سينما مع وقف التنفيذ…
أعتــذر بــدون أن أعتــذر
نضال حسن
ينصحني بعض الأصدقاء ألا أكون عاطفياً.
حاولت وفشلت.
ذلك لأنّني مللت من مشاهدة سينما غير عاطفية ومخرجين يخونون العواطف.
فالسينما لا تصنع من دون عاطفة، وصالات السينما تموت إن افتقدت لخفقات قلوب المشاهدين وصوت أنفاسهم في العتمة.
لا نَصنع السينما من أجل أن نقدّم للآخرين أفكارنا وآراءنا في الحياة ـ هذا تبجحٌ غير جدير به إنسان ـ نحن نصنعها من أجل تلك اللحظة التي تنكشف فيها عتمة الصّالة بذلك الضوء الفضّي على الشاشة، فيخفق قلب المخرج عند ظهور اللقطة الأولى من فيلمه… ويلٌ له إن بقي قلبه يخفق وحيداً في العتمة، ويا لسعادته إن أشعل فيلمه قلوب الآخرين.
هذا ما تُصنع السينما لأجله ـ مئات القلوب تخفق معاً في العتمة الباهرة.
ولأننا لا نستطيع أن نمتلك قلب المُشاهدِ ما لم نأتِه بفيلمنا، فاتحين قلوبنا، مقدمين أنفسنا بتواضع لنتشارك معه حبنا للحياة، بقسوتها ورقتها، بانفعالها وهدوءها، بعشقها وجنونها، الحياة بكل أطيافها التي تجمعها السينما، قرّرت أنا المخرج السينمائي الشّاب نضال حسن ـ الذي لم يسمع به كثيرون ـ أن أفتح قلبي، وأبوح للسينما التي أحبّ، وأكفّر عن خطيئتي: أنّني فكّرت للحظات أن أخون هذا الحبّ.
فقبل خمسة أشهر، أجرى صديق صحفيّ لقاء معي في جريدة الثورة السوريّة بعد عودتي من روسيا حاملاً معي موافقة مؤسسة موسفيلم الرّوسية للمشاركة في إنتاج فيلمي (صلاة الغائب) مع المؤسّسة العامة للسينما. كانت الحماسة تملؤني لمشروعي الجديد، خاصّة بعد أن تمّت الموافقة على سيناريو الفيلم من قبل اللجنة الفكرية في المؤسّسة التي جاء في محضرها: (ترحّب اللجنة الفكرية بالسيناريو وترى فيه مشروع فيلم جيّد بعد الأخذ بالملاحظات التالية: حذف مشهد الجنس، وتعديل مشهد شرب «العرق»).
وفي معرض حديثي عن الإنتاج المشترك ذكرت أنّ موسفيلم برمجت الفيلم للعام ٢٠٠٨ ونحن في ٢٠٠٩، وقد حصل التأخير بسبب المؤسسة وخطتها الإنتاجية، لأن الميزانية المالية المخصّصة للإنتاج لا تسمح إصلاً بإنجاز أكثر من فيلمين روائيين في العام، وبالتالي جرى تأجيل الفيلم لعام ٢٠٠٩، لكنّ موسفيلم بقيت على التزامها بالمشاركة في الإنتاج.
وجواباً على سؤال حول الطريقة التي تعاملت بها اللجنة الفكرية مع السيناريو، خاصّة بعد التتويج الذي حظي به في مهرجان قرطاج السينمائي عام ٢٠٠٨، قلت: «ما حدث هو العكس من ذلك، حيث أُبديت حول النصّ ملاحظات رقابية قد جرى تجاوزها من قبل التلفزيون، بينما ما زلنا نحن نعاني منها في السينما».
لم أكن أتوقّع أن تولّد إجابتي هذه ردّة فعل غاضبة لدى إدارة المؤسسة، ولم أكن أتصوّر خاصّة أن يؤدّي كلامي هذا إلى تهديدي بإيقاف فيلمي إن لم أبادر إلى نشر اعتذار رسميّ في الصحيفة ذاتها عمّا قلت، وإن لم أحمّل نفسي مسؤولية هذا التأخير بسبب تقاعسي في الأخذ بملاحظات اللجنة على السيناريو.
مضت أشهر على الحادثة وأنا أحاول أن أستوعب ما جرى، معيداً ألف مرّة ومرّة قراءة ما تفوّهت به بحثاً عن خطأي الشنيع الذي ارتكبته، وأنا أردّد في نفسي: يا لحماقتي… كيف قضيت على فيلمي بيدي!
أشهر من القلق وأنا أحاول أن أجد مبرراً للاعتذار ممّن قيل أنّني أسأت إليهم، متسائلاً في الوقت ذاته عمّا يمكن لكلمتين «الفيلم ملغى» على لسان مدير عام مؤسّسة سينمائية أن تحدثاه من خيبة أمل قد تدمّر حماسة سينمائي شاب دون أن يرّف لقائلهما جفن.
لم أعتذر، تأكيداً لنفسي أنّي لم أقصد الإساءة إلى أحد ولم تكن غايتي هجوماً على إدارة المؤسسة واللجنة الفكرية. كان رأيي كيف أرى السينما والرقابة على الفن. الرقابة التي توصِّف مشهد حب بمشهد جنس وتطلب حذفه… أليست القبلة أمر نادر أو شبه معدوم في سينمانا السورية؟
هل يعيش السوريون حياتهم بلا قُبَلٍ؟ سؤالٌ برسم الرقابة…
ألم تصبح سينمانا مضجرة، مليئة بالأفكار وتفتقد للمشاعر؟
ألا يفتقد السوريون سينما أيّام زمان وقبلات أيّام زمان؟
الفيلم ملغى
حزمت أمري، وقررت الاتّصال بالأستاذ محمد الأحمد، مدير المؤسّسة العامّة للسينما، لكي أشرح له وجهة نظري، وبالفعل قابلته، لكنّه بقي مصراً مع الأسف على موقفه بأنّني أسأت إلى اللّجنة الفكرية في المؤسّسة رغم تعاملها الطيّب والإيجابي مع نصّي، وأنّه يسامحني فيما يخصّه، لكنّه لا يعفيني من ضرورة تقديم اعتذار معلن لأعضاء اللجنة. وانتهى الحديث بيننا عند هذا الحدّ.
مضت ليلة واحدة ـ مليئة بالقلق ـ أصبحت من المغضوب عليهم في المؤسسة برأي زملائي السينمائيين وبعض العاملين في المؤسسة.
لم أنم ليلتها، وفي مساء اليوم التالي عدت لأخبر الأستاذ محمد الأحمد بأنّني أعتذر منه على خطأ وحيد ارتكبته بالفعل، وهو أنني لم أُشر إلى دوره الإيجابي في دعم السيناريو (وهذا ما حصل حقيقة)، لكنّني لن أعتذر في الصحيفة عن إساءة لم أرتكبها بحقّ اللجنة. فأجابني قائلاً: «الفيلم ملغى إذاً».
«الفيلم ملغى» هكذا وببساطة…
حتى تلك اللحظة كانت لدي قناعة بأنّ الأستاذ محمد الأحمد سيتفهم وجهة نظري. لكنّه، وهو الناقد السينمائي المعروف، يمنعني بهذه الطريقة من التعبير عن رأيي بحدوده الدنيا ويطلب مني الاعتذار.
بكلمتين فقط ـ الفيلم ملغى ـ يقرر مدير عام لمؤسّسة سينمائية عامّة أن يقضي على حلم سينمائي شاب.
بكلمتين فقط لا تعود سينمائياً، وعليك أن تُوقف تفكيرك في اختيار الممثلين الذين بدأت ترصدهم منذ الآن. أن تتوقف عن التفكير في كيفية صنع مشاهد فيلمك، وعن رغبتك العميقة في أن ينال فيلمك إعجاب الجمهور والجوائز معاً. أن تتوقف هكذا عن كونك سينمائياً.
بمعنى آخر أن أتوقّف عن أن أكون سينمائياً.
في هذه الأثناء إنعقد مهرجان دمشق السينمائي، واجتمع سينمائيو العالم، وغاب معظم السينمائيين السوريين.
شاهدت أفلامنا السورية، ورأيت جمهور ومحبّي السينما تكتظّ بهم الصالات، فتمنيت لوهلة لو كان هذا الجمهور هو جمهور فيلمي. وفكرت مجدداً، ماذا افعل حتى أصنع الفيلم؟ هل أعتذر؟ وممّن؟ ممّن يجب عليهم أن يعتذروا لغياب العواطف والحبّ في سينمانا، ولغياب السينما في سينمانا؟
هل أعتذر مّمن يصف المخرجين السوريين بأنهم كسالى ويسخر من إلهامهم الذي لا يزورهم إلّا كلّ عقد مرة؟
هل أعتذر أمام أعضاء اللجنة الفكرية الذين يناقشون سيناريوهاتنا السينمائية، بدون أن يعرفونا، بدون أن يرونا ونحن نتقمص ممثلينا معبرين بأيدينا وأعيننا وجسدنا كله عن مشاهدنا وعن شخصياتنا التي كتبناها بكل الحب وكيف عشنا معها شهوراً وسنين؟ لأنه ممنوع على المخرج حضور جلسة مناقشة فيلمه.
أم أنّ عليّ أن أعتذر فقط من كلّ هؤلاء كي أكسب بعدها فرصة عمل فيلم ـ هو في الأصل حقّ مكتسب لي ـ وأخسر في المقابل نفسي وقناعاتي؟
لكن، ولأنني مؤمن أن المؤسسة العامة للسينما هي لجميع السوريين، وهي منبر لكل السينمائيين والكتاب والمثقفين، ولأن مؤسساتنا الثقافية موجودة لخدمة ثقافتنا ومثقفينا، ومن غير الممكن لسينمائي أو روائي أو فنان أن ينتج ثقافة عندما يتم التعامل معه على أنه موظف وليس مبدعاً.
ولأنه ليس بمستطاعي أن أتوقف عن كوني سينمائياً.
لأنني أعرف أنه هناك سوريون كثر يعشقون السينما كما في فيلم «سينما باراديسو»
وهناك من يحب على طريقة «في مزاج الحب»
وهناك فتيات في سوريا على شاكلة «إميلي بولان»
ولأن هناك بالتأكيد من يبكي مثل أل باتشينو في فيلم «العراب»
قررت:
مؤجل
السيد المدير العام للمؤسّسة العامّة للسينما، السّادة أعضاء اللجنة الفكرية الكرام:
أعتذر منكم لأنّني لن أعتذر، فالذي بيني وبينكم ليس خلافاً شخصيّاً، وإنّما قضية أنبل وأسمى هي قضيّة السّينما والسينما فقط. وبناءً عليه أوقف فيلمي أمام إصرار إدارة مؤسسة السينما على موقفها هذا.
أعتذر من أصدقائي السينمائيين الذين يسمون كلامي هذا انتحاراً ـ انه إعلان حبّ على السّينما.
أعتذر من أبي: لأنني يا أبي لم أجمع مالاً من السينما ولم أشتر به بيتاً وسيارة.
أعتذر منك، لأنني لن أتخلى عن سينمائيتي.
أعتذر من سائقي التاكسي اللطفاء الذين يوصلونني في الليل وهم يحدثونني بكل الحب عن سينما أيام زمان. أعتذر من سينما أيام زمان. ومن نجوم سينما أيام زمان – لأنني وصلت متأخراً.
أعتذر من شوارع دمشق التي أعماني الحزن والقلق على فيلمي خلال الأشهر الماضية عن رؤية تفاصيلها. ومن مخرجينا الذين غابوا عن مهرجانهم والذين أصبحت أسماء بعضهم بمثابة لعنة يخاف السينمائيون الشباب ان تطلق عليهم للتشبيه. بعد أن كانت أسمائهم علامات فارقة في السينما السورية. أعتذر منكم لأنني مثل الكثير من السوريين أفخر بأفلامكم.
تحيةً لكم ولسينماكم.
أعتذر من أصدقائي المخرجين الشباب، خريجو أكاديميات السينما، الذين عادوا إلى وطنهم محمّلين بأحلام وطموحات عن السينما، ما لبثت أن اصطدمت بواقع مؤسسة السينما التي ضاقت على أحلامهم.
أعتذر من محبي السينما وعشاقها،
من نوادي السينما وأصدقائها،
من الموظفات اللطيفات في مؤسسة السينما اللواتي يعملن على تسيير المعاملات والقضايا المالية لأفلامنا ولا يشاهدنها فيما بعد.
ومن كل الشباب العاملين في المؤسسة الذين يتعبون معنا ويمنحون السينما قطرات عرقهم وسهرهم الليالي ولا نسألهم فيما بعد عن رأيهم بأفلامنا.
من صديق كتب لي ولم أكن أعرفه حينها، بعد تمرير السيناريو له من قبل الأصدقاء «ليس مصادفة ان نلتقي… وليست مصادفة أن نعيش الحياة ذاتها بكل تفاصيلها وشغــفها وجــنونها… المصادفة الوحيدة هي أن نمــوت علــى الطريــقة ذاتـها «الموت من فرط الحب»، أعتذر منك لأنني احتجت إلى مئة وتسعة عشر مشهدا لأعبّر سينمائياً عن ما قلته أنت في سطرين بعد قراءتك للسيناريو.
وأخيراً، وليس آخراً، أعتذر من عناقات المحبّين في فيلمي التي وإن تأجّلت اليوم فإنّني لن أتخلّى عنها قطعاً ما دام السّوريون يعرفون معنى العناق وطعم القبل…
وما دام فيلمي، ليس ملغى، وإنّما مؤجّل، مؤجّل، مؤجّل…
وما دامت السينما ممكنة… ممكنة دائماً.
(مخرج سوري)