شتاء سوريا الذي يعترض ربيعها
عمر قدور
لم يتوقع أشدّ المتفائلين أن يسلّم النظام السوري بأحقية مطالب الشارع الثائر، مع ذلك لم تذهب التوقعات إلى التكهن بما قد يواجه به النظام شعبه، أو بقيت دون المستوى الذي بلغته آلة القمع، وهنا لا ينبغي أن نلوم أحداً لأن ما اقترفه النظام الأمني فاق في كثير من الأحيان القدرة الإنسانية الطبيعية على الاستشراف. المؤسف، في هذه اللوحة القاتمة برمتها، أن أنظار العالم تركزت على المشاهد المروعة للقتل اليومي الذي يطال المتظاهرين السلميين، وعن استحقاق غيبت هذه المشاهد أنواعاً أخرى من المعاناة، وبالدرجة الأولى معاناة عشرات الآلاف من المعتقلين الذين لا يُعرف مصير أغلبهم، خاصة إذا استذكرنا الجثث التي سُلّمت للأهالي بعد الإمعان فيها تنكيلاً وتمثيلاً.
من الاستنكار والغضب الدوليين اللذين ظهرا بداية وكأن العالم معنيّ بشكل قوي بما يحدث، نزولاً إلى المبادرة العربية التي لا تصل إلى سقف طموحات الثائرين، وأخيراً البروتوكول الخاص بالمراقبين العرب وما رافقه من مساومات بحيث صار غاية بحد ذاته!. هذا الخط البياني الهابط يبدو كأنه يتناسى ما خرج من أجله السوريون والحقوق المشروعة التي نادوا بها، فيصبح الحق الأدنى وهو الحق في الحياة مطلباً. لكن السوريين أثبتوا تمسكاً شديداً بمطالبهم، وعلى العكس مما سبق تمت التضحية بالحياة من أجل حياة أخرى كريمة خالية من الاستبداد، وهذا ما يدفعون ثمنه يومياً، بل إن الثمن مرشّح للتصاعد باطراد شديد مع كل يوم تستمر فيه انتفاضتهم، ومن الخطأ الظن أن الثمن يقتصر على الثائرين فقط؛ إنه الثمن الذي بدأ الجميع بدفعه على مستويات متعددة.
من الخطأ أيضاً الظن أن الموالين للنظام لن يشاركوا في دفع الثمن، والمقصود هنا هم الموالون من الشرائح الدنيا لا تلك الشريحة التي تنتعش أو تعتاش على الأزمات. وبعيداً عن سياسة الإنكار التي يمارسها النظام فإن العامل الاقتصادي بدأ يضغط على شرائح المجتمع باستثناء الأثرياء جداً الذين ربما لهم معاناة من نوع مختلف. يدّعي النظام أن العقوبات الاقتصادية الغربية لا تؤثر على الاقتصاد السوري، مع ذلك ترتفع الأسعار دون توقف، وينخفض سعر صرف الليرة السورية حتى وفق اللائحة التي يعلنها البنك المركزي. ما هو متوقع على هذا الصعيد يحدث فعلاً، فالنظام يحمّل أزمته للمجتمع ككل، لا لعجز منه دائماً عن معالجة آثار العقوبات، ولكن لأنه غير معني أصلاً، ولم يكن كذلك يوماً، بالتنازل عن جزء من مكتسباته لصالح المجتمع.
يدخل السوريون شتاء قد يكون الأصعب بالنسبة إليهم، والشتاء هذه المرة بعيد عن لغة المجاز؛ هو شتاء واقعي فظ يعانون فيه أقسى أزمة طاقة مروا بها. النكات التي ألّفوها عن أزمة الغاز أو المازوت أو الكهرباء كثيرة جداً، لكنها لا تخفي مرارة المعاناة اليومية حيث يُفتقد الدفء والضوء في مفارقة غريبة من نوعها؛ فهذا يحدث في عصر التقانة والاتصالات، وأنت مثلاً تملك وسيلة الاتصال بالانترنت في الوقت الذي لا تستطيع استخدامها كما يجب بسبب انقطاع الكهرباء. الكهرباء، التي لطالما درس الطلاب في مادة التربية القومية الاشتراكية أنها من منجزات الحركة التصحيحية، يتبين الآن أنها موجودة في ذلك الكتاب أكثر من وجودها