة، يأتي على رأسها تسجيل الأحداث التاريخية مِنْ حروبٍ وبطولات ومآثر، وسير الملوك والأبطال والشعوب. كان التاريخ يُكتَب شعراً قبل أن يكتب نثراً، دون أنْ نُغفل الوظيفتين الجمالية والمعرفية. وفي القرون التالية تابعَ الشعر تسجيل الوقائع التاريخية حتى بعد ظهور علم التاريخ ومناهجه، خُذْ مثلاً قصائد المتنبي عن سيف الدولة، وقصائد أبي تمام عن المعتصم. وحتى في عصر الصحافة والإعلام كتب كثيرٌ من الشعراء عن أحداث القرن العشرين، تصويراً وتسجيلَ موقفٍ وشهادةً على العصر، خُذْ ما كتبه “بريفير” و”إيلوار” عن الحرب العالمية الثانية. وعندنا في الشعر العربي الحديث أمثلةٌ كثيرة على الوظيفة التأريخية للشعر.
هل هنالك جدوى من الشعر السوري اليوم؟ نعم هنالك جدوى، أولاً تشكّلُ كتابةُ الشعر صرخةً من الإنسان السوري في وجه طغاة العالم، تذكّرهم أنه ليسَ مجرد رقمٍ يعبرُ أسفلَ شاشة التلفاز، وليس مجرّد كائنٍ حي تقتصرُ متطلّباته على المأوى والطعام والشراب، بل هو إنسانٌ مرهفٌ يحملُ من المشاعر النبيلة والطاقات الإبداعية ما يمكّنهُ – رغم كلّ الظروف المعيشية الصعبة – من إنتاج الآداب والفنون، وتذوّقها، والإيمان بضرورة بقائها ما بقي الإنسان. الجدوى الثانية هي ما ذكرتُه في المقدمة، وهي دورُ الشعر في تسجيل الوقائع وإبقائها في الذاكرة، وإذا كان المنتصرون هُمْ من يكتبون التاريخ، فإنّ المهزومين يكتبون القصيدة، ويغنّون أوجاعهم على مرّ العصور. ينبغي الانتباهُ إلى أهمية دور الأدب في كتابة التاريخ، فعلى الرغم من مرور سبعين عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية، ما زال الأدب الذي كُتبَ عنها – وليس في زمنها فحسب – يتبوّأ الصدارة.
لكنْ لماذا الشعر؟ ولماذا يخطرُ الشعر في بالنا قبلَ غيره عندما نذكُر الأدب؟ ربما لمكانة الشعر الكبيرة في الثقافة العربية، فما زالت تأثيراتُ الشعر متغلغلةً في الخطاب السياسي والديني والفكري. ولذلك اتّجه كثيرٌ من السوريين إلى كتابة الشعر في السنوات الأخيرة. بالنسبة إليّ، ومن منظورٍ تاريخي، أفترضُ أنْ يكون الجنسُ الأدبي الأكثر ازدهاراً بعد خمس سنواتٍ من الحرب والتهجير هو “أدب المذكّرات”، المذكرات واليوميّات التي يكتبها مَنْ عايشَ الحرب، ومن دخل السجن، ومن هُجّر وتغرَّب، ومَنْ بدأ العيشَ والاندماج في مجتمعٍ أجنبيّ غريب. أعتقدُ أنّ لأدبِ المذكّرات أهميةً لا تقلّ عن الشعر، خاصةً عندما يكتبُه شخصٌ صادق ونبيه.
بقي أنْ أشير إلى أنّ ما أعنيه بالشعر، هو المثال الأعلى، المثال الذي تحاول جميعُ القصائد الوصول إليه. ولا أعني ما يُكتب ويُنشر اليوم تحت مسمَّى “شعر”، فلا بدّ من نقدٍ وانتقادٍ للجرائم الثقافية التي تُرتكَب اليوم باسم الشعر، (سأشبّهُها بالجرائم التي تُرتكب باسم الدين، والدين منها براء). وأشيرُ أيضاً إلى أنّ الكتابة عن حدثٍ عظيم مثل الثورة، أو كارثةٍ كبرى مثل الحرب الأهلية، لا ترفعُ من قيمة أيّ نصٍّ ولا من قيمة كاتبه. ما يرفعُ النصَّ هو ما يحملُه من شعريةٍ فقط.
وفي النهاية، أؤكّد أنّ الشعر مُجْدٍ ولم يفقدْ قيمته، حتى لو تراجعتْ عالمياً. لكنْ علينا أنْ نغربلَ حبّاتِ القمح من بين أكوام الحجارة والتراب، وأنْ نشير إليها، ونشجّع على إنتاجها. فالزمنُ ليس كفيلاً بانتشالِ الجيّدِ من الرديء كما يُقال، إرادةُ الإنسان هي الكفيلة بذلك.
الكتابة في الحرب/ محمد المطرود
لابدَّ أنّ قصيدة جديدة، صارت تكتب بوجود الكارثة السورية، بل يجوز القول: المقتَلة السورية، ذلكَ أنَّ شرطاً وجدانياً وأخلاقياً يتحقق يومياً، ليجدَ الناصُّ مادةً ثريةً تعاضدُ الوجداني وترفع من شأنه، تنتشلهُ من واقعيته المفرطة إلى فنيته المفرطةِ، هذا التزاوج غير المفكّر به بين الواقعي والمتخيّل مَرده إلى عمقِ الأزمة وهولها، بحيث صار ما ينظر إليه على أنّه غير ممكن وضرب من المستحيل ممكناً ويحدثُ كما لو أنّه حدثٌ يومي، هذا الاستمراء جاء لموقف عالمي وإنساني يُقيّم الكارثة وفقاً لمصالحه، أو وفقاً لكسله وتنصلهِ من النظر إلى المسألة بوصفها حرباً بينية أو حرباً على الإرهاب.
أفرزت الحالُ كتّاباً وشعراءَ، بعضهم اجترَّ ما كانَ يعلكهُ قبل، مستعيداً مآسيَ وظروف مرّت بها شعوب، سبقت السوريين إلى التهلكة والحرمان والشتات، فجاءت نصوصهم باهتة ومباشرة وفجّة، استندت إلى علاقة سطحية مع الحدّث، واكتفت بما يتوفر من قبول أخلاقي لهذه النصوص خلا الفنية والإخلاص لروح الكتابة، إلى أنْ قرأنا ما يشبه خطابات سياسية ووعظٍ ديني.
وأفرزت الحالُ كتّاباً وشعراءَ وفنانين، راحوا إلى البعيدِ وأعطوا نصوصهم نَفَساً كونياً وبُعداً أدبياً، يتعاملُ مع النزوح الكبير، ضمنَ العلاقة مع التاريخ والعطب والرضوض النفسية التي يخلفها هذا التحول المر، غير العادي، جاءت الكتابة هنا استعادة وليس اجتراراً، جاءت كفعل مقاومة للسائد واليومي البائس والصادم، وهنا يمكن القول أنَّ الكتابة الجيدة تجمّلُ القبحَ ليس لتسويقه وإنّما لدحضه وقتلهِ، وبهذا يتحولُ الناصُّ إلى مقاتل ويكونُ النصّ سلاحاً في معركة لا تختلف عن معركة تُستخدم فيها كل صنوفِ الأسلحة، إذا عرفنا أن هذه الكتابة النوعية والمزلزلة كانت مُحاربة قبلُ في البلدان التي هُجِرَت بسبب الحرب.
الكتابةُ في أحدِ أوجهها استشفاء وفي أحدِ أوجهها رسالة بغض النظر إذا كانت رسالة لأحد معين أو جماعة أو رسالة سيضيعُ دمها في الفضاء قبل أنْ تصل، لكنْ هي معنية بأحدٍ ما كفعل، ولهذا فالكتابة في الشأن السوري لاتعدُّ إخلاصاً للواجب فحسب، خاصة للسوري الممسوس بالنار، والذي خبر الدمار، وإنّما هي تماه بينَ المراكمة النفسية والمعرفية للإنسان وبين المُعاش اليومي كسلوك، لا يمكن الفصل بين النار والأوكسجين، لا يمكن عزل الزيت عن الماء، هذا التوصيف بالتأكيد لا يخصُّ هؤلاء العلاكين الذين حولوا الكتابةَ إلى شتائم وهجاءات ممجوجة، إنما يخصُّ هؤلاء الذين يعملونَ على نصوصهم باعتبارها مشاريعَ حياتية تهمّهم كأناس فاعلين وكذلكَ باعتبارهم أصحاب رأي، ويمكن لنصوصهم أن تزيدَ من مساحةِ الحبِّ والأدبيةِ على حسابِ الكره والهذر..
ربّما يلزمنا كنقاد وشعراء سنين من العمل على موضوعة ظاهرة الكتابة أثناء الحرب، ببساطة لا يمكن أن تكتب عن الظاهرة ومازالت السيرورة مستمرة، لا يمكن الإحاطة بها ومازالت جميع شروط تَكونُها موجودة وضاغطة لا يمكن أن تكتبَ عن برميل متفجر، يتلوّى في السماء وكلُّ الخوف يسكنك، أين سيسقط وكم من الأرواح سيحصد؟!.. جريان الموت بهذا الشكل الاعتباطي، لن يجعلَ البحث في الظاهرة سليما ومعافى ومتخلّصاً من ردةِ الفعل، والكم الهائل بغثّه وسمينه سيقرأ كظاهرة ربّما سترتقي لمستوى تشكيل النسق، لكن مهما من أمرِ ما يحدث فثمةَ نصوص مميزة قفزت بأصحابها من زاوية المغمور إلى زاوية المشهور، يقابلها نصوص أودَت بآخرين، كُرسوا وتمَّ التنظير لهم على أنهم منجزين، ومنجزهم فوق النقد، في حين يبدو أنَّ الثورات كما هي تغير العادات فهي تكشفُ العاهات أيضاً!.
الشعر في المنفى/ أكرم قطريب
يبدو أنه لم يحن الوقت لتدوين التراجيديا السورية، ولن يتوقف دور الشعر هنا على تأجيج نيران الغضب وكتابة المراثي والإنتباه إلى أنها ليست حدثاً تلفزيونياً وحسب مزيناً بخيطان اللهب ومقدمي نشرات الأخبار . لا ريب أن الشعر السوري الآن لم يلتقط حتى الآن تلك الجمرة وما كتب عنها بقي في إطار النية الطيبة، و أن أسلحة الحرب أقوى بكثير من أسلحة الكتابة، وصراخ الضحايا لا يمكن تسجيله على ورقة صغيرة ثم رميها في الأدراج أو نشرها على صفحات الجرائد .
