شارع الفساد العالمي: ذو اتجاهين.. يشتري الطاغية والمعارض/ صبحي حديدي
جرياً على عادتها، في هذا التوقيت من كلّ عام، نشرت منظمة ‘الشفافية الدولية’Transparency International تقريرها السنوي عن مؤشرات الفساد والإفساد في العالم، والذي يرتّب الدول استناداً إلى درجة محدّدة من 100. الدول الخمس الأولى جاءت على النحو التالي: الدانمرك (91 درجة)، نيوزيلندا (91)، فنلندا (89)، السويد (89)، النروج (86). لافت، هنا، أنّ سنغافورة، الدولة الآسيوية، هي التي احتلت المرتبة السادسة؛ وسبقت، بالتالي، ديمقراطيات غربية عريقة، مثل ألمانيا (12: 78)، والمملكة المتحدة (14: 76)، والولايات المتحدة (19: 73)، وفرنسا (22: 71). لافت، كذلك، أنّ إسرائيل (‘واحة الديمقراطية’ الوحيدة في الشرق الأوسط، طبقاً للخطاب الغربي الشائع) جاءت في المرتبة 36، بـ 61 درجة؛ وسبقتها دولتان عربيتان، هما الإمارات العربية المتحدة (26: 69)، وقطر (28: 68).
مؤشرات العالم العربي الأخرى تعطي هذه الحصيلة، في المواقع الوسيطة من اللائحة: البحرين (57: 48)، عُمان (61: 47)، السعودية (63: 46)، الأردن (66: 45)، تونس (77: 41)،؛ أمّا في المواقع السفلى، فإنّ اللائحة تشير إلى التالي: مصر (114: 32)، لبنان (127: 28)، اليمن (167: 18)، سورية (168: 17)، العراق (171: 16)، ليبيا (172: 15)، السودان (174: 11). ملاحظ، بذلك، أنّ الفساد ما يزال يضرب أطنابه في دول ‘الربيع العربي’؛ وأنّ دولة العراق، التي تفاخر الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن بأنها، جرّاء الغزو العسكري الأمريكي، ستنقل ‘فيروس الديمقراطية’ إلى المنطقة بأسرها، ليست البتة في موقع تُحسد عليه. ولكي يبقى المرء في منطقة الشرق الأوسط، لافت أنّ ‘ديمقراطية مسلمة’ مثل تركيا، تأتي في موقع وسيط (53: 50)؛ مقابل ‘ديمقراطية مسلمة’ أخرى، لكنها ‘ممانعة’ هذه المرّة، تأتي في مراتب دنيا، مثل إيران (144: 25).
تقارير ‘الشفافية الدولية’ الأخرى، التي لا تقلّ أهمية ودلالة، هي تلك التي ترصد الدول الأكثر إفساداً، أي الأكثر سخاءً في منح الرشاوى للدول أو الجهات المتعاقدة أو الأفراد؛ واللائحة تتصدرها روسيا، ومجموعة الدول الآسيوية الأساسية (الصين، هونغ كونغ، ماليزيا، اليابان، تايوان، كوريا الجنوبية)؛ ثمّ معظم الديمقراطيات الغربية (الولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا…). ومن المثير أنّ حقول منح الرشوة تتركّز في قطاعات تنموية بالغة الحساسية، مثل الزراعة والصناعة الخفيفة والإنشاءات المدنية، أو في ميادين الصحة العامة والطبّ والصيدلة! وأمّا القطاعات الاجتماعية والسياسية والحقوقية الأكثر تأثراً بمؤشرات الإفساد (وليس الفساد وحده)، فإنها التالية: الأحزاب والقيادات السياسية (4 في المئة)، البرلمانات ومجالس التشريع (3,7)، الشرطة والجهاز القضائي (3,6)!
وفي حملاتها ضدّ الفساد والإفساد، تتكيء منظمة ‘الشفافية الدولية’ على ما يُعرف باسم ‘اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد’ UNCAC، والتي وقعت عليها 140 دولة من أصل 168 (ونعدّ، من العالم العربي: الجزائر، البحرين، مصر، العراق، الأردن، الكويت، لبنان، ليبيا، موريتانيا، قطر، السعودية، سورية، الإمارات العربية المتحدة، واليمن). وترى المنظمة أن هذه الاتفاقية ‘أداة حاسمة للإصلاح السياسي في المنطقة، لكن بعض الدول تفقد هذه الفرصة السانحة’؛ متعامية ـ عن سابق حياء دبلوماسي أو سابق قصد، على الأرجح ـ أنّ معظم هذه الأنظمة لا تقتات على الفساد، فحسب؛ بل تديمه وتشيعه وتصونه وتنوّع أنساقه. ومع ذلك… لا بدّ للمنظمات الدولية من أن تعمل، أو توحي بأنها تعمل!
المنظمة غير حكومية، كما يتوجب الإيضاح، وتضع على عاتقها أمر إماطة اللثام عن مؤشرات الفساد والإفساد في العلاقات الاستثمارية والتعاقدية بين دولة ودولة، أو بين دولة وفرد، أو بين شركة عملاقة ودولة وفرد، أو بين هذه الأطراف جميعها حين تشترك في شبكة معقدة من الصلات والمصالح والمنافع المتبادلة. وهي تشدد على نوعين من الأولويات العامة، هما سهولة توفير المعلومة وشفافية الإنفاق، وعلى أولويات محددة بينها نظام قضائي حرّ لمعالجة الفساد، ومواثيق دولية، واهتمام بالتربية والتعليم. ‘لقد آن الأوان لإيقاف أولئك الذين يرتكبون أفعال الفساد ولا يقعون تحت طائلة القانون. الثغرات القانونية وانعدام الإرادة السياسية لدى الحكومات تسهّل الفساد، داخلياً كان أم عابراً للحدود، وتدعونا لبذل أقصى الجهود لمكافحة حصانة الفاسد’؛ تكتب الكندية هوغيت لابيل، رئيسة هيئة مديري ‘الشفافية الدولية’، في التوطئة لتقرير 2013.
لكنّ أماني لابيل، مثل تقارير منظمتها، تظلّ أشبه بالنفخ في قربة مثقوبة! فالفساد (كما الإفساد) ليس شارعاً وحيد الاتجاه؛ وثمة الفاسد والمرتشي وقابض العمولات، وهنالك أيضاً وبالتساوي: المفسد والراشي ودافع العمولات. وتقارير المنظمة تسجّل هذه الحقيقة، بل هي تتكىء عليها بصفة أساسية حين تتحدّث عن العواقب البنيوية الوخيمة التي تلحق بالاقتصادات النامية جرّاء شيوع الفساد في أجهزة الدولة المعنية مباشرة بالتنمية. والتقرير الرائد في هذا الصدد، الذي وضعه باولو ماورو في سنة 1995، أشار إلى أنّ الدول الأكثر فساداً تشهد القليل فالأقلّ من توجّه ناتجها القومي الإجمالي إلى الاستثمار، والقليل فالأقلّ من معدّلات النموّ. وهذه الدول تستثمر في قطاع التربية والتعليم أقلّ بكثير من استثمارها في قطاعات إنشائية، لأنّ هذه الأخيرة توفّر فرصة سمسرة لا توفّرها الاستثمارات الأولى.
وفي المقابل، ومنذ عام 1997، تشهد مؤسسات ودوائر وفروع ‘البنك الدولي’ و’صندوق النقد الدولي’ مراجعات جذرية تتناول مسائل الفساد والإفساد، تسفر أحياناً عن صياغات متسارعة وقرارات دراماتيكية بالغة الخطورة، تبدو إدارية تقنية من حيث الشكل، ولكنها من حيث المحتوى الأعمق تظلّ سياسية واقتصادية وفلسفية أيضاً. إنها، كما يُقال لنا، ‘حرب شعواء’ ضدّ الفساد المالي، أو ضدّ استشراء ‘سرطان الفساد’، ولم يعد في وسع المؤسستين اللتين تتحكمان في أموال العالم (والعالم الفقير، لمزيد من الدقة)، الصبر على هدر الأموال العامة، والرشوة، والاختلاس، وتخريب الاقتصادات الوطنية، وعرقلة ‘برامج التعديل الهيكلي’ SAP بوصفها ‘إنجيل الإصلاحات’ المقدّس في عرف خبراء المؤسستين.
لكننا نعرف أنه في جميع بلدان العالم (نعم: جميعها، بلا استثناء)، هنالك رجال يستمدون ألقابهم من النسبة المئوية التي يحصلون عليها لقاء توقيع، أو تسهيل إبرام، مختلف أنواع العقود مع مؤسسات استثمارية صغيرة أو كبيرة، محلية أو عابرة للقارات. هنالك ‘المستر 5 بالمئة’، أو ‘المستر 10′، أو حتى ‘المستر 15′. وكان التنظير الرأسمالي البراغماتي قد اعتبر، مراراً في الواقع، أن حصة هذا ‘المستر’ ليست جزءاً طبيعياً لا يتجزأ من كلفة التنفيذ، فحسب؛ بل هي حصة حيوية لا غنى عنها في سياق تذليل المصاعب البيروقراطية التي تعترض الإجراءات الإدارية على اختلاف مستوياتها، من توقيع العقود ذاتها وصولاً إلى الاستلام النهائي للمشروع والمصادقة على سلامة تنفيذه. بمعنى آخر، كان أصحاب هذا التنظير لا يرون غضاضة في تقديم الرشوة، ولا يخشون في ذلك أية عواقب قانونية أو سياسية أو أخلاقية.
أكثر من ذلك، مضى زمن غير بعيد (أواسط الثمانينيات في الواقع) كانت فيه دورية اقتصادية رأسمالية عريقة مثل ‘هارفارد بزنس ريفيو’ تعتمد ما يشبه الفلسفة ‘الثقافية’، المستندة إلى مقاربة ‘أنثروبولوجية’ أيضاً، في تفسير شيوع الرشوة والفساد في بلدان العالم الثالث: هذه ‘مكوس′ لا تُدفع للفرد وحده، بل للقبيلة بأسرها؛ وثمة شبكة من المصالح المشتركة بين الأفراد والقبائل تستدعي تحصيل نصيب غير مباشر من الثروات، يُوزّع على أفراد القبيلة، أو يُصرف في تحسين سُبل عيشها داخل المؤسسة الأكبر للدولة. فما الذي جرى لكي تنقلب هذه الفلسفة بغتة؟ ولماذا يتمّ إعلان الانقلاب من منابر أعلى مؤسستين رأسماليتين في الكون بأسره؟
يقول المسؤولون: لأن المستر 5 أو 10 أو 15 بالمئة بات اليوم ‘المستر 30 بالمئة’ ليس أقلّ، وهذا أكثر بكثير مما يحتمله أي منطق اقتصادي في حساب الكلفة، لأنه ببساطة ثلث الميزانية في أي مشروع، من جهة؛ وهو معدّل سنوي عالمي يتراوح بين 500 و1000 مليار دولار، من جهة ثانية! وهكذا أعلنت ‘الشقيقتان’، وهي التسمية التاريخية لكلّ من ‘صندوق النقد الدولي’ و’البنك الدولي’، أنّ مختلف الاتفاقات القادمة مع دول العالم سوف تكون مشروطة ببنود صريحة حول مكافحة الفساد، وضمانات صريحة أكثر حول ‘ترشيد’ اقتصاديات الاستثمار. اللباقة وحدها منعت هؤلاء المسؤولين من القول: لا بأس من ‘المستر 15′ في الحدود القصوى، ولكن لا تسامح أبداً مع ‘المستر 30′! بمعنى ثالث، لا بأس من الفساد والإفساد، شرط أن يكونا في حدود المعقول.
وبطبيعة الحال، قد لا يعترض أحد على سياسات كهذه، حتى إذا كانت تكافح ‘المستر 30′ وتغمض العين عن ‘المستر 15′. ولكنّ الحال مشروطة بوضع الجميع على قدم المساواة في تطبيق هذه المعايير أولاً، ثمّ بعدئذ الأخذ بعين الاعتبار جملة الأسباب الأخرى الأعمق وراء استشراء هذه الظواهر في الاقتصادات النامية بصفة خاصة (غياب الديمقراطية، التخلف البنيوي في الهياكل المعنية بإدارة الإقتصاد، غياب المؤسسات الرقابية المدنية المستقلة، التخلف التكنولوجي، انعدام التكافؤ بين العقد والمتعاقد، وما إلى ذلك). وهكذا كان ينبغي على ‘الشقيقتين’، ومنذ عام 1997 حين جرى التوقيع على ميثاق شرف لمحاربة الفساد، أو منذ زمن ليس بالبعيد حين أقرّت الأمم المتحدة اتفاقية مكافحة الفساد؛ أن تلوّحا بالبطاقة الصفراء، ثم بالحمراء حين يقتضي الحال، في وجه مافيات المال القذر أياً كانت جنسياتها وجغرافياتها ونسبها المئوية وأرصدتها، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.
ويبقى أنّ تقارير ‘الشفافية الدولية’، رغم منافعها الكثيرة، عاجزة في الواقع عن تعديل شرط مركزي يحكم ظواهر الفساد والإفساد: أنها تعَوْلَمت بدورها، ولم تعد تقتصر على ثقافة سياسية دون غيرها، أو على نظام اقتصادي دون آخر، أو على الدكتاتوريات دون الديمقراطيات. أكثر من هذا، هيهات للمنظمة أن ترصد ‘المال السياسي’، الذي لا يُفرَغ في أفواه الطغاة، وزبانيتهم من حولهم، فقط؛ بل يشتري أيضاً ذمم بعض المعارضين، فيُخرس ضمائرهم حين ينفق على مؤتمراتهم الحاشدة وفنادقهم الفارهة. فإذا جاز للمنظمة أن تضع نظام بشار الأسد في المرتبة 168، من أصل 175 دولة على لائحة الفساد الدولية؛ فأنّى لها أن تستجمع من المؤشرات الملموسة ما يكفي لتحديد ترتيب هذا أو ذاك من ‘المعارضين’ السوريين، في لوائح المبيع والشراء!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس