سُلاف التي رأت
فــاروق وادي
لا يخامرنا الشّك، للحظة، في أن سلاف رأت الحُبّ لكلّ ذرّة من تراب سورية، يفيض من عينيّ الرئيس بشّار الأسد. ولو قالت إنها أصغت لدقّات قلب الرئيس تخفق على ألحان سورية يا حبيبتي، لبصمنا لها، بلا جدال، بأن ما تسمعه، لا يلامس الحقيقة فحسب، وإنما هو الحقيقة بعينها!
ما رأته سلاف فواخرجي في عينيّ السيد الرئيس، كان صحيحاً مئة في المئة، لم تداخله ذرّة غبار واحدة، أو انحراف في زاوية الرؤية. أولاً، لأن الحقيقة التي تُعلن عن نفسها (وقد سبق لمحمود درويش أن صاغها شعراً وحملت عنوان واحد من دواوينه) تقول: ‘أرى ما أريد’. فاللحظة الاستثنائيّة التي جمعت الفنانة الجميلة والرئيس القائد بحضور حشد من الفنانين، زاوجت بين نقيضين لا يلتقيان في الأصل: سلطة الفنّ، وسلطة السياسة. الأولى بكلّ توقها المفترض إلى الحريّة، والثانية بكلّ استبدادها وسعيها إلى إذعان الآخر. وقد ارادت الفنانة، وهي تتأمل عينيّ الرئيس، أن تختار ما تريد!
ولأن سلاف فواخرجي فنانة، فقد عرفت كيف تنتقي التعبيرات الرقيقة لانحيازها، وكيف تستخدم القوّة الناعمة، التي لا تشبه الخشونة الفظّة التي لجأ إليها زوجها المُخرج، الذي لم يتردد في استخدام ما يشبه البورنوغرافيا السياسيّة، فكان ملكياً أكثر من الملك، ودركياً أكثر من قائد الدّرك، حين طالب بالإبقاء على قانون الطواريء. الأمر الذي كرّره ممثِّل سوريّ، طالب الرئيس صراحة بفتح باب الحارة السوريّة على مصراعيه، لا لتتدفّق عبره رياح الحريّة، كما سيتبادر إلى الذهن طالما أن الحديث صادر عن شخص من المفترض أنه فنان، وإنما لكي تعود منه حالة الطواريء لتبطش بحراك الشّارع.
أما المسألة الأخرى التي تؤكد صحة ما رأته السيدة فواخرجي في عينيّ السيِّد الرئيس من حبّ لسورية، فهي أن لا أحد يملك حقيقة تُكذِّب بأن ما رأته الفنانة بعينيها الجميلتين اللماحتين، كان أضغاث أوهام. فالرئيس يحبّ سورية بلا جدال. ولكن، من قال أن موسوليني لم يكن يحب إيطاليا، وأن هتلر لم يكن يصدر في أفعاله عن حب عميق لألمانيا، وأن ستالين لم يكن عاشقاً متيماً لروسيا. بل إننا نكاد نجزم أن القذافي، الذي كنّا نحسب أن قلبه لم يخفق يوماً إلاّ لممرضته الأوكرانيّة الحسناء، يحبّ هو الآخر بلده ليبيا، مثله مثل حسني مبارك الذي عبّر عن حبّ جارف لمصر.. ‘أرض المحيا والممات’.
لولا حبّ الرئيس الأسد لسورية، لما أصرّ على وراثتها بالتفصيل الذي حدث والتفاصيل التي جرت، بالحرب المؤجلة استعداداً للحظة الحسم، والسلام المؤجّل تمنعاً، والمعارك التي خيضت بالإنابة. ولولا هذا الحبّ لما تعززت بنية الدولة الأمنية، وأمعنت الأجهزة في استبدادها، وأُغلقت السجون على دكنة عتمتها.
***
على ذكر السجون. لا شكّ في أن سلاف تحب القصص، وتحب تشخيصها على الشّاشة. ولذلك فإنني سأقترح عليها قصّة حبّ لقراءتها، معتذراً مرتين، الأولى لأن القصّة ليست لي، وإنما هي مستعارة من إيزابيل إليندي، ولذلك فإنني سأنقلها باختزال مُخلّ وسردٍ أقلّ تألقاً. والثانية لأنها ليست المرّة الأولى، وقد لا تكون الأخيرة، التي أعود فيها لهذه القصّة، التي تُرجمت في دمشق وصدرت هناك ضمن مجموعة ‘حكايات إيفالونا’.
في القصة التي حملت عنوان ‘ إذا ما لمست قلبي’، تقع ‘هورتينسيا’ في حبّ فتى يدعى ‘ آماديو بيرالتا’، وهو لا ينفي بأنه الآخر بادلها الحبّ بحبّ لا يقلّ اشتعالاً. ولأنه يحبها، لم يتردد لحظة بحبسها في قبو غائر تحت الأرض، حتى لا يراها أحد، فقد بلغ عشقه لها وغيرته عليها درجة بات يخشى فيها من نظرات عينيه إليها، فكيف بغيره؟!
لقد تواصل حبس هورتينسيا في قبوها الغائر تحت الأرض مدة سبع وأربعين سنة (مع تأكيدي للسيدة سلاف أن هذا الرقم ورد بالدقّة في القصّة، ومحض صدفة، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بعمر قانون الطواريء في بلادها سورية). وخلال تلك السنين الطوال، لم تعد الفتاة تذكر اسمها، أو الأسباب التي حملتها وحطّت بها في وحشة ذلك المكان. وعندما تمّ العثور عليها مصادفة في سجنها المنسيّ تحت الأرض، تسنى لمن رآها في تلك اللحظة، أن يلحظ تحلُّل ملابسها على بدنها الضّامر، فظهرت عارية تماماً، لا تسترها سوى طحالب نمت خلسة على الجسد الناحل، فيما نمت أظافر قدميها وتطاولت، فبدت مثل وحش أسطوريّ يخرج من قمقم حُبس فيه. أمّا الكلمات الوحيدة التي كان بمكنة تلك المرأة ترديدها عن سجّانها الحبيب، فهي القول: ‘إنه يحبني.. لقد أحبني دائماً’!
***
ما كان أسوأ من السجن، هي تلك العبارة التي حملت من الاستكانة والخنوع ما ينطوي على امتثال داخلي لفكرة أن الحبّ الذي يشعّ من عينيّ الحبيب، يجعل اضطهاده للمحبوب مباحاً.. وقد يغدو معه فعل القتل واحداً من تجليات الألفة والألاف!
بعد انتشالها من قبو عشقها الذي قادها إليه قلبها وساعِدا رجل أحبّها، انهمكت الراهبات في إزالة الطحالب عن جسد المرأة العاشقة التي باتت عجوزاً، وكسوتها، وعملن على قصّ شعرها وأظافرها. لكن الصعوبة التي عانينها تمثّلت في إعادة تكييفها خارج مكان ظلمتها وبؤس سجنها، فاضطرت الراهبات إلى تقييدها، للحيلولة دون هروبها وعودتها من جديد، بإرادتها، إلى القبو الذي استكانت لسكناه، وعاشت فيه عمرها.
ـ ‘كان يحبني’..
قالت هورتينسيا لتزيح عبء المسؤوليّة عن رجل دفنها حيّة وسلب من عمرها سبع وأربعين سنة.
ـ ‘لقد رأيتُ حُبّ سورية في عينيّ السيد الرئيس’
قالت سلاف فواخرجي لتصف ما رأت.
هي حقيقة، لم تكذب، ولم تجامل، ولم تنافق، ولم تخطيء، ولم…
لكنها رأت ما تريد!؟