اكتسب الشعر عموماً دورا دعائياً وحماسياً هائلاً عبر التاريخ، وكان الشعراء فيما مضى أشبه بالدعاة لأن جوهر الشعر هو التعاطف وحتى الصراخ ضد العار وجرائم القتل والسجون . وهنالك جدال هائل لم ينته حول دوره الإجتماعي والسياسي . في اليونان القديمة كتب الشاعر سيمونيدس المراثي في تكريم المحاربين الذين قتلوا في حرب إسبرطة، ومما قاله عند سقوط المدينة : “هزمناهم ليس حين غزوناهم، ولكن حين أنسيناهم تاريخهم” .
لكن الكتابة اختلفت شروطها عبر قرون طويلة. وما كان للشعر الغنائي من سطوة وسلطة تعبيرية، واستلهام قدر كبير منه للإصلاح الإجتماعي والسياسي والرفض، ستفتقده الآن في نبرة الشعر الحديثة .
في المراحل الإنتقالية والثورات يحب الشعب الغناء والإيقاعات الملهبة للحماس بينما الشاعر يقيم في المنفى يرى المدن والقرى والحقول والبيوت تحترق على الشاشة، أو من شباك غرفته المعتمة يلمح القذائف تضيء المكان ثم تزيله عن بكرة أبيه .
بدا الحدث السوري أكبر بكثير من وسائل الكتابة نفسها . وكل هذا الزخم المأساوي لم يصنع للشعر أجنحة ولو من الشمع , بل على العكس أعاد البلاد إلى عصر ماقبل الكهرباء .
قسوة الفقدان/ وداد نبي
منذ أن وجدت الحروب على هذه الأرض، لم تستطع ألاف القصائد أن ترفع أنقاض منزلٍ عن “كائن جريح ” يلفظُ أنفاسهُ الأخيرة، في الحروب “آلة الرافعة” هي عملياً أهم من كتابة ألف قصيدة، فليس للكلمة أو القصيدة أي قدرة على إحداث أي تغيير، ولو إنقاذ روح طفل من هذه الحرب وبشاعتها، لكن السؤال: هل وجدت القصيدة لتقوم بدور ألة الرافعة، هل المطلوب من الكلمة أن تكون لها تلك القدرة السحرية على التغيير ؟
لا أعتقد ذلك، القصيدة أولاً واخيراً هي شأن فردي وشخصي جداً، تخفف الكتابة عن صاحبها هول الصدمة بالواقع وقسوته، ذلك الواقع الذي يلجأ كل منا بطريقته لتقبله، وخاصة في الحروب، حيث تزداد الهشاشة البشرية مقابل ازدياد البشاعة الحياتية، هنا تزداد حاجة الشاعر للقصيدة، يلجأ للقصيدة ليشفى من الندوب التي تتركها الحرب على روحه، القصيدة هي تبرير عن العجز، عجز الشاعر عن الإتيان بفعل لإنقاذ عالمه الذي كان يحلم بهِ.
وشخصياً لا أكتب القصيدة في هذه الأونة كنوعٍ من أنواع تقديم صكوك الاعتذار عن بشاعة تدعى الحرب، أكتب لأنني أضعفُ من تحمل ألام الفقد الهائلة التي نعيشها، قسوة فقد المدينة، البيت، الأصدقاء، الذاكرة والذكريات
فقد عمر بأكمله يتحطم تحت نيران الدبابات والبراميل، أكتب تلك الهشاشة وذلك العجز والضعف أمام قسوة الحرب، أكتب اليوم لإنقاذ نفسي من تشوهات الحرب
ولا أستطيع أبداً الادعاء بأنني أطمحُ بإنقاذ مدني وعوالمي بكتابة القصيدة من هول الحرب وبشاعتها، إذا خرجنا من هذه الكارثة البشرية بأقل تشوهات وندوب ممكنة فذلك هو الإنجاز الحقيقي.
الحبر والدم/ عمر يوسف سليمان
الشعر في هذه المرحلة ليس غسل ضمير، بل هو بالنسبة إلي نجاة من هذا الجحيم، ففي المنفى، حين يحيط بنا العدم من كل جانب، تصبح اللغة وسيلة للوجود، نحن خرجنا من الحرب، لكنها لم تخرج منا، لذلك نحاول أن نجد بلادنا من خلال القصيدة، بعد أن امحت أو كادت تمحي جغرافيا. على أن الحرب ليست حدثا هاما بحد ذاته، بل كيف عشناها؟ وكيف أثرت بنا؟ هناك الملايين ممّن شردتهم الحروب، لكن قليلا منهم استطاعوا النجاة عبر الفن.
إذا لا دور مباشرا للكلمات في التقليل من هذا الحطام، لا دور للحبر وقد طغت لغة الدم، إنما نكتب في الشتات لكي نكون، ومن جانب آخر، فإن هذا الشتات أغنى تجربتي الشعرية، خصوصا بعد أن تعلمت لغة جديدة واختلطت بكتاب وشعراء هنا في فرنسا، حيث أقيم. هذا طور قصيدتي، لذلك فإن الشتات برأيي ليس سيئا دائماً.
عندما وصلت إلى فرنسا قبل أربع سنوات، ولم أكن أعرف شيئا عن لغة هذا البلد، عاداته وثقافته، كانت الأشهر الأولى بمثابة العاصفة التي اجتاحت تفكيري بالمستقبل، فمجرد معرفة السوري أنه لن يعود إلى بلده يشكل شعورا بالفناء، كما يشكل دافعا للركض إلى الأمام بحثا عن كينونة، أما بالنسبة إلى الشاعر فتتحول ذاكرته إلى ملجأ يأوي إليه، ويستمد منه عناصر وجوده، تلك الذاكرة التي تحولت في الشتات إلى مداد للقصيدة.
“تلميع” الحرب/ أحمد قطليش
مع فقدان الشعر تأثيره المباشر على السلطة والشعب، استطاع أن يخلق مساحة أخرى لنفسه، مساحة أكثر خصوصية تتشابك بذاتية الشاعر وإن خرجت من هذا الإطار فهي مرتبطة بتفاصيل من العلاقات الصغيرة والمحدودة بالمحيط الخارجي. وفي هذه الاتجاهات أصبح للشعر عمق فلسفي أكثر من جهورية صوته التي قد تخنق المعاني في السابق. ومن هذا السياق كيف نحكم على دور الشعر في الأحداث الكبيرة.. وبالأحداث السورية بشكلٍ أخص!
إن كان هناك ما هو مهم جدا من تأثير الثورة والحرب على الشعر؛ فهو أنه أصبح أكثر حرية من الأفكار القومية والدينية والعرقية التي كان مرتبطا بها، فالحرب دفعت الشعر السوري ليذهب أكثر إلى مساحات نفسية وذاتية قد ترتبط بالخارج لكنها لا تتغنى به غناءً ميتًا. خاصة أنّ الأحداث السورية لا ترتبط بطرفي نزاع فقط، تعدد أطراف النزاع والأفكار المتحاربة على الأرض خلقت حالة من العبثية في انتماء الشاعر إلى الشارع، وإن كان قد أصبح منبوذًا من أطراف متعددة فكيف يحافظ على قضيته التي دفعته للخروج من بلده؟
هناك فئة من “الشعراء” ذهبوا إلى المتاجرة الشعرية بالقضية السورية عن طريق فعاليات ومشاركات تريد أن تثبت أن الإبداع السوري لا يزال قائما رغم الحرب، دون دراية أن تلميع “إبداع الحرب” له أثر عكسي على تغييب المأساة الحقيقية على الأرض. الشعر السوري دخل أيضًا حالة من التشتت والشعراء بدأوا بمهاجمة بعضهم سواء على المستوى الإبداعي أو على المستوى الشخصي، أصبحت هناك شلليات معينة وتنافرات عديدة، إن حاولنا أن ننظر في كل منها سنجد أنها تحمل شيئًا من الصحة لكن كل طرف يريد أن يؤطر الحالة الشعرية والتغيير الإبداعي بالتوازي مع الإحداث بحسب مزاجه الخاص أو رؤيته التي يظن أنها تمثل الحقيقة.
وفي ظل هذه التنازعات التي قد تخرج مستقبلًا بحالات شعرية متعددة ولها طابعها الخاص، لكنها الآن لا تتوقف عن تخصيب أجواء التوتر والتنافر على المستوى الإبداعي، بحيث يتم تغييب الدور الذي على الكاتب أو الشاعر أن يلعبه تجاه شعبه، والذي بطبيعة الحال لن يكون متمحورًا حول الشعر نفسه، فإن قدرة الشاعر على إضافة شيء للقضية السورية في مستقبلها هو أن يساهم بترسيخ الحالة الإنسانية التي أصبحت متشظية، أو العمل الذاتي والخلاص الفردي الفعال الذي قد يضيف شيئًا للبلاد في المستقبل. لكن في ظل هذه التطاحنات -المسلحة على الأرض والافتراضية بين الشعراء والمثقفين- لا يوجد شيء حقيقي يستطيع الشعر تقديمه ويحمل انعكاسا مباشرا على الأحداث.
ما يستطيع تقديمه الشعر هو أن يؤرخ هذه التنازعات الداخلية بكل تناقضاتها، والتي قد تكون أكثر فائدة ومصداقية من تأريخ الأحداث الخارجية، والتي بتنا نحن الذين نشهدها لا نستطيع التأكد من مصداقية الكثير منها.
مواكبة المحرقة/فايز العباس
مما تناقلناه أن الشعر “ديوان العرب”، إذا توقفنا عند هذه المقولة سنتعرض لفهم بسيط (هذا ما أدعيه) وهو أن الشعر في كل مراحله كان تدويناً للحدث، أياً كان ذلك الحدث، وعليه فإن الشعر بمجمله – أقصد المتعلّق بالأحداث العظيمة- هو محاولة توثيق تنقسم أو تسير باتجاهين متمايزين؛
الأول: هو التدوين الآني الذي يستمد مادته من الأحداث اليومية اللحظية.
الثاني: هو التدوين الأخير، ذلك الذي يستمد مقوماته من قراءة الحدث بعد وقوعه وانتهائه ليصير الشعر أقرب إلى التأريخ لما وقع فعلا.
بناء على ذلك نستطيع الولوج في إشكالية الشعر وتعالقه مع الواقع، لنعبُر من خلال هذه المقدمة للمنجز الشعري السوري الراهن، ومسألة اقترابه أو ابتعاده عن الثورة السورية ومفرزاتها حتى اللحظة، وللخوض في الأسئلة المطروحة على كافة الأصعدة حول ما قدمه الشعر والشعراء السوريون في مواكبتهم للثورة السورية التي تحوّلت – ولأسباب لا تخفى على المشاهد العادي فضلا عن الباحث – إلى حرب طاحنة.
من الطبيعي جدا أن يتأثر المشهد الشعري – الذي يُطالبُ بدور رياديٍّ في تحريك الشارع – بهول الكارثة التي أصابت المجتمع السوري بكلّيته، فيما تظلّ مطالبة الشاعر بأن يكون مُلهِما ضربا من التعويل على من لا قدرة لديه، إذ إن دور الشعر والشعراء كما بيّنتُ لا يتعدى كونه متابِعا يرصد الحدث ويدوّنه، ومهما بلغت مقدرة الشعراء على الوصف والتصوير الدقيق لمجمل الأحداث تبقى هذه المقدرة منقوصة من جهة كونه محرِّكا، ذلك أن ما جرى ويجري في سورية هو حراكٌ شعبيٌّ، لم يستشرفه المثقفون – ما عدا النزر اليسير ممن لم يكن لهم صوت عالٍ نظراً لما كانت تعانيه الحركة الثقافية السورية من شللية وسلطوية استطاعت هضم وتغييب الأصوات الحرة – ولأن الحراك انطلق من القاعدة الشعبية أساساً ظهر جلياً ذلك البون بين المثقف “الشاعر” وبقية فئات الشعب.
ومن المجحف القول إن الشعراء السوريين لم يواكبوا المحرقة السورية بكل تجلّياتها، ويكفي أن ننظر إلى الكم الهائل من النصوص والمجموعات الشعرية التي اتخذت من الواقع المؤلم مادة لها، كحالة تدوينية آنية، غير أن الإنصاف يكمن في القول بأن كل الذين ساهموا في حركة تدوين اليوميات السورية انطلقوا من غايتين واضحتين هما: محاولة فعل ما يستطيعونه في ظل سيطرة الرصاص لفضح المجرم، والرغبة بإظهار المعاناة اليومية، وربما كلا الغايتين تندمجان تحت باب فعل المستطاع للتخلص من عقدة الذنب وتأنيب الضمير.
إنها – الكتابة في هذه المرحلة وتحت ضغط هذه الظروف – محاولة شعورية وجدانية تعكس إخفاق القدرة على الريادة التي لا أراها مطلبا مشروعا من الشعراء، وانعكاسٌ للحالة النفسية التي يعانيها الشاعر، ولا يستطيع حيالها سوى القول، وهي مهمة الشعر المرحلية في انتظار انتهاء الحدث، وظهور جيل جديد من النصوص التي تعيدنا إلى حيّز التأريخ الشعري، وبذلك يكون الشعر السوري المعايش للثورة/الحرب وما بعدها بحق ديوان السوريين.
-3-
وصية ناقصة/ أمير الحسين
وحينما يَدْهَمُني الموتُ
هنا..
هناك..
لا تختلفوا، يا ناسُ، في شؤون دفني وارفعوا السّماءَ رايةً
على التابوتِ..
وامضوا بي
إلى
حيث
خفيضةً تحومُ الطيرُ.
إنْ لم تجدوا لي
جثةً أو بعضَها
لا تحملوا التابوتَ، باسمي، فارغاً
لا..
ربما أكون قد حَلَلْتُ في
فراشةٍ
دُعْسُوقةٍ
رَيْحانةٍ..
أجَلْ..
ولا تختلفوا حول
قصيدةٍ
كتبتُها بقلبٍ نازفٍ
محاصَراً بالحُبّ
أو بالحربِ..
أو كتبتُها
مُسَرْنِماً كالنّهْرِ.
لا تختلفوا في بَذْرتي؛
كَمْءٌ أنا
لا جَذْرَ
لا بَذْرةَ
..
هكذا، معافىً، هكذا
مِن لعنةِ الذكرى
ومن طَيْشِ السُّلالهْ.
2- نمحو سحابةً.. فتنمحي نجومٌ:
ماتوا
يذودون عن البوّابة الزرقاءِ، حيث
كلُّ غيمةٍ كما لو أنها سفينةٌ خرقاءُ.. كم نصدّقُ الريحَ التي تَخْرقُها!.
ماتوا.. ولم أكن هناك
كنتُ، كالعادة، أَرتِقُ الورودَ
هكذا
أُعِدُّ للفَراش، للنَّحْل…
احتفالاً عابراً.
ألبيتُ قد ينهارُ
إثر شرفةٍ مريضةٍ.
هذا الغيابُ بَرَدٌ، ونحن
لا نملكُ إلا أن نعيدَ للحديقة اسمَها.
شوكٌ كثيفٌ حولنا
نخطو؛
يغورُ..
نحتفي رقصاً؛
يغورُ
ثم نستلقي؛
يغورُ..
يجرحُ الحُلْمَ.
شبابيكُ هي الجراحُ
لا نحبّها مغلقةً؛
نخاف أن يختنق الذين في القلب –
الذين يحرقون الحقلَ.
كم نحبُّهم.
نمضي..
ننزّهُ الدمَ الشقيَّ والليليَّ
ندري أنّ للضوء يداً تغتالُ.
نمضي..
والغبارُ، مثلَ جِرْوٍ، يتشمّمُ الحنينَ متلبِّساً بنا.
نمحو سحابةً
فتنمحي نجومٌ!
كلّما قلنا: وجدنا كَمْأةً في الأرض/
لا تكون إلا وَرَماً..!
كأنّ كلَّ زهرةٍ كفّارةُ المكان عن ذنوبه البيضاءِ.
هكذا..
ونمضي مطمئنّين على الأحلامِ
واثقين، كالعادة، من جمالنا المُعْدي
ومن حَدْسِ الفراشةِ التي تلمعُ في حدقةِ القلبِ الكفيفِ.
عاشوا
يذودون عن البوّابة الزرقاء، حيث
كلّما الصيّادُ قد أخطأَ طائراً
أصابَ الغصنَ.. أو
وُرَيقةً أخرى، تؤدّي
في حنينٍ ماطرٍ
معزوفةً من الحفيفِ.
سبعة حلول براغماتية للوجود/ حسام جيفي
1
تزوَّجْ أوروبيّة
واحصل على جواز سفر
تعود يوماً به
إلى
بيتكَ.
غيّر اسمك إلى “ديريك” أو “ياماتو”
بدّلْ لون بشرتكَ
على طريقة مايكل جاكسون
احجز موعداً عند جرّاح التجميل
عدّل لكنَتَك في جلسات علاج النطق
مؤكداً، سيعطونك موعداً
في السفارة الأميركية.
2
عليكَ بها
تلوّحُ بيدها
كأنها تهمّ بمسّ خدّك
كرتون بحجم بشري
لعارضة أزياء متوسطة الجمال
إصنعها بيديك
أو اسرقها من واجهة محل مزدحم
بأية حال،
المهم
أن تُخْلي لها كرسياً
على الطاولة المزينة بمفرش بلاستيكي
مزهّر
حيث تقضي عشاءاتك.
3
ستحتاج الكثير منها
في لياليك الباردة
ناعمة أو خشنة
معطّرة أو بلا عطر
بيضاء، زرقاء
لا يهم
أيُّ نوع من المحارم الورقية
يَفي بالغرض.
4
علبة
من دبابيس
بحجم مناسب يضمن
سيلاً لذيذاً من الألم.
تستبدل سجائرك بها
تضعها في جيب القميص
إلى جانب روشتة الطبيب
في متناول اليد
تشكُّ نفسك بها
ثلاث مرات يومياً
قبل الطعام.
5
ضع أحلامَكَ في
الزاوية القبلية
للذاكرة
كنبة عريضة من المخمل البنفسجي
ترقد ببلادة تحت الضوء
تجمَعُ غبارَ الوقت
ووَبْرَ القطط المَسْئُومة.
6
استأجرْ بما تبقى معك من النقود
عازفة تشيللو
ودعها تمشي وراءك
تعزف الخلفية الموسيقية لحياتك
المنتفخة.
7
اضربْ بعصاك ذلك الميت
انكش الجثة
مارس عليها الانعاش القلبي-الرئوي
احجز لها غرفة في فندق
وراقبها تمارس الحبَّ مع غريب
رتّبْ لها مكاناً في حقلكَ الممتد
ستكونُ فزاعةً جيدة
جثةُ الوجود السمينة هذه.
ماريونيت
منذ فترة
عند الرابعة إلا خمس دقائق
في منزله المنعزل بين
أشجار الغابة
قضى الشعر.
لم يكتشف أحد موته
إلا بعد أيام
نبّه نباح الكلاب الفزعة
جيرانه المشغولين بتفاصيل حيواتهم
واروه الثرى على عجل
لم تكتب عن موته الصحف
لم نر أوراق نعوة.
هكذا مات الشعر
لنعيش فقدانه ككل فقدان آخر
لا نكتبه إلا كمن يتعلّم
لغة ميتة
كهواية
أو كي نشعِرَ أمَّهاتنا بالفخر
ننتظر ظهور شبحه
بنكران من يؤمن
بتقمّص الأرواح
نشحذ أدواته
كمن يتحضّر لصدام حضارات
أو مصارعات نووية
نربّي كافاته
في حظائر عقلنا
كلّ شبر بنذر
نسبّح بمحاسنه في خلواتنا
نعرضه على الساهين من الأصدقاء
نرقّص عروس جيفته
على مسرح الدمى
الخالي
من الجميع
إلا من جثة
ماريونيت ميتة
وأعين الشاخصين نحوها
الصامتين.
الرمادي:/ حسن إبراهيم الحسن
كانَ الرماديّونَ جدّاً- مثل أخشابِ الصليبِ-
يحدِّقونَ
وكانَ ينزفُ.
أنتَ..
أخمصَ بندقيَّةِ قاتلٍ ستكونُ..
أم عكَّازَ طفلٍ أيّها الشجرُ الحياديُّ الجبانُ ؟!
إلى متى..
ستمدُّ غصناً كي تحطَّ حمامةٌ،
وتمدُّ غصناً كي يلوذَ وراءهُ الصيادُ؟
كُنْ ما شئتَ،
لكنْ..
لا تقفْ في المنتصفْ
بينَ الرصاصةِ والهدفْ
حرفان
لا شيءَ يوجعني سوى أمرينْ؛
أنَّ ابنتي ..
لم تبلغِ الكلماتِ بعدُ ،
ولم تقُلْ: ( بابا)
ولكن ..
من هديرِ الطائراتِ تعلَّمتْ حرفين:
ترنو إلى الأعلى كجروٍ خائفٍ ،
وتقولُ: ( بُوووووو )
أيضاً وتوجعني الطوائِفُ
حينَ تصنعُ من ترابٍ واحدٍ ضدَّينْ
الأربعون
أتأملُ الريحَ /
السحابَ /
الماءَ ..
أهذي: من ترى الأقوى
الحديدُ هو انعكاسُ صلابةِ الأشياءِ والأقوى
ولكنْ قد تذيبُ النارُ قسوتَهُ
إذاً فالنارُ أقوى /
الماءُ يطفئها
إذاً فالماءُ أقوى /
الماء يحملهُ الغمامُ الهشُّ ؛
الغيمُ أقوى
الغيم تدفعهُ الرياحُ ؛
الريحُ أقوى /
الريح توقفها الجبالُ …
إذاً عليَّ الآنَ أنْ أتأملَ القممَ التي ترنو إلى الوادي ،
وتنسى وَهْيَ تنظرُ من علٍ
إنَّ الجبالَ من الحصى
الفأس
الفأسُ ..
ضدَّان؛
الذراعُ حفيدةُ الشجرِ العدوِّ،
ومعدِنٌ صدئُ الأظافرِ
ربَّما ..
لو كانَ للحدادِ عينا شاعرٍ
لرأى الحديدَ سريرَ طفلٍ
أو إناءً كي يصبَّ الماءَ للشجرِ العجوزِ،
وربَّما ..
لو كانَ للحطَّابِ ذاكرةُ المخاضِ
وصبرُ تسعةِ أشهرٍ ..
لأعادَ للطينِ الذراعَ – الغصنَ وانتظرَ الربيعَ
لكي يلقِّنهُ الوصايا حينَ تبزغُ أولُ الأوراقِ:
(كنْ شجراً وفيّاً للسلالةِ ..)
غيرَ أنَّ الفأسَ صارت فكرةً ؛
المعدنُ الصدئُ الأظافرِ صارَ سفَّاحَ البلادِ
ذراعهُ صارت أخي
وسلالة الأشجارِ نحنُ
صور داكنة/ عبود سمعو
في الحرب
يصبح الأطفالُ دسماً للقصائد
فناجين من الشايِّ المخمّرِ للصقيعِ المرِّ
شمّاعةً لحزامِ بندقيةٍ
في استراحة القاتلِ
أو كما تشاء
سمِّهِ المقاتلَ
في الحرب
يصبح العشقُ ترفاً
لكنّني أُحبُّكِ
رغمَ أنفِ الحربِ
رغمَ الزهد
في الحرب
ينشغلُ الإله في ضبطِ ساعتهِ
في تنظيم جداول الشهداءِ
والأمّهاتُ الأمّهاتُ
يُفرغْنَ من أثدائهنَّ
صُررَ الريحانِ فوق القبر
في الحربِ
المدينة تلو المدينة
تلتقط صورةً أخيرةً مع أنفاسها
ترفع عنقها إلى الأعلى
هكذا… ثمَّ ترتطم جثتها
على الرصيفِ المقابلِ
لمقهى “جحا”
بائعُ الطوابعِ على طاولةٍ بــ50 سنتيمتراً
على ارتفاعٍ شاهقٍ رأيته يدخّن الحمراء القديمة
يجادل الزبون على 30 ليرة
في سعر الرصاصةِ
ثمّ يتفقان بأن يهدي إليه
مزيلاً للصدأ
في الحربِ
الشاخصاتُ المرورية الزرقاء
تمارس العادة السرّية
تنكمش على نفسها
بعد محاولتها اليائسة
في الوصول إلى اخضرار الشبق
في الحرب
ابن عمّي يشتري لحبيبته شالاً رمادياً
وقارورة عطرٍ نسائي
غلافها أبيض مرسوم عليه برج إيفل
يقول لصاحب المحل بصوتٍ مرتفع:
“أعطني كيساً أسود غامقاً”
في الحرب
يغادر الشعراء قصائدهم المموسقة
أندريه بروتون يدغدغ نهد القذيفةِ
التي لم تنفجر
الإيقاع في الحربِ مختلفٌ
صفير الطائرات حين يدنو
يرتبك المكان… يفرّ المكان
الإيقاع أن تسقط القذيفةَ
ألّا تغلق أُذنيكَ الحافيتين
ألّا تموت.
رصاصة القنّاص صارت وحيدة
أخيرًا..
عادوا إلى البيت
دخلوه بحذر
في كلّ مسامة في وجههم عين مفتوحة
الشقوق في كعوب أقدامهم
مملوءة بالتراب والذهول الكثيفين
تفحّصوا الأبواب
والجدران
والأشجار اليابسة
كان البيت هادئًا كبريّةٍ
شهيًا كالعودة..
رغم انقطاع الكهرباء
يتذكر الطفل
أنّ زجاجة ماء
تركوها في البراد قبل ثمانية وستين يومًا
حين فتحوه
انفجر بهما
الأب وطفله جثّتان باردتان
من وقتها
ما تبقّى من العائلة يعلّقون طعامهم في الهواء
وقلوبهم أيضًا
بعد أعوام
عندما تكبر الطفلة
سيأخذها خطيبها لتختار أثاث بيتهما
ستقف أمام البراد مليًا
تمامًا في أعلى الزاوية اليمنى
ستجد ابتسامتين مثلّجتين
وتبكي
2
الرجال كبار السن
لا نسميهم عجائز
الرجال كبار السن
لا ينزحون من بيوتهم
يظلّون يحرسون ذكرياتهم
أو يموتون دونها
رصاصة القنّاص
التي استقرت في فخذ جارنا
وظل ينزف طويلًا
كانت تسلّي بؤسه
رصاصة القنّاص
الآن وحيدة.
3
عندما تنتهي الحرب في منبج
أول ما سيفعله الناس هناك
سيقطفون الريحان والآس
ويذهبون به إلى الحدائق
طيور مذعورة في حلب
فيما مضى..
كنّا نرتّبُ السماء للعصافير
كي لا تتعثّر بشهوةِ الغيمِ
فتهوي
فيما مضى..
اعتدنا أن نزيل الحديد العالق
على أصابع اليدِ
هذا الذي تراه
الصدأ المائل إلى الرمادي
الأسْود المزدحم
وبر القذيفة
القذيفة التي سقطت
ولم تنفجر
لكنّها انفجرتْ
فيما بعد
فيما مضى..
كانت الشبابيك المطليّة بلون الخبز
تغري طيور الدلم
فتنبتُ أجنحتها
على الستائر
فيما بعد
ما تبّقى من طيور الدلم المذعورة
تدور حول نفسها الآن
في حلب
تخمش بمنقارها
أطر الشبابيك على الرصيف
تفتّش في كمّ القميص
عن الذراع التي أطعمتها
تفتشّ في ذراع الشهيد
عن سماء
غير تلك السماء.
قصيدتان/ وداد نبي
-1-
لو كانَ لي قلبُ حديقة
لمددتُ جذور أشجار الزان في هذه المدينة
نحو أشجار الزيتون في حديقة بيتنا بريف كوباني
لأسقيتُها ماء قلبي
لارتبطتُ بشجرة البرتقال المجاورة لنافذتي في حلب
وحدّثتها عن بلادٍ لا يقتل ناسها بعضاً
عن بلادٍ لا يموت أطفالها تحت الأنقاض
عن بلادٍ يكبرُ ناسها ويشيخون
يبيضُ شعرهم برفقة من يحبون
ويدفنون في مقابرٍ لائقة
لو كانَ لي قلبُ حديقة
لتركتُ زهرة خبّازي قرمزيّة
تنمو تحت حذاء جنديٍّ يصوّبُ
رصاصهُ لقلبِ طفلٍ
لدفعتهُ لرؤية الجمال الذي ينمو على الأرض
لربّما انحنى مرّةً لمشاهدة الجمال تحت قدميهِ
ونسي كيف يتم إطلاق النار على الأحياء
-2-
لو كنتَ عاشقاً
لتمنيتَ أن تكون غباراً على جرسِ منزل حبيبتكَ
المنزل الذي تسكنهُ الحرب
لو كنتَ عاشقاً
لرغبتَ أن تكون القطة الميتة
قربَ رأس حبيبتكَ في الصورة القديمة
لتمنيتَ أن تكونَ الكتاب الذي تقرؤهُ في القطار
لحلمتَ أن تتحول للجروحِ المتقيحة
على يدي عجوزٍ في رواية ” هيرتا موللر ”
فقط لتقرأكَ مرة وتسقطَ دمعتها عليكَ
لو كنتَ عاشقاً
لحاربتَ لتكونَ شاهدة قبر حبيبتكَ في المنفى
لا لشيء ..
إنما لتستيقظ قبل الحنين وتهمسَ.. أحبكِ
لبقايا عظامها اللاجئة
كما لو كنتَ بلادها البعيدة.
لم يَعُدْ لدينا وقت/ عمر يوسف سليمان
سأعترفُ بما تريدْ
قاتلُ أفكارٍ
عميلٌ للشيطانِ أو لله
مهرِّبُ غيمٍ منَ المتوسطِ إلى سرةِ حبيبتيْ
اخترِ التهمةَ فلم يعُدْ لدينا وقتْ
من النافذة
هل ترى عيونَ الجنودِ القادحةَ بالألعابِ النارية؟
والدُّخانَ الذي يرسمُ كؤوساً في السماء؟
كلُّ ذلكَ ينتظرُنا
لم يعُدْ لدينا وقت
عبِّئ رأسيْ ببضعِ رصاصاتٍ فقط
فالبارودُ سيلزمنا لنصنعَ الخبزْ
ولن نختلفَ على من يموتُ أوَّلاً
المهم أن نشربَ الشايَ قبلَ أن تبردَ جثتانا.
ربما تجدينني
ما رأيُكِ أن أخطفَ المدينةَ اليومَ؟
سأخبِّئَهَا في أنفاسِنَا
هكذا لن يعثرَ علينا أحدْ
سأقرأ طالعَ شهوتنا
في نجومِ كفِّكِ المرتجفة
وأنزعُ معجمَ العواصفِ من رأسيْ
كي تترجمينيْ إلى نهرٍ خالدٍ بدَمِكْ
ما رأيكِ أن نصبحَ تلكَ الطيورَ المهاجرةَ في اللوحة؟
نلعبُ الغميضةَ في غابةِ الجسَدْ
ربما تجديننيْ مرةً واحدةً
إلى الأبدْ.
كلما جُرِحَ المساءْ
لم أعد أعرفُ إن بقيتْ لنا حكايةٌ في المرايا
أو طفلٌ أخيرْ
لنا حبرٌ أبيضُ في الشرايينِ
نعرفُهُ لأننا نجهله
كلما نزفنا يولدُ صدىً مجهولٌ
في رائحةِ ليلِ آذارَ
بينَ البارودِ والدموعْ
حينَ أكبرُ سوفَ أصيرُ نجمةً
يقولُ ثقبُ الرصاصةِ في الجسَدْ
يكفيْ أن منفياً يناديْ أخوتَه
كلما جُرِحَ المساءُ
لا تفتحوا مسودَّاتيْ
ولا تسهروا مع الغيمِ
حتى أعودْ.
قلعةٌ خارجَ السوْر/ لينة عطفة
( إلى سلميّة )
لن أخاطبكِ بعد اليوم..
أنتِ التي جعلتِ قلبي مثل خيام البدو لايكسره الترحّل ولا الحنين..
لا هواء يقودني إلى رائحتك..
والذكريات التي نثرتها كفتات الخبز لأجد طريقاً إلى يبابك
لفظت فتنتها الأخيرة واستحالت رماداً..
أيتها الجاحدة التي تستدرّ عقوقنا!
هل رأيتِ غلاصمنا المتيبّسة ونحن نسبح في جسدٍ غير جسدك؟
هل شعرتِ بأظافرنا الهشّة المغروسة بعظامك؟
هل سمعتِ نحيبنا ونحن نتوسّد العواصف لنحلم بكِ؟
أكتب لأثأر منكِ
وأعود من ثأري قتيلةً وقد تنازعتني الآفاق حدّ العدم..
الموت يقول أنكِ الجنة
وحين أرفع أستاره أراكِ كما أنتِ
شاحبةً كالمقامرين.. توزّعيننا كأوراق اللعب وتتثاءبين
تقاسمين العواصم أسرارها
قلعةٌ خارج السور
أمراؤك المجانين المبدّدون في طرقاتك
بملابسهم الموشّاة بالرّقع وأصواتهم التي تهزم اللغة والكتابة
شعراؤكِ يتقلّدون حزنكِ وبشجاعة اليائس يكتبون…
منذ استبدلتِ كرمتك العالية بشتلات القطن
وأنتِ تتمرغين بالعطش
تعقدين هدنة مع الصحراء فتكون المحاصيل شكلاً من الرمل
يهذي بنا الجوع
نلتوي على اللغة ونعضّ الكلام
خيبتنا خيبة قرمطيّة
وبكاؤنا بكاءٌ فاطميّ..
نسمع الربابة فنمتدح عائلة الكمان
نشرب العرق البلديّ فنمتدح سلالات النبيذ
وحين تخوننا النهايات نلوذ إليكِ
نتلمّس عزلتنا التي غزلتِها بنَول الصدى
نرتّب الحيَل، نُجهد خيالنا لنراكِ خارج أقداركِ
خيبةُ المطر
خيبةُ الأرض
خيبةُ الأنثى التي تلعق مدائحها النازفة…
لا تذكّرنا الأمكنة بكِ، ولا الورد
ولا ما يُذكّر الناس بأوطانهم
نذكركِ إذ تُطيح نظرة بقلوبنا..
إذ يخرّب عازفٌ بنشازه سرب الأغنية
هاشلون على حواف المدن
مذ شردتنا وانتصبتِ بأسمائنا كشاهدة قبر
جيوب نواطيركِ تزرب ذئاباً
وأنت عزلاء إلا من صدفة خلاص قد لا تأتي..
يشرعون بوّاباتك للمذبحة
كي يُشهروا انتصارهم لكِ
لا تغفري لهم
وأنت ترتُقين لحمكِ المتهتّك
لا تغفري لهم…
ثمّة رعيانٌ زرعوا لهباً في جوف شجرة البطم
وجبالُ (البلعاس وشاعر) تهذي بالنار
حزنكِ لا يَشِي بالفجيعة
والمشيئةُ أعجز من أن تُخلّ الرهانات
تهرقين المراثي لأنهارٍ لم تحظي بها..
تهرقين الأخيلة والحبر والهواجس..
أيّ مدينةٍ أرأفُ بالشّعر منك؟!
أيّ مدينة تتخثّر عتباً؟!
والعتب إذا تخثّر صار أغنية
والأغنية إذا تخثّرت صارت حكاية
والحكاية إذا تخثّرت صارت أنتِ
أكتب وأكتب لأجد اسمكِ
اسمكِ الهارب من القصيدة..
2- على هامشِ النجاة:
يجيئون برّاً وبحراً وجوّاً
يفرّون بين العواصم .. بين الحدود
كأن الخرائطَ وهمٌ وحصَّتَهم في الحياةِ هروبٌ
كأنّ البلادَ عيونٌ من العتمِ تزفِرهم في الضّبابِ
لقد كنتُ أحفظُ حارتنا مثل كفِّ يدي
والشوارعَ صوبَ بناءِ السرايا
وأعرفُ تاريخَ كلّ العوائلِ، أعرفُ كلّ العجائز
كلّ البنات اللّواتي تعثّرن بالحبِّ في شارعِ الستّ زينبَ
أعرف كلّ الدّكاكينِ.. كلّ رصيفٍ يشاكسهُ العشبُ
أعرف أعرف أعرف
حتّى تهيّأ لي أنّني معجمٌ لمكاني
وإذْ قيلَ لي: يا فتاةُ الكلامُ حرامٌ
بكيتُ إلى لغتي: دثّريني!
اختبأتُ وأغلقتُ اسمي عليَّ
أنا نقطةُ النّونِ
روحي مرايا الخيامِ .. من الظلِّ تحتَ الشجرْ
وحتّى الشتاتِ..
رأيت ملائكةً نائمينَ.. شبابيكَ مشرعةً
وستائرَ تأخذنا صوبَ ما يشتهيهِ الخيالُ
بلادٌ من الشِّعرِ مأخوذةٌ بالخيامِ وبالرملِ
رعبٌ يسوسُ الجياعَ ليعتصموا بالقبيلةِ
كنّا شمالَ الرمالِ ممالكَ مفتوحةَ للجيوشِ
ولكنّنا لم نكنْ عابئينَ بإرثِ الألوهةِ
لم نكترثْ للزمانِ المخاتلِ
لم ننتبه للخلودِ الذي نامَ قربَ أساطيرنا..
وارتحلنا بأقدارنا هاشلينَ
لأبعدَ من أن يكون الحنينُ قرينَ المسافرِ
ودّعتُ كلّ الذينَ أحبُّ وعانقتُ روحَ المكانِ لآخرِ مرّة
غمرتُ عيونَ رفاقي وأهلي.. وإطلالة البيتِ
رتّبتُ للقلبِ أشياءَهُ:
خطُّ جدّي بديوانِ شعرِ أبي الطيّبِ المتنبّي
كظلِّ النبوءةِ
مكتبتي في الجدارِ وأشجارُ باحتنا
بابنا والممرُّ إلى درجِ البيتِ
طقسُ المؤونةِ والكعكِ في العيدِ
خزّانُ ماءٍ على السّطحِ
رتّبتُ أشياءَ قلبي
وما طاوعتني الكتابةُ
ما عانقت لغتي رغبتي
ذكرياتي البعيداتُ مِلنَ على حاضري
فترنّحَ ثمَّ انحنى..
وذاكرتي لا تنامُ ولا تتركُ النومَ لي!
أيمتلكُ الهاربونَ وداعاً؟!
مضى نصفُ عامٍ وعامٌ على رحلتي
لم أحسَّ بأنّي أنا في الوداعِ
توزّعتُ حولَ المكانِ وفيهِ أراقبُ طقسَ الرّحيلِ
ومرَّ الوداعُ كحادثِ سيرٍ
أنا حفنةٌ من ضبابٍ..
أراقبُ كيفَ يمرُّ بيَ الموتُ
يلمسُ وجهي ويمضي..
فأنظرُ حولي بعينينِ مذعورتينِ
أرى جُثثَ النّاسِ منفيَّةً في الهواءِ معلّقةً
في صدى الكلماتِ التي حاصروني بها..
الطّريقُ هوَ المشيُ
كنّا نظنُّ المياهَ طريقاً ولكنّها عدمٌ
واختبارٌ لما جفَّ من حظِّنا / هل سنطفو؟!
رمى البحرُ وهماً.. نؤوِّلُ أحلامنا حولهُ
فتَبِعنا المكيدةَ حتّى نهاياتها
لم نكن أنبياءً ولا آلهةْ
ولا سمكاً، فغرقنا!
ألا أيّها البحرُ أرجعْ لنا ما أخذتَ
ويا أيّها العالمُ المتمدّنُ شكراً لأنّك زركشتَ قصّتنا
وصيّرتها فُرجةً في متاحفَ ما بعدَ بعدِ الحداثةِ
إنَّ الطّريق هوَ المشيُ، أقدامنا تعبتْ
فيئسنا وقلنا ستوصلنا الشاحناتُ
زنازيننا رافقتنا
وأشباحُ قاتلنا شهَقَتْ فاختنقنا، ومِتنا!
عبرنا الطّريقَ وكُنَّاهُ
إنَّ الطّريقَ هو الواقفونَ بكلِّ الحدودِ..
إلى الموتِ: أجّل خطاكَ إلينا
إلى قبرنا في المنافي: استدر مثلَ أقدارنا وأعدنا لجبّانةِ العائلةْ
إلى عتباتِ البلادِ: هبينا قليلاً من الضوءِ كي نحترقْ
إلى المجزرة: تخيّلتُ وجهكِ لو أنَّ أقدامنا طاوعت قلبنا في الهروبِ
إلى القَتَلة: ستبكوننا ذاتَ يومٍ
إلى الحربِ: هل تمنحينَ البطولةَ أم تمنحينَ النّجاةَ؟!
إلى مَنْ يَعدُّ جباهَ ضحاياهُ: ما هوَ رقْمُ جبينكَ؟
إنَّ الطّريقَ هوَ المشيُ
ظلّلنا شجرٌ لا يبوحُ بأسرارهِ
فبكينا على الوردِ في ساحةِ الدّارِ
كانَ الحصى ناقصاً عن مدانا لننثرهُ
كي يكونَ دليلَ الرجوعِ
وكنّا نَقِلُّ وتمضي هويّتنا في المشاعِ
تشيلُ الشّعوبَ من البحرِ حتّى المكانِ الجديدِ
الشّعوبَ التي شاهدت موتَنا في الحصارِ
الشّعوبَ التي حسدتنا..
الشّعوبَ التي انتظرت أن يؤولَ لها جرحنا
كي تهاجر صوبَ بلادِ الحضارةِ
ها نحنُ ذا هائمونَ أمامَ المرايا
قطعنا أصابعنا كي يكونَ الوصولُ
اعترافاً أخيراً لنا بالخسارةِ
لم أحفظِ اسمَ المكانِ الجديدِ
بقيتُ أردّدُ: بيتي أمامَ الحديقةِ قدّامَهُ منهلُ الماءِ
والآنَ في غربتي لا أصدّقُ لونَ الشجرْ
أخضرٌ كلُّ شيءٍ وقلبيَ كالرّملِ في هاوية
أخضرٌ كلُّ شيءٍ وروحيَ كالغيمةِ الخاوية
أخضرٌ كلُّ شيءٍ وأهذي: خذوني إلى البادية
وصلنا!
أنا الآنَ في الأوّلِ الابتدائيِّ
أطلبُ كأساً من الماءِ أو كوبَ شايٍ
فتفرحُ آنستي ويصفِّقُ لي أصدقائي
وأبكي.. أنا أكتبُ الشِّعرَ في لغتي
لا أريدُ الذّهابَ إلى المدرسة
لا أريدُ التعلّمَ قسراً.. وجرحي يعضُّ على الملحِ
إنّ اللّغاتِ رفاهيةٌ!
وأنا ههنا لستُ شيئاً سوى أنْ نجوتُ من الموتِ
أهلي ورائيَ، بيتي ورائيَ،
الذكرياتُ وروحي
وكلُّ الذي قد هذيتُ بهِ قد تركتهُ علِّي أعودُ..
سأسألُ هذي البلادَ التي تركتنا نلوذُ بها، مَنْ أنا ؟!
كنتُ في شارعٍ في بلادي
سمعتُ صراخاً أطاحَ بقلبي كأنّهُ مشمشةٌ عَسَّلت
صرتُ صوتاً فحسبُ، وحرِّيَّةٌ صرختي
ثمَّ ضِعتُ كأنّي صداها
وضِعتُ وضِعتُ وضِعت
كأنّيَ خيطٌ تدلّى من الكمِّ
كمِّ الإله البسيطِ الذي صاحَ حرّيّةً ثمّ صارَ رماداً
ثلاثُ نجومٍ من الدّمِ تجبلُ للرّوحِ صلصالها
عَلمٌ للبلادِ التي نشتهيها
مدىً للخيالِ البعيدِ
همستُ لكلِّ الّذينَ معي تحتَ تلك النجومِ الثّلاثْ:
لا تهنوا أيّها الحالمونَ ولا تحزنوا!
ثمَّ كانَ خرابٌ وموتٌ ورعبٌ
خيامٌ على طولِ هذا العراءِ
نجا من نجا ونجوتُ
هنا في البلادِ البعيدةِ كانوا
يجيئونَ برّاً وبحراً وجوّاً
يفرّونَ بين العواصمِ بينَ الحدودِ
كأنَّ الخرائطَ وهمٌ
رفاقي وأهلي وشعبي
وحصّتُهم في الحياةِ هروب…
في حبّ البلاد المفترسة/ هاني نديم
حظي وأعرفهُ
كلّما
هيأت حقيبتي للحقولِ
أكلها الجرادْ
والثورة التي فرحت بها
تزوّجها..الجهاد
حظّي وأعرفه
من بين كل الناس
صادقت حسّادي
ومن بين ألف امرأةٍ أحبّتني
أحببتُ البلاد.
***
ماذا ستفعلُ الآن؟
لقد ركضت كثيراً إلى الأمام
حتى صار
وراءك!
قصائد/ تمام هنيدي
يجدرُ بك أن تغيب تمامًا، أن تختفي، ألا تُرى، أن تتبدّد، ألا تذوبَ وحسب. لأنهم قد يجدوا أثرًا، ولو صغيرًا، من حياتِك في الهواء، وقد يُعيدوا ذكركَ دائمًا، بلطفٍ زائدٍ…
يجدرُ بكَ أن تتبخر!
***
حسنًا، ها قد كبرنا كما كانوا يقولون لنا حين يريدون إقناعنا بفوائد شرب الحليب، والنوم في وقتٍ مبكّر، وعدم اللعب مع الأولاد “السيئين”.
كبرنا كما توعدتمونا، ولم يعد بمقدوركم الآن أن تكذبوا علينا كذباتكم السخيفة، بأننا سنذهب إلى النار إن دسنا من حيث لا ننتبه كسرة خبزٍ بالكاد تُرى.
كبرنا، وصار عليكم أن تجيبونا إجابةً أخرى، غير تلك التي تقول “إنهم يذهبون إلى السماء”
حين نسألكم بسذاجة: أين يذهب كلّ هؤلاء الموتى؟!
إلى باسل شحادة
تعال يا أخي
لنذهب في الغابة
بين اللوز والكرز
أو بين البلوط واللزاب والسنديان
تعال
نتفرّج على السلحفاة ونستغرب سرعتها الزائدة
وحين ننظر إلى ماء البحيرة
نرى الغربان في السماء تبتعد
تعال يا أخي
نتمشّى
ولا نصعد المزيد من الجبال.
***
جئنا من الجبال
من حيث ينبت العنب الأحمر، واللوز المرّ
والبلّوط بثماره التي تُنبئ بالدوار
نزلنا
وما كان بيننا من يجيد الكلام عن أصوات الحياة المصنَّعة
والمعادن المكدّسة، والإسمنت المسّلح
نحن أبناء بيوت الطين
أصدقاء أعشاش الطيور
وجحور الأفاعي
وبيوت النمل…
أصدقاء فئران الحقول
والكلاب السائبة
/
الذين كُنتُم تهزأون من ثيابهم
ومن شعورهم المشعّثة
وأسناننهم المهترئة
وأياديهم الخشنة
نسير بينكم اليوم
لا تفرّقنا عنكم ملابس ولا لغات
نشرب من الكؤوس ذاتها التي تشربون منها
ونمارس الجنس كما تفعلون
ونضجر مثلكم تمامًا
نحملُ -مثلما تفعلون-
أوراقًا، وكتبًا
وجوازات سفر
وهدايا لأصدقائنا
ونحملُ أيضًا
(إذا كُنتُم قد نسيتم)
دمًا ثقيلًا
وأحلامًا بالرجوع إلى بيوت الفئران التي تركناها مفتوحةً وراءنا
بينما تحلمون بمعادن جديدة
وحياةٍ مصنّعةٍ
وإسمنت مسلّح.
ليس لأمّي فيسبوك/ إبراهيم قعدوني
ليسَ لدى أمّي فيسبوك
ولا واتساب،
إنّما لديها قلبٌ سُرعانَ ما يهبِطُ كلّما رنَّ جرسٌ بعد التاسعة!
ويدان مفتوحتان على السماء، تبعثان برسائل محروقة الأطراف
تسألُ فتجاب،
هي التي لازمت حياتنا بمنبّه صوتها الصباحي،
قبلَ ديكِةِ الحيّ تداهم نومنا أنْ “أصبحنا وأصبح الملك للّه”
تعرِفُ أحوالنا من مناماتها،
يشمل ذلك نتائج الامتحانات،
وأحياناً ما في الأرحام،
كأنّما لديها كتابُ نوايانا
كانت تقول “اجعلوا على قبري قبّةً”
ألَم أقُل لكم أنّه “سَيخطِف في عينِ الظّهيرةِ! ”
ليسَ لها هاتفٌ جوّال،
ولا قارئ موسيقا
غيرَ أنّها تحبّ أغنية “ستّي” لفيروز، كلّما أدرتها في هاتفي مَلَأت عيونها بالدّمع.
سمِعتها تغنّي مرّتين (أنا الذي بباب الأربعين)
في الأولى: غنّت “يا بيتي يا بويتاتي”،
وفي الثانية “طارِت الطيّارة .. والحبايب طاروا”
سوى ذلك، كانت إذْ يداهمها الحزنُ تُطلِقُ ما يشبه مواويل تنتهي بحشرجات.
ليسَ لها حاسوبٌ شخصيّ،
غيرَ أنها تعرف أعمارنا من باطن كفّها،
وقد تستعينُ بعريشة الدّار..
تفتقِدُنا الآن – بعدَ كلّ الشجارات القديمة-
وكلَ مساءٍ تقول لأبي: افتح هذا الشيء لنرى الأولاد قبل انقطاع الضوء،
فمن يدري، غداً قد لا نكون.
2- صُوَرْ:
كانت الصّورُ عزيزةً على نُدرتِها
حَفِظنا أماكنها جيّداً في صدور البيوت،
تنظرُنا من فوقٍ محبَّب
وتزجُرُنا بوصايا خرساء
تلمّع أنسابَنا بأجداد متنكّبين سلاحهم في عواصم الجوار التي كانت ما أبعدها!
وضعناها جوار المصاحف؛ على رفوف الزوايا
أحطناها بالوردِ الاصطناعيّ -يعود تاريخه إلى ليلةِ العرس على الأرجح-
وعلى “التسريحة” في غرف النوم، كنايةً عن الصّبا و تذكاراً من “ليلةِ العُمر”؛
وأودعناها بطون ألبوماتٍ حميمةٍ لا تغادر خزائنها لأيٍّ كان،
رأيناها في “جزادين” الآباء وهم يفتحونها بحرصٍ كأسرار هشّة،
فَرِحنا ونحن نراها على وثائقِ المدارس حافظةً براءتنا في ختام المراحل،
كانت الصورُ حيّةً وثرثارةً؛
حتّى بهذا التباين البسيط بين أبيضها وأسوَدِها
لمسناها وقرأنا ما كُتِبَ على قفاها
ومع الوقت وضعنا لزواياها شرائط سوداء
وصرنا نتجاهلها
بيدَ أنّها ظلّت حارَّةً وزاخرةً بالحكايا.
كانت الصورُ كائنات حيَّة تواكبُ حياتنا،
ظلّت عزيزةً لا تطالها قاماتُ الصّغار
حتى رأيناها في صورِ الحرب مفجوعةً ومبتورة البراويز،
ممدّدةً مثل جثث فوق خراب البيوت
كأنّما هالَها هذا النزول القسريّ عن فراديسها
وأنّها صارت مجرّد صورٍ تعبُرها نظراتُ الحياد في شاشات باردة.
3- حلّ عنِّي أيها البلوز:
صباح الخير أيتها الأشجار النائمة، أيها الضباب الحنون، أيتها القبور البعيدة، أيّها الطّفل الذي بباب النهار، أيتها النغمةُ الضّالة، أيّها الطنين الذي في الرأس، أيتها الموسيقا الأبدية.
صباح الخير أيها العالم، إنّها تُمطر، تمطر كثيراً في بلاد الآخرين، تمطر بقسوة هذه السماء التي بلا قلب، سوفَ تبتلّ روحي المنشورة قُربَ صواني البابونج ومعقود المشمش على سطح البيتِ الأوّل.
باردةٌ هذه الريح، ولا “تشارينَ” أخرى تطالها الذاكرةُ الثّكلى، ها أنا أفشلُ في فتح ثغرةٍ في كتلةِ هذا الصباح الأصمّ.
ثمّة ورقات ملوّنة ويابسة صعَدَت في زوبعةٍ أنيقة، أوراق كثيرة دارت كعجلاتٍ سحرية، لبعضِها حُمرةٌ خجولة، هجَعَت على الرصّيف النديّ، حيث المتشرّد الملتَحِفُ بالنّعاس ينظُرُ لآخر الشارع كمن ينتظر أحداً لن يأتِي.
أمرُّ بسؤالِه اليوميّ: “Do you smoke mate?” هل تدخّن يا صاح؟ أجيبه آسفاً: أقلَعتُ منذ وقتٍ طويل ثمّ أمضي حاملاً لعنته المرتجفة.
عامل النظافة الأسود يلتقط زجاجات كحول من ليلة الأمس، يطوفُ بعربته التي تذيعُ أنغاماً وديعةً -من البلوز القديم على الأرجح-
عند الساحة الخالية سوى من بعضِ حمامٍ لاهٍ، أنعطِفُ مع الريح وأنسلُّ في الدفء الطارئ لمقهى الكوستا حيثُ رائحة الكرواسان الساخن تمتزج بموسيقا مرحة لا تناسب لونَ هذا الصباح،”-بلاك أميريكانو- تيك أواي، بليز” (يضيف الانكليز الحليب لكل شيء تقريباً). تبتسم الفتاةُ العشرينية ابتسامةً معدنية فيما تناولني كوباً طويلاً عليه صورة لرجل ثلج بقبّعةٍ حمراء.
أهجُرُ المقهى بينما ترنُّ في رأسي رائحةُ خبزٍ منشورٍ على رصيف بعيد، وفيما أخطو خارج الباب تلاقيني الريحُ الباردة مثل ساعي بريدٍ يناولني صورةَ طفلٍ يقولون أنّه غرِقَ في نهر كان يحسَبُهُ غيمةً سائلة.
على المقعد الرّطب أنظُرُ في الأوراق التي تسقُطُ بجمالٍ موحش، الأوراق ستسقط دوماً، وستُراقصها الريح، ويراقبها آخرون قد لا يكون بينهم رجلٌ يمسِكُ بكوبٍ طويلٍ من القهوة -في بلادٍ لا تعرفه- ويُنصِتُ لأغنيةٍ لروبرت كراي اسمها “حلّ عنِّي أيها البلوز” فيما يفكّر بطفلٍ غرِقَ في نهرٍ حَسِبَهُ غيمةً سائلة.
لستُ خطوةً/ وائل الناصر
لستُ خطوةً
تركتْ أثراً ما،
الرِّيح الَّتي تهبُّ الآن
ترسمُ خطوةً
غادرتني دون أنْ أشعرَ بها
أو أكونها.
***
أيَّةُ خطوةٍ تمرُّ
ستأخذُ التفاتةً منِّي،
سأربتُ على غبارها
لأمنحها ثقةً بسيطةً
يحتاجها لاجئ
فقدتْ خطواتهُ
2
أيَّ مرورٍ
أو حتَّى التفاتة.
3
يصدفُ أحياناً
أنْ أعثرَ بما أظنُّهُ لي
يُكْسَرُ حائطي
فأتشبَّثُ بي
كي لا يخذلني
ما ظننتهُ لي،
أتركُ وردةً أمامكَ
وأنا أغادرْ.
***
لتمنحكَ شعوراً صادقاً
عنِّي، أنا الكائن الذي
يصدفُ أحياناً
أنْ أعثرَ أيضاً
بما أؤمنُ أنَّهُ لي
تماماً كالَّذي يحدثُ
4
حين تتركُ وردةً أمامي
وأنتَ تُغادرْ.
***
لنلتقطها معاً
علَّ أوراقها
تحرثُ أعشابنا الضارَّة.
5- أبوابٌ لا تصفع الغرباء:
حين يصفعكَ بابٌ غريبٌ
تقفُ لوهلةٍ
تتحسَّسُ مكان الصَّفعة
دون أنْ تجرؤَ على ردِّها
وتمضي….
تحملُ خيبة الغريب فيك.
***
يتكرَّرُ المشهد
ومع كلِّ صفعةٍ
ستقفُ لوهلةٍ تتحسَّسُ مكانها
وتمضي إلى بابٍ آخر
وصفعةٍ أخرى.
***
6
هكذا..
إلى أنْ يحتويكَ وطنٌ
أبوابهُ لا تصفعُ الغرباء.
ثلاث قصائد/ صدام العبدالله
اﻷطفالُ لا يعرفون عن الحريّة
إلا أن يشتروا ما يحلو لهم
دون أن يعاقبَهم أحدٌ على حداثَةِ التّجربة كلُّ قمرٍ هو طفلٌ قبلَ الاكتمال
كلّ شمسٍ هي طفلةٌ تلعبُ صباحاً
في شارع السّماء وتسقطُ مساءً في إناء التّعب كلّ منزلٍ يتحسّسُ أصابعَ اﻷطفالِ وخطوطَها على جدرانِه هو منزلٌ ثاكلٌ حتّى يعودوا كلّ شجرةٍ تستيقظُ فلا تجدُ عصفوراً يحكُّ لحاءَها هي شجرةٌ بائسة
اﻷطفالُ يهربون من القصفِ ويختبؤون تحتَ جناحِ خيمة اﻷطفالُ هم الوحيدون الذين ذاقُوا فاكهةَ الحربِ قبلَ نُضْجِ الموسم أرواحُ اﻷطفال تحطُّ على القصيدةِ فتشربِكُ الوزنَ وتعبثُ بخيوط الصُّوف عيونُ اﻷطفال ترمُقُ الوطنَ المُهْـرَ وتركضُ خلفَه في الحقول
أصابعُ اﻷطفالِ حلوى وحليبٌ فاتر.
-3
هاتوا سمكة صغيرة نضعها
في حوض اللغة ونعلمها الحركات
هاتوا بيتا نرممه أو نصلح وزنه الجاهلي
هاتوا شارعا فرعيا نهيئه لطفل
علّه يلهو عن فقد أمه
هاتوا ابتسامة نوزعها على الفقراء
نحن الذين لا نملك ما نعطي
” هاتوا مدائنكم أهدمها ”
قالها شاعر متقمصا طاغية
” هاتوا برهانكم ”
قالها الرب في البدايات
و لم يأت أحد بشيء
ولن إلى يوم القيامة.
-4
الرجل المكوم في البراد
له أب عيناه بيضاوان من الحزن
كان يكدح في بلد الخير
الذي وزع أبناءه على البلدان …
قد يرتد بصره بإلقاء القميص
الرجل المكوم في البراد
له أم قد تشفى من مرض القلب
لو رأت بريق عينيه اللامعتين
الرجل المكوم في البراد
له أطفال يلعبون قرب المنزل
الغميضة مع القذيفة …
” أصيبك يا حبيبي أو تصيبني ”
هذا الرجل
له زوجة قلبها حار كرغيف
خبز تنور بعد السجور اﻷول ..
هذا المكوم
كان يحلم بزيارة العائلة ولو مرة
أخيرة على عجل ..
الرجل المكوم في البراد
استيقظ أخيرا ظانا أن نوبة
حراسته قد ابتدأت
الرجل المكوم في براد الوطن
مازال ينتظر من يسأل عنه
بقلب كأنه الثلج الفائت.
شجرة داخل خزانة/ ميس الريم قرفول
لأنه أوحيَ لي بأني شجرة دائمة الخضرة
لم أقدر إلا أن أحب العواصف التي تعرّي
في الداخل
بينما هي تبحث عن مركب في النسغ.
.
هيا اقترب
لقد مضى زمن طويل وأنا ظلٌّ لشيء ما
لا أعرفه.
.
رغم كل المشاغل والألم
رغم كل السلاسل التي تندلق في ظهري مثل المطر
أجد مكاناً لكَ دوماً
كأنك مخدّة في وضح النهار
على الإسفلت
فوق الغصون الكثيرة المتشعّبة
على صمت الضباب
كأنكَ بسمة على وجه السماء
تدخل دون أن تطرق الباب
تصيرُ مرآة دافئة فوق كل هذا الخشب.
.
هلا جدلتَ لي شَعري؟
طويلاً أكثر مما هو
وفي كل التفاتة لخصلة فوق خصلة تخرج منكَ ضحكة
أعرفها من وراء ظهري
إن الأصوات في الرأس القديم ترنّ كما الليرات في صحن الماء الذي عبّأه المطر
ثم مضى عابراً
في رحلاته الممتدة والتي لا تنتهي
ولا تعود.
.
كان يجب أن يطير كل هذا الحمام
أن أرى وجي بالمرآة بصمت
مالحة
مثل قشرة خرجت عن النهر وصارت لا تتعرّف عليه
كان عليّ كل ذلك حتى أدركَ أنكَ تعود لطريق عبرتُه
أدميتُ ساقي بالأشواك وانتظرتُ أن تلتفت إليّ حتى أغلق باب الخزانة على نفسي
كما في الحكايات التي تبيت فيها الأشياء بسلام
في الداخل شعاع سيستمرُّ
ستنام العيون وينتهي المطر
أما على القلب سينزل ورق الخريف
رصيفه حارٌّ والصور نوافذ
سوف تراقبه في يوم بارد
من وراء الأبواب.
أنتَ لستَ جميلاً كما اوحي لكَ
أنا من أملأ رتوشك بلوحات جميلة
أقول عن الضحكة أنها تفاحة تجمّعتْ كي لا تنتهي
أقول عن اليدين جناحين يخبّئان بينهما كنزاً من الألماس
لو يفيض!
هل تعرف لمَ؟
لأنني بتُّ أخشى من نقصان الكمال في كل مكان
وأعرف أن الله حزين
وكل مَن صادفتُهم من آلهة كانوا حزينين
أما الحب فعليه أن يأكل بعض القمح حتى يعيش
أن يضحك حتى لا يظنّه النهر حجرةً منه ويغرِقه.
مثل ثور معصوب العينين/ عبير عبد الواحد
تخذلكَ حتى الأشياء البسيطة
المُقرّبة منك
اللحنُ الذي كان يُشجيك
القلمُ الذي أحببتَ لَونه
ونبتةُ الظلّ على الطاولة
تخذلكَ فكرة الخذلان بِحدّ ذاتها
إذ كيف لكَ أن تَعتب عليهم لنأيهم،
أو لخذلانهم
وقد تَخطيّتهم إليها
إلى أن أفرغتْ الكلمة من معناها
فتدركُ أنهم ما خذلوكَ إلا إكمالاً لدائرةِ الحياة..
تخذلكَ البلاد
تبادرها بالحبِّ والذكريات الموجعة
فتقايضكَ بالنار والدمار وحكايا السّفر..
تخذلكَ البلاد
يسألكُ الغريب من أي البلاد أنت
فتزدردُ المرّ حالما تتلفّظ بِاسمها..
يخذلكَ الأمل
لكثرة ما عوّلتَ عليه
يصيحُ متبرّمًا
إنما أنا محض سُنّة
روّجت لها نفسٌ متعبة، وقضت
اعلموا بأني سئمتُ حُسن ظنكم
وبأني لا أجيء..
الأملُ هدية الألم
يكفّرُ بها عن ذنوبه مع بني البشر..
يستمرئُ العالم خذلانك
وتستمرئُ التنصّل والتشكي
والخذلان يدورُ ويدور
مثل ثور معصوب العينين
في ساقية نضبتْ منذ زمن بعيد.
لحظة الفقد الخالد/ ريبر يوسف
القطة السوداء عبرت الشارع العريض، ربتَ أخي على قلبه، فنالَ الفوز إثرَ مقولة عجوز روسيّ استنهضها في ذهنه فجأة، واعترض بها سيارته، اختارَ أخي – على غير عادته – الأزقة الفرعية إلى بيته. في الثانية بعد منتصف الليل، قبل حوالي ثلاث ساعات، أنهينا تماماً تناول وجبة العشاء..
مَسّني البريقُ في الزيتون الأسود.
خلال فيلم “معتقدات أرجنتينية” أرشدت البومةُ الزوجَ إلى مُختَطف الزوجة.
تلاواتٌ مجهولةٌ تخفقُ في ولوج الغرفة عبر النافذة، الآن.
-2-
جدّتي أنفقت أسابيع في تلقيني سر صناعة (السمن الحر). باشرنا من ابتياع دهن الأغنام في سوق الدواب بمدينة (الحسكة) إلى أن أنجزناه في جرة الفخار الكبيرة – خاصتها، لم أصنعه يوماً.
المعرفة واحدة من الوسائل التي يعبِّر بها المرء عن توقه إلى خَطْبٍ في الذاكرة.
يوماً ما، رائحة (دهني) المتفسّخ ستُرشِد الجيران إلى مطبخي، سأصافح النور الذي يخاطب الكائنات لحظة الفوز بالفَقد الخالد.
أوطان بديلة/ المغيرة الهويدي
(1)
أريدُ وطنًا بلا أسوار عالية …
أتسلق رعبه بخفة قطّ
أتعثر
أسقط
أنهض ملوّحا بذيلي!
أضيع في الزحام
في شارع من هذا العالم …
هناك حيث الرقص افتراض تقترحه الموسيقى والملل…
هناك حيث الوقوع في الحب ممكن أكثر من مرة،
دون أن تشقيك الذاكرة!
أريد وطنًا أنساه
لا أتذكره
لايعنيه فراري …
لايرسل القطط السوداء ورائي
وطنًا يغيب في البعيد؛
عرجًا في قدمي اليسرى
وشتيمة عابرة!
(2)
نحن البيت سنهاجر
سنحمل جدراننا، نوافذنا الموصدة، مفاتيح أبوابنا، أثاثنا المهترئ، غبار الزوايا المهملة، أصص الزهور، أكياس المؤونة، تفاصيلنا الصغيرة، ملح أحاديثنا في الظهيرة، زقزقة العصافير على حبل الغسيل، شجاراتنا المضحكة…
نحن البيت سنهاجر!
وعندما نصل إلى أرضٍ بعيدة
سنرتّبنا جيّدًا
سنتفقدّنا
ما لحق بنا من أضرار طفيفة…
سنستدعي عاملاً
وسنبتسم في وجهه وهو يغيّر أقفالنا!.
2-رصاصة مذعورة:
رأسي محشو بآلاف القصائد
عن نساء تزوجن من غرباء
وأخريات هاجرن إلى أماكن مجهولة
عن أطفالٍ يركضون بلا هدف
يلعبون في حدائق مهملة
يتسلقون أسوارًا لمدرسة بلا طابور وأناشيد
عن ضحكٍ لايكفي
وأحاديث غير مهمة
وتحيات مدنسة بابتسامات قصيرة…
عن شتاءٍ بلا غيمٍ
وغيمٍ تحت المطر
وفوق ألبومات الصور
عن ذكرياتٍ بعيدة
محايدة
وجميلة
وكأنها لاتخصني…
عن سرب حمامٍ
ينهدّ دفعةً واحدة
من “سابع سماء”
إلى بركة ماء في أهزوجةٍ مكسورة…
رأسي محشو
بآلاف القصائد
عن رجلٍ يختبئ في صوته
يرتدي كلماتٍ مطفأةً بلا أزار
ويغطي وجهه بمجازات سميكة
عن رجلٍ مشوّه لاينام
يخرج كل ليلةٍ من سبابته
يبحث عن زنادٍ بندقية نائمة
عن رصاصةٍ تستيقظ مذعورةً في رأسه!.
محاولات ساكنة الغربة/ خولة دنيا
محاولة 1
تعال نقتفي آثارنا من جديد،
بقايا التفاحِ الأخضر.
برعمٌ ذاهلٌ على الوسادة.
طعمُ الفودكا على الشفاه.
سِرُّ الوقتِ المُنسابِ بطيئاً
يعدو سريعاً
كمارشٍ عسكريٍ
يصدُّ الصبحَ عن التفتّحِ
فينفجرُ الوقت
تعالَ نلمُّ رائحتنا،
شتلةَ الزيتونِ.
زيتَ الخابيةِ العتيقة.
نحلاتِ العسل المنداح بين أقدامنا
نتبعثرُ
ونلمًّ ما تفتت منا
قبلَ مجيء الوقت
غالباً ما تضاءلتُ
كحبّةِ عنبٍ بين يديك.
كثيراً ما التجأت إليك
ففتحتُ يديكَ أشدُّ الكفنَ
أغازلُ أصابعكَ
أعدًّ أصدقائي
بعشقِ مدينةٍ تدخلُ الخوفَ ببقاياها
تسخرُ من ثوانيها
بانتظار الوقت
محاولة 2
لنغادر التلفاز قليلاً
نتحدث برحابةِ صدرٍ
عن اتكاء المطرِ على حواجزِ الشرفات،
العشق والجسد والفرق بينهما
عمّن اخترعَ القنبلة،
من تفشّى في ليلِ المدينة
كحبر صينيٍ فحولها لورقٍ رديء.
لنتأبط الخصرَ واليدَ كعجوزينِ يتكئانِ العمرَ والذكرى.
لنتمرد قليلاً،
فنشكو النومَ الباكرَ والزواج؛
قذيفةَ الهاون وتكسير الزجاج.
نافذةً اغلقتها الريحُ فاخترقتها الرصاصة
سأنضو اللونَ قليلاً،
اتكحَّلُ بهذا الليل.
أشْكُ الوحدةَ مِثلَ كُلنا
أمسِّدُ ذِراعَ الأريكةِ
أنْحَني على الكأسِ
كفراغٍ يخرِجُ من فراغْ.
محاولة 3
لن يعشش السنونو من جديد،
فكل شيء أصبح ترفاً
نزقاً بارداً!
هاجسَ وداعِ انطباعاتِ العيون لاختلاجات وطن.
الضحكةُ ترف.
اللقمةُ ترف.
ارتجافُ اللغةِ في أُذنيِّ عاشقةٍ أُسقِطَ في يدها، ترف.
وطنٌ أبيضٌ، ترف.
سهرةُ الصُحبةِ لاقتناصِ الوقتِ بالجدوى، ترف.
كأسُ نبيذٍ يُقرِّبُ الحُلمَ قليلاً، ترف.
البيت! ترف.
الشارع! ترف.
الحياة! ترف.
اعتقالٌ يأكلُ العمرَ دقيقةً دقيقة! ترف.
حفّنةُ ترابٍ لإغلاقِ مدى الموت، ترف.
“كلُّ شيء يسودُّ كحدقةٍ تأكلُ بياضَ العين
تتفرعُ لِعُزلةٍ وفزع
يا أخوتي لا تقتلوني
أحلمُ أن أموتَ بيدِ الغريب”
يا للترف!
محاولة 4
هشةٌ أنا كأسفنجة
امتصُّ كلَّ ما فاضَ عن ألم الغريب
فاشتاقُ لأكونَ أمي،
حينَ المغيبُ أفاقَ على شروقِ مَفرَقِها
فنأتْ عني.
هناكَ حيثُ للأرضِ معنى الوجود
تعيدُ مدارات يومِها
تُقطِّع أصابِعَها مع هشاشةِ الفول
تبتسمُ للبصلِ في الطنجرة
وتقول لي:
عودي،
اشتهيتها لك يا حبيبتي.
وأنا يا أمي،
يعرِّشُ حُزني على صدرِ الغريب
يركِنُني وعداً مجهولاً
للحنٍ لن يعزفه لي،
وعندَ البابِ،
كشروقِ الشمسِ في صَحنٍ فاتني منكِ
أُعيدُ رسمَ هشاشتي
مركونةً كما الغبار
على أوتارِ العود.
ضفة ثالثة
تعليق واحد