صفحات الرأي

سَلَفِيَـة فـي مُواجَهـةِ السّلفِيَـة


صلاح بوسريف

لم تكن السلفيةُ، تعني التَّطَرُّفَ، والعُنْف، والاستبدادَ بالرأي، أو التظاهُر في الشوارع لمنع الناس، أو لفرض شَريعةٍ، مُتَوَهَّمَةٍ، بالقوة، أو بحَدِّ السيف. فالسَّالِفُ، في اللغة، تعني المُتقدِّم، والسَّلَف والسَّليفُ والسُّلْفَةُ؛ الجماعةُ المُتَقدِّمون. وجاء في القرآن ‘ فَجَعَلْناهُم سَلَفاً ومثلاً للآخِرين ‘ [الزخرف 56]. وقال الفَرَّاء، في تفسيره للآية؛ يقول جعلناهُم سلفاً مُتقدِّمين، لِيَتَّعِظ بهم الآخِرُونَ.

فالسلفيّ، هو من كان يرى في نفسه مثالاً أو قُدْوَةً، أو صورة لمن تقدّمَه، من أسلافه الماضين، الذين اعتبرَهُم خيراً من الخَلَف، أي من المتأخِّرين، ما جعله، يستعيدُ هؤلاء، ويستعيدُ معهم فكرَهُم، ويُشِيد به، ويدعو إليه، ويَحُثُّ عليه، باعتباره أصلاً وأساساً وصواباً، في مقابل، خطأ، أو بِدْعَةٍ وانحرافٍ.

هذه السلفيةُ، بهذا المعنى الماضويّ، التي ترى مثالَها، في هذا الماضي، لا في غيره، كانت ساريةً في مختلف مناحي الفكر والثقافة العربيين. وكان تعبير ‘ ما ترك الأوَّلُ للآخِرِ شيئاً ‘، هو شعار هذا الفكر السلفـي، وقد تبدَّى واضحاً، أكثر، فـي الدراسات النقدية التي واكَبَت الشِّعرَ، وعَمِلت على اعتبار المُتَقَدِّمَ، أو السَّابق، مثالاً للمُتأخِّر، أو اللاَّحق، وهو ما عبَّر عنه مفهوم الفحولة، عند الأصمعي، في كتابه ‘ فحولة الشُّعراء ‘، وما كان اختزله ابن سلاّم الجُمَحي، في مفهوم الطبقة، في كتابه ‘ طبقات فحول الشعراء ‘.

في الدّين، ظهر هذا المفهوم، كتعبير عن العودة إلى ‘ الأصل ‘، أي إلى ما يمكنه أن يُزِيلَ كل أشكال اللبس التي حدثت، في تأويل النص، وفي ما أصبح يُنْسَب للرسول من أقوال وأفعال، وما يُنْسَب لأصحابه، ممن عُرِفُوا بالصحابة والتابعين.

هذا الالتفات إلى الماضي، كانت له ضروراتُه، وكان السياق العام الذي أدَّى إلى حدوث ‘ الفتنة ‘، وما كان من نارٍ تحت الرماد، نتيجة تراكُم جملة من الأسباب التي كانت تنتظر الفرصة المواتية للاشتعال، هو ما أفضى بهذا الفكر ليظهر، معتبراً أن هناك أصولاً لا بُدّ من العودة إليها، وإلاَّ ضاع كل شيء.

كان أبو بكر اسْتَدْرك هذا، وأعطى لمعنى الأصل تأويلَه الصحيح، ليس بالعودة إلـى الرسول، الذي ‘ قد مات ‘، بل إلـى ‘ الكتاب ‘، المرجع، الذي مصدره الله ‘ وَحْدهُ ‘ لا غيره، في خطبته المعروفة ‘ من كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات. ومن كان إنما يعبد الله وحْدَهُ لا شريك له، فإن الله بالمرصاد، حيٌّ قيُّوم، لا يموتُ ولا تأخذه سِنَةٌ، ولا نومٌ، حافظ لأمره، منتقم من عدوه بحزبه ‘.

فسلفية أبي بكر، هي سلفيةٌ نَصِّيَةٌ، سماويةٌ، تعود بالأمور إلى مصدرها، وليست سلفية نبويةً، أو دنيويةً، تختزل الدِّين في الرسول، أو تضع الرسول في نفس مكانة الله الذي ‘ لا شريك ‘ له ‘، بمعنى أن أبا بكر، كان حاول وضع الدِّين في سياقه الغيبي، لِدَرْءِ الفتنة، والارتداد، والابتعاد عن تأليه البشر، أو وضعهم بموازاة الغيب، أو إحلالهم مَحَلَّهُ.

تأجيل ‘ الفتنة ‘، ودَرْء الارتداد، أو قَهْر المُرْتَدِّين، كان بسلوك الخلافة، تشاوراً، ولو في مستوى الظاهر، أي بالاختيار، لا بالجَبْر، [ دون معارضة من أحد، رغم وجود طرفين مختلفين؛ الهاجرون والأنصار’!] والخليفة، هو أحد القريبين من الرسول، أو من كانوا معه، يأخذون عنه، ويستمعون إليه، وعاشوا معه الدّعوة، ونزول الكتاب.

أساس الخلافة، قام على ما جرى في السقيفة، وهو ما ظل حتى في القراءات القديمة والحديثة مثار شُبْهَة واختلاف. فالرسول لم يترك خلْفَه ما يُشير إلى من سيخلُفه، فلا وصية، ولا كتابَ، ولا حتى إشارة لهذا أو ذاك، من هؤلاء الذين توَالَوْا على الخلافة، بدءاً من أبي بكر وانتهاءً بعلي. فهذه ‘ الزعامة الدينية ‘ التي ظهرت، غيَّرت مجرى الريح، وكان لها ما سيعقُبُها من تبعاتٍ، هي ما سيطفو على السطح، في ما عُرِفَ بـ ‘ الفتنة ‘.

وتبقى عبارة الجاحظ، في هذا السياق المتعلق بمشكلة الخلافة، أو ما سمَّاهُ بالإمامة، ‘ فقد نَفَضْنَا القرآنَ من أوَّلِه إلى آخرِه فلم نَجِد فيه آيةً تَنُصُّ على الإمامة ‘، إشارة، كما يقول أحد الباحثين المعاصرين، إلى أنّ الدِّين في هذا الموضوع كان غائباً، أو تَمّ تغييبه بالأحرى.

الخلافة، بهذا المعنى، كانت تأجيلاً لفتيل الفتنة، ولهذا الفكر السلفيّ الماضويّ الارتداديّ، وتأجيجاً له في نفس الوقت، لأنها كبَحَت الخِلاف، ولم تُنْهِهِ، لأنَّ ثمة ما بقي يعتمل في النفوس، وفي العقول، من رأي وفكرة، لم تكن وجدت الظرف الذي ستخرج فيه للعَلَن، تُدْلي بدلوها، في ما سيظهر من ‘ خلاف ‘.

فأبو بكر وعمر ومن جاء بعدَهُما، كانوا زَعاماتٍ، دورُهُم كان دور ‘ قيادة ‘، رغم ما كان يبدو فيه من وازع ديني، فهي كانت دنيويةً، في أساسها، وهذا ما كان أبو بكر حَسَمَهُ، في خطبته، حين عاد بالدِّين إلى مصدره، ونزعه من يَدِ الإنسان، حتى لا تكثر ‘ الآلهة ‘ ويَفْسُد ما في الأرض.

ستشرع الخلافة الدينية، بالظهور، مع معاوية، ومن جاء بعده، لأن معاوية، وهو كان دخل الإسلام مُكْرَهاً، كان في حاجة للشرعية الدينية، التي لم تكن تُعْوِز، من سبقوه، لسيتفرد بالسلطة، وليضمن ‘ الإمامة ‘، بمعناها السياسي، لا الديني، التي كانت من سمات خصمه علي بن أبي طالب.

هذا ما يُبَرِّر تاريخياً، لجوء معاوية، لِما يُسمَّى بسياسة العصا والجزرة؛ فهو في ما يحتاج للدِّين، كان هيَّأ نفسه لذلك، باستقطاب من تبعوه، وانصاعوا لسلطته، وفي ما يحتاج لتدبير شؤون الدنيا، كان هيأ من يقوم بفرض الأمر الواقع على من كانوا ما زالوا يحاولون استعادة ما أُخِذ منهم، أو ما اعتبروه حقّاً شرعياً، بالمعنى الدِّينيّ.

ليست العودة إلى السلف، إلاّ نتيجة لهذه السياقات التاريخية، ولهذه الخلافات التي بقيت كامنةً، ما جعل الذين جاؤوا من بعدهم، يبحثون عن مرجعٍ، أو سَلَف يستندون إليه، في ما يذهبون إليه من أفكار، وما كانوا حَمَلُوه من بوادر انشقاقٍ وتَفَتُّتٍ.

سيتدخَّل التأويل، والوضع، وضع الأحاديث، بشكل خاص، ليصيرا، وسيلةَ مواجهة بين هذه الأطراف، كما سيتدخَّل الشِّعر، بدوره، لِما له من أهمية في الانتشار والتأثير، في هذا النوع من التأويل، وتبرير أحقية الخلافة، لهذا الطرف، أو ذاك، وهذا ما جعل من الماضي الدنيويّ، أي ماضي الأشخاص، لا الكتاب، وفق ما جاء في خطبة أبي بكر، يصير مرجعاً، ويصير بالتالي السَّلَف، ليس أصلاً، بل ما يلي الأصل، أو ما هو تأويل وتضليلٌ للأصل.

ولعلَّ في الفكر السلفي المعاصر الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، مع جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، بشكل خاص، في دعوته لفهم الدِّين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف، والرجوع، في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، وفق ما أكَّد عليه في مجلة ‘ العروة الوثقى ‘ التي كانت تصدر في باريس، آنذاك، ما يُشير إلى إدراك محمد عبده، بذكائه، وبفكره النقدي البُرْهانيّ، أن تضليلاً ما حدث في فهم الدِّين، وأنّ ما نعرفه اليوم عن الدِّين، هو قراءات للدِّين، وتأويلات، كان سببُها هذا ‘ الخِلاف ‘. فمحمد عبده لم يقل قبل الفتنة، بل قال ‘ قبل الخلاف ‘، وفي هذا ما يجعلنا، نؤكِّد على ما حملته خطبة أبي بكر، في طياتها، من دعوة لله وحده.

ليس غريباً أن تُلْصَق، بسلفيّ كمحمد عبده تهمة الإلحاد، وأن يُعْتَبر خطراً على الدِّين. فالسلفية، ليست سلفيةً واحدة، بل إنها سلفيات، وفق ما أكَّدْتُ على ذلك، في مقالٍ سابق، وهي سلفيات بمرجعياتٍ دنيوية أرضية، لا بمرجعية غيبية سماوية. فالأزهر، كان مكان هذا النوع من التقاطبات السلفية، التي كانت بقدر ما فيها من نخبة متنورة من رجال الدٍّين والعلماء، ممن كانوا يحتكمون للبُرهان، بتعبير محمد عبده، في الفهم والشرح والقراءة، بقدر ما كان فيه من لا يخرج عن ‘ البيان ‘، ويختزل الفهم والشرح والقراءة، كلها، في ما يقوله، دون أن يقبل الإنصات لغيره، أو الاستئناس برأيه.

هذه السلفية البُرهانية، التي ترفض التبعية والتقليد، كما ذهب إليها محمد عبده، هي التي ألحَّت على أنَّ أي إصلاح ديني، لا يمكنه أن يَحْدُثَ، أو يقوم، إلاَّ بـ :

تحرير الفكر من قيد التقليد، حتى لا يخضع العقل لسلطان غير سلطان البرهان، ولا يتحكم فيه زعماء الدُّنيا، ولا زعماء الأديان.

اعتبار الدِّين صديقاً للعلم .. وهُما حاجتان من حاجات البشر، لا تُغني إحداهُما عن الأخرى.

فهم الدِّين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى.

وهذه الينابيع الأولى، هي الكتاب [الله، في تعبير أبي بكر] وقليل من السنة في العمل. ووفق ما جاء في إحدى مقدمات كتاب ‘ العروة الوثقى ‘ الذي هو مجموع أعداد المجلة الثمانية عشر، فلما كان الثابت بالتواتُر من السنة قليلاً، فالشيخ، والمقصود محمد عبده، صرَّح، في تفسير الفاتحة، ‘ إنه يجب أن يكون القرآن أصلاً تُحْمَل عليه المذاهب والآراء في الدِّين ‘.

فنحن في هذا الوعي السلفي، وفي هذا الفكر السلفي، الذي قد نكون مختلفين معه في كثير من الأشياء، وخصوصاً، في هذا ‘ الارتداد ‘ الماضويّ، الذي لا نذهب إليه، بهذا المعنى، فإننا قد نتفق معه في هذا الانشراح، في الرؤية، وفي اعتبار العقل، أو البرهان، أحد أهم مداخل القراءة والففهم قبل التفسير والتأويل. ولعلّ الخطر الذي اسْتَشْعَرَتْه السلفيات الدنيوية، بالمعنى الذي أشرتُ إليه، هنا، في سلفية محمد عبده، هو استعمال آلة الفكر والنظر، في ما لا يقبل النظر، في رأي السلفي، كأداة للقراءة والفهم، أو بتعبير الشيخ علي عبد الرازق، في حديثه عن محمد عبده، فهو كان ‘ المُصْلِح الجريء، الذي حاول الهدم والبناء في أقدس هيكل عند البشر، فيما يعتبره الناس ديناً ‘.

فكرٌ مُنْشَرِحٌ، قرأ النص بانشراحٍ، كما عَمِل بالعقل، في حدود، علاقته به، أو البرهان، ما جعله يكون حاضراً في الماضي، لكن بضرورات الحاضر، وبما تفرضه سياقاتُه التي لم تكن، بالضرورة، هي سياقات هذا الماضي، الذي اعتبرته السلفيات الأخرى، ديناً آخر، أو نصّاً، ربما يفوق النص الإلهي ويتجاوُزُه، بنوع من الشَّطط في الفقراءة والفهم والتأويل.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى