صفحات الناس

شباب سوريون “من الأرض”/ هيفاء بيطار

 

 

 

عرضت قناة الميادين مراراً برنامجاً وثائقياً عنوانه “من الأرض”، عن جنود سوريين “حرّروا” مطار كويرس في حلب. وبحياد تام، تشعر أنك ترى فيلمين مُتناقضين، كما لو أن العين اليسرى ترى ما تعرضه “الميادين” واليمنى ترى الحقيقة المُرّة كأنها بطانة مخفية لما نُشاهد.

كل الشباب بعمر الورود، ولا تتجاوز أعمارهم خمسة وعشرين عاماً على الأكثر من الريف، وذلك واضح من لهجتهم ومن طائفة معينة، وكلهم، على الرغم من حصارهم الطويل واضطرارهم لأكل الأعشاب، يشعرون بنشوة النصر إلى درجة هياج الفرح حالة من الهياج العصبي تنتابهم، حين يتحدثون عن ذكرياتهم في الأشهر الطويلة التي قضوها منفيين وعُزلاً، مُحاصرين من “داعش”، لكنهم استعادوا مطار كويرس. ثمّة حقائق تبرز من الشاشة، ويشعر بها المشاهد، كما لو أنها فيلم موازٍ للفيلم الذي يشاهده، كيف يمكن لشباب أن يقاتلوا، وهم جائعون ومضطرون لأكل الأعشاب والخبز المتعفن الذي يضيفون إليه السكر والماء ويطبخونه، ويقولون، وهم يبتسمون، بأنه ألذ أكل في العالم؟ كيف يمكن لمجند شاب في العشرين، وأصيب بشظية في رجله، أدت إلى عطبها، وبأن يوضع فيها عدة صفائح معدنية وبراغي، ويتحمل كل هذا الألم، ثم ما أن كاد يتماثل للشفاء، حتى قفز مجدداً إلى ساحة الوغى؟ كيف يُمكن لأم شهيدٍ أن لا تذرف دمعة، وهي تتحدث عن ابنها الميت، فيما توحي ملامحها واختناقات صوتها بعكس ما تقول؟ وكيف أفسر الغضب العارم والسخط والحزن الصارخ بالرفض والقهر، وأنا أعزي أسراً قتل أبناؤهم في الجيش العربي السوري، وتفجع الأمهات الثكالى صارخات، حتى يكدن يمزقن حبال حنجرتهن: لماذا مات أولادنا؟ في سبيل أيه قضية؟ وإحدى الأمهات كانت تنتزع خصلات كثيفة من شعرها، وتصرخ: لم يمت ابني في فلسطين.

هذا هو رد الفعل المنطقي الذي تعيشه كل أم ثكلى، وكل أسرة فُجعت بوفاة ابنها، أما تلك الأم المُكابرة التي ترصدها عدسة الكاميرا وعين الرقيب محدقة فيها كالمخرز، فتتكلم كلاماً إنشائياً، لا يُلامس القلب ولا يمكننا تصديقه. والد الشاب يعرض على الشاشة آخر صورة لابنه الجميل ذي العشرين ربيعاً، قبل مقتله، ويقول إنه فخور بشهادة ابنه، وهو يعيش في وطن تحتل فيه اللائحات في الشوارع، وفي الصحف، عبارات تمجيد الشهادة مثل (كلنا شهداء، وعرس الشهادة) وكل تشييع شهيد يرافقه مطر من الرصاص العشوائي، لكأن الرصاص سيعيد الشهيد حياً، أو كأن يوميات السوري صارت تحمل عنوان يوميات الرصاص، ولا أنسى يوم شُيع مجموعة من في اللاذقية، ووضعت جثثهم في شاحنة، وتحت زخ الرصاص، كان سائق الشاحنة يجعر من مُكبر الصوت في الناس في الشارع: وسع طريق يا حيوان. وكأن المواطن في سورية إما أن يُعامل كحيوان أو يتحول إلى شهيد.

الأب المفجوع المطل على شاشة “الميادين” رجل مُحطم، ذقنه طويلة، ونظراته حزينة وزائغة،

“الرحمة لشباب سورية الذين يموتون كالفراشات المحترقة” لكنه يتحدث بأنه فخور بشهادة ابنه. سبحان الله، كيف يُمكن تزوير المشاعر البشرية بتلك الطريقة؟ وكيف يُمكن لجياع وآكلي أعشاب أن يُحاربوا؟ بل كيف يبلغ التزوير بأن ألذ أكل في العالم هو الخبز المتعفن والحشائش وقليل من السُكر. الأدهى من ذلك كله أن هؤلاء الجنود يانعو الشباب، كانوا يحفرون الأنفاق، ومنظر أجسادهم النحيلة وأياديهم المُغبرة، والضوء الوحيد الذي يحملونه ليتسللوا عبر الأنفاق، يضعنا أمام سؤال يتفجر رغماً عنا، حين نراهم مذعنين لمصير لا قدرة لهم على رده، وهم يعرفون أن معظم شباب سورية هربوا من الموت، وهؤلاء ليسوا خونة ولا تنقصهم الوطنية وحب البلد، لكنهم، بكل بساطة، يؤمنون أن من حقهم أن يعيشوا ويُحبوا ويتزوجوا وينجبوا ويشيخوا، تماماً مثل الذين قذفوا بهم في فم الغول وفي ساحة الوغى. ولا أفهم أي معنى أن يذكر أحد هؤلاء الجنود أن شابة نمساوية منحلة أخلاقياً زارتهم، وقالت لهم: جئت لأنمي مواهبي، وأرادت غوايتهم ليستسلموا… هل يجب زج المرأة في كل القصص؟ كما كيف وصلت إليهم تلك النمساوية وهم محاصرون؟ وهل فتنتها لا تُقاوم، بل تزيد عن إغراء مارلين مونرو، حتى يقايض بها الجنود السلاح والوطن بإمرأة، أم أن الفيلم الوثائقي يجب أن يكتمل، كما أراد له مُعد البرنامج والمخرج في قناة الميادين؟

قال أحد هؤلاء المجندين إن أصعب ما تعرض له أنه اضطر إلى دفن صديقه، لأن لا وسيلة لإسعافه، لا دواء ولا أطباء ولا مستوصف أو مشفى، ينزف الجريح، ويموت بالنزيف، أو تجرثم الدم. وعلى الأغلب، يموت من الحزن، وهو يعي، في لحظاته الأخيرة، أن حياته سُرقت منه، وأن من سرقها ينام آمناً مع زوجته وأسرته في قصور. يعرف، في لحظاته الأخيرة، وهو يمسك يد صديقه الذي لم يُزف بعد بعرس الشهادة (العرس الحقيقي في سورية هو عرس الشهادة) أنه سيتحول إلى ورقة نعي، وربما يتوق للمسة من يد أمه وقبلة من حبيبة وعدها أن يعود، يدفنه صديقه، ويتكلم عنه مبتسماً للكاميرا، مدارياً ذهوله وعجزه بابتسامات أشبه بتكشيرة ألم، وبتكرار عبارة نشكر الله والحمد لله.

الأم الثكلى التي تتحدث عن ابنها القتيل، بصوت مختنق، تضع سلسلة رفيعة في رقبتها تحمل

“زمن الصمت ولى. الآن، على كل سوري أن يذكّر العالم أنه إنسان وليس حيواناً” صورته. الأب المفجوع رجل محطم يتحدث، مثل كتب القومية التي كنا ندرسها متململين غير مصدقين كلمة فيها، وما أن ننتهي من حفظها، حتى ننسى كل كلمة، بل كنا ننطوي من الضحك ونسخر من عباراته. لم ينج طالب سوري ولا طالبة من ترديد الشعارات الطنانة المتخشبة والميتة، وكانت مدربة الفتوة تصرخ بنا، نحن البراعم، وهي تحمل مكبر الصوت: يا حيوانات بصوت أقوى، فتتمزق حناجرنا ونصرخ بشعاراتٍ لا نؤمن بها. مدربات الفتوة والمدربون كما سائق الشاحنة التي ضمت جثث شباب سوريين لم يستوعبوا كيف ماتوا بتلك البساطة، وتحولوا أرقاماً يتفقون أن المواطن، طالباً كان أم راشداً يمشي في الشارع، حيوان.

زمن الصمت ولى. الآن، على كل سوري أن يذكّر العالم أنه إنسان وليس حيواناً. عليه أن يجهر بالحق، وأن يطالب بحقه في التعبير عن أفكاره المطموسة بألف حجاب من الخوف والذعر والتضليل وغسيل الدماغ، وعليه أن يتساءل: هل برنامج “من الأرض” وثائقي حقاً؟ والمُبكي كي لا نضحك أن الخلفية الموسيقية لهذا البرنامج كانت كلاسيكية رائعة، حتى يكتمل إحساس المشاهد بالانشطار والتضليل والذهول. أية موسيقى كلاسيكية على خلفية الرصاص والدبابات؟ استعادة مطار كويرس أشبه بعملية ناجحة، لكن مات بعدها المريض. والرحمة لشباب سورية الذين يموتون كالفراشات المحترقة بنور الحق ويتحولون إلى أرقام.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى