صفحات سوريةعمر قدور

“شبّيحة” ولهم الفخر!

عمر قدور
“إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب.. وإن لم تكن شبيحاً بادر إلى الانتساب”؛ هذه العبارة ليست مأخوذة من تعليقات لناشطين في الثورة السورية، وليست دعاية ساخرة يطلقها هؤلاء على الموالين. إنها مأخوذة حرفياً من صفحة على الفيس بوك يُطلق عليها اسم “شبيحة الأسد”، وشعارها “شبيحة للأبد.. لأجل عيونك يا أسد”، أما التوصيف الذي اختاره لها محررو الصفحة فهو “منظمة سياسية”!. الصفحة غيض من فيض صفحات ينشئها موالو النظام وشبيحته الافتراضيين، تطوعاً أو ضمن المعركة التي يخوضها النظام على الشبكة العنكبوتية ويفرّغ لها عدداً كبيراً من الشباب والشابات مهمتهم إنشاء صفحات موالية ومحاولة تخريب صفحات المعارضة والحسابات الشخصية للمعارضين. وإذا كانت المعركة الافتراضية استكمالاً لمعركة النظام على الأرض فإن جولة على صفحات التشبيح تقدّم صورة فاضحة لطبيعتها بعيداً عن التزويق الإعلامي المفترض، ومن الواضح أن خطاب هذه الصفحات موجه إلى الشبيحة ذاتهم بغية رص صفوفهم وبث الحماس فيما بينهم، دونما أدنى اكتراث للآخر الذي لا بد أن يكون خائناً أو متآمراً.
لا يفترق التشبيح الالكتروني عن التشبيح الواقعي، فالشعارات المتداولة على الصفحات العامة للشبيحة بعضها مطابق تماماً لهتافات المسيرات المؤيدة، والأخبار المنشورة هي ذاتها التي تروجها القنوات التلفزيونية للنظام، باستثناء أن صفحات النت معفاة من الحرج المتواضع الذي يغلف أحياناً الخطاب الرسمي، أحياناً وليس غالباً. كما في هتافات المسيرات المؤيدة نقرأ على إحدى الصفحات “يا بشار لا تهتم.. نحنا رجالك م نشرب دم”، وفي خطاب موجه للرئيس ومرفق بصورة ببزته العسكرية “ما بدنا بدلة رسمية وما بدنا كرافات.. بدنا بدلة عسكرية وجيش ودبابات”، ولا يخلو الأمر من صورة للأمين العام لحزب الله مرفقة بتعليق من هذا القبيل: “نحن أبناء ذاك الإمام الذي قال: أبالموت تهددني يا بن الطلقاء؟ إن القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة”، وبالطبع لا تخفى محاولة التوظيف الطائفي في التعليق الأخير.
الأوصاف التي يطلقها خصوم النظام للنيل منه نجدها هنا ذاتها ولكن على سبيل الفخر، “الله محيي الجيش الأسدي” هكذا نقرأ في رد غير مباشر على من يصفون الجيش بـ”كتائب الأسد”، أما الولع الذي لا يخفى فهو استخدام البسطار في دعس كل من يرفع رأسه؛ “جيش بلادي دوس دوس، اِمحِ الخائن والجاسوس”، وأيضاً “إذا المندسّ أراد الحرية فلا بد أن تستجيب النعال العسكرية، ولا بد للجيش أن ينتشر ويدعس على رأس مَن طالب بالحرية”، بل إن الأمر يتعدى الحدود الجغرافية كما في القول: “إذا كنت قطرياً ارفع رأسك. وإذا كنت من المعارضة السورية ارفع رأسك. وإذا كنت من مؤيدي بشار الأسد ادعس على كل رأس مرفوع”. لا شك في أن هذه الشعارات تعيد إلى الأذهان تلك التسجيلات عن قيام قوات الأمن بالدعس والرقص على أجساد المدنيين في مدينة درعا وقرية البيضا وغيرهما؛ التسجيلات التي حاول الإعلام الرسمي إنكارها سابقاً والادعاء بأنها حدثت في مكان غير سوري، أو حتى الادعاء بأنها مجرد تلفيق تقني.
أن يفخر الشبيحة بما يؤخذ عليهم ويُفترض بهم أن يخجلوا منه؛ هذا ليس بالفارق القيَمي فقط، ولا تكفي النكايات المتبادلة بين الطرفين لتبرير التباهي الفظ الذي يطال قيماً إنسانية عامة كالحرية، فالأمر تطور خلال سنة من عمر الثورة بدءاً من نفي ما يُنسب إلى الشبيحة، مروراً بمحاولة تبرير سلوكياتهم وتصويرها على أنها دفاع عن النفس، وانتهاء بتبني التشبيح علناً والهتاف في المسيرات المؤيدة “شبيحة إلى الأبد”؛ هذا الهتاف الذي لم يخجل البعض من ترديده بحضور “الرئيس” نفسه في ساحة الأمويين في اليوم التالي لخطابه الأخير!.
بالتأكيد تتواضع مخيلة الماركيز دوساد أمام ممارسات الشبيحة على الأرض، وربما تقدّم الأخيرة مادة دسمة لنظريات جديدة في علم النفس، إلا أن تبني التشبيح كمنهج سلوكي واعٍ لن ينتظر اقتراحات علم النفس، ولا ينفع واقعياً تفنيد شتى الانحرافات السلوكية ما دامت تتجه لأن تكون خطاباً سلطوياً يخرجها من خانة الانحراف إلى مكانة السلوك المقبول، بل السلوك الطبيعي والمطلوب تكريسه وتعميمه. قد نهوّن الأمر بأن ما كان مضمراً انتقل إلى العلن، وبأن التشبيح ليس طارئاً على ممارسات السلطة، إلا أن التبني الإعلامي الفاجر لهذه الممارسات يُنذر بالانتقال إلى مرحلة هي الأفظع تزامناً مع قصف المدن السورية واستباحة كافة مقومات الحياة لمجتمع الثورة. إن التهليل للفظائع، والاحتفاء بها، يخرجها من نطاق الضرورة “السياسية” الطارئة، فحرب النظام على المؤامرة الكونية المزعومة لن تكون في سبيلها إلى التوقف ما دام العالم موجوداً ولم يتم مثلاً محو أوربا من الخارطة كما زعم دبلوماسي رفيع من النظام.
“الأسد أو لا أحد”؛ هذا شعار ينتشر بكثافة على صفحات الشبيحة، وربما رآه الكثيرون على شاشات التلفزيون، حيث الموقع الأنسب له كتابته على جدار باقٍ من بناء سكني دمره القصف المدفعي أو الطائرات. لقد اختبر أهالي حي الإنشاءات وحي بابا عمرو في حمص هذا الشعار جيداً. وحتى لحظة كتابة هذه السطور مرّ الشعار على كثير من قرى جبل الزاوية وبلدتين على الأقل من ريف حلب، ويستعد للانقضاض على أربعة أحياء أخرى من مدينة حمص؛ شعار مدجج بكافة أصناف الأسلحة التي تجعل تطبيقه على الجغرافيا السورية مسألة وقت لا أكثر. شعار لم تتوفر له يوماً مثل هذه الرغبة العارمة في الإبادة، وبحيث يبدو الخيار الثاني منه، أي اللاأحد، هو الخيار المأمول، وأيضاً بحيث يصبح شعار آخر من نوع “مكتوب على المسدس حب الأسد مقدس” شيئاً أشبه بلعبة للشبيحة الصغار.
فيما عدا الشعارات تأتي الصور لتكمل صفحات الشبيحة، فالصور المفضلة هي بالزي العسكري حصراً، مع حضور يشتد لوسائط القتل وعلى رأسها الدبابة بعد أن فقدت بندقية القناص أهميتها الرمزية بالنسبة إليهم. للشبيحة رموزهم أيضاً، إذ سنلمس على صفحاتهم احتفاء شديداً بالذين رقصوا على أجساد المعتقلين في قرية البيضا أو في مدينة درعا، وسنجدهم أفردوا صفحات مخصصة لـ”أبطالهم” كما هو الأمر بالنسبة إلى ضابط الأمن الذي أشرف على اعتقال وتعذيب أطفال درعا مع مستهل الثورة؛ في الواقع لهذا الضابط حظوة لم تتح لغيره، فناشطو الثورة أيضاً أفردوا له صفحة خاصة ساخرة باعتبار أن انتشار الثورة مدين لارتكاباته الفظيعة.
لا شكّ في أن متابعة هذه الصفحات مشقةٌ لأصحاب الحس الإنساني، مهما بلغت بلادته، إلا أن جولة من هذا القبيل ضرورية لفهم الحملة “الغرائزية” التي تحيط بأعمال الإبادة والتكيل، وتجعل منهما امتداداً منطقياً لوعي مستقر ومقبول من قبل أصحابه. هي، للمفارقة، لحظة الانسجام القصوى بين وعي التشبيح وممارساته، حيث لا يعاني التشبيح السياسي أو النظري أي وخز من الكلفة الإنسانية كما نراها نحن، بل على العكس يستزيد منها ويطور تطلباته طرداً مع كل ضحية جديدة أو حي سوري تم محوه من الخارطة. إن الإحاطة الشاملة بثقافة التشبيح تقتضي تفرغاً طويلاً لفريق مختص، لأن كل ما رُصد ميدانياً حتى الآن لا يعدو كونه جزءاً صغيراً من آليات التدمير النشطة، لكن الإنذار الأهم هو في الصورة التي يقترحها التشبيح لسوريا الغد، فيما لو أتيحت للنظام أدنى فرصة للبقاء.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى