صفحات الرأيطيب تيزيني

شباب العرب والتوقف القاتل


د. طيب تيزيني

ها نحن الآن قد قضينا ما يقترب من ثلاثة أرباع السنة، ولا يزال “شباب العرب” سائرين باتجاه أهدافهم، وقد حقق فريق من هؤلاء غير قليل من هذه الأهداف، في تونس ومصر وليبيا تحديداً، لكن الآخرين في اليمن وسوريا ما زالوا يعكفون على إنجاز المدخل إلى الانتصار. ومن ثم، ما زالت حيوية النشاط الشبيبي وقسوة المواجهة مع ركائز النظامين المعْنيّين، قائمتين على قدم وساق، وما يهمنا هنا يتمثل في تعقُّب ما يمكن أن يكون قد أخذت تعاني منه الوضعيتان الأوليان في تونس ومصر. ونحن هنا لن ندخل في جزئيات هاتين الأخيرتين، وإنما سنكتفي بمعالجة نقطة دقيقة وحساسة غالباً ما ظهرت في تاريخ الحركات والانتفاضات والثورات والنهضات، أو -بتحديد أكثر دقة- في تاريخ أعقد الحلقات في ذلك التاريخ. أما ما نعنيه بذلك فيتمثل في أن هذه الحلقات الأعقد تظهر -بصورة عامة- إما مع دخول الشباب المعنيين هنا في حالة من التعب أو الملل أو الشعور بالعجز أو القنوط وغيره، فيتكون عنده شعور بضرورة مراجعة ذاته وعمله وأهدافه، والأدوات التي يستخدمها في سبيل تحقيق عمله الاستراتيجي.

أما مصداقية الوقوف أمام تلك الأحوال وغيرها فتأتي من أن نمط الحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي التغييري…إلخ، إنما هو حالة معقدة ومشوبة بالصعاب، فهذه لا تسير على وتيرة قانونية سوسيولوجية جامدة وذات مواصفات معروفة مسبقاً، أما الممارسة بمقتضى تلك القانونية، وخصوصاً من قِبل فئة شبابية، قلّما دخلت عالم السياسة والحراك السياسي والصراع السياسي على مدى عقود بسبب من نظام استبدادي على قولبة الشباب في نشاط يتجه نحو الكرة العابثة، والفن الهابط وكذلك الانحراف بشتى صيغه، ومن ثم، يمكن القول إن تلك التغييرات الشبابية القومية الجديدة لم يكن لها أن تسير إلى الأمام دون صعوبات وأخطاء، خصوصاً في إطار “الخطاب السياسي الثقافي”، الذي تجلى في الأهداف والشعارات المُطلقة في التظاهرات المعلنة.

وعلينا أن نضيف إلى ذلك مجموعة من الأخطاء والهنات، التي ظهرت في ممارسات الشباب والمفاوضات التي تمثلهم، جنباً إلى جنب مع محاولات أطراف من النظام اختراقهم وضرب بعضهم بعضاً وغيره. وتأتي أخيراً وليس آخراً المعاناة الشديدة، التي راح الشباب يئنون تحتها مع عائلاتهم ومدارسهم وأعمالهم وتأمين عيشهم. لقد أسهم ذلك -في حالات معينة- بإضعاف أو بخلخلة بعض التوازن في النشاط الشبابي الانتفاضي، لكن ما ينبغي التشديد عليه هنا، يتمثل في أن النظام الأمني السابق لم يتفكك بعد، وإن ظهر كذلك. وهذا هو من طبائع الأمور في مراحل الانتقال من مرحلة إلى أخرى جديدة. وقد ظهر ذلك في تونس ومصر وليبيا، بعد انتصار عمومي للقوى الشبابية الجديدة، لم يَطلْ بعد قطاعات المجتمعات العربية المعنية. ذلك كله يتجلى في المصطلح السياسي، الذي تكون نتيجة تقارب مرّت بها بلدان كثيرة في العالم، ونعني به “مرحلة الانتقال” من نظام مهيمن إلى نظام جديد يجد نفسه مُواجَهاً بقوة جرى التعبير عنها بـ”القوى المضادة للثورة أو للانتفاضة…إلخ. وأحياناً يبرز “المنهزمون” بلبوس أخرى يسعى أصحابها إلى اللعب على “الجديد” من الشباب غضّ التجربة، والكبار الذين أبعِدُوا عن الشباب وهمومهم الحقيقية (عمل وحرية وكرامة)، ومن ثم المفرَّط بتجاربهم وخِبرتهم، بألف أسلوب وأسلوب.

ها هنا بالضبط، قد تحدث مأساة تاريخية كبرى، إذا انخدع المنتفضون الثائرون بخطاب سياسي زائف يقدمه من راحوا يجدون مصيرهم تحت قبضة الانتفاضة الثورية. من هنا، يمكن القول بأن سدَنة النظام القديم في البلدان العربية تسعى وستسعى دائماً إلى الانقضاض على الوليد الجديد، بحجج زائفة. ومن ثم، لا سبيل للانخداع بالقوى الآخذة بالانحسار، والتوقف عن السير في طريق التقدم التاريخي عبر إنتاج مجتمع مدني وديمقراطي يسعى إلى تغطية حاجات الشعوب العربية المخلصة بتلك الثلاثية المذكورة. نعم، إن التوقف في منتصف الطريق قد يفضي إلى كارثة!

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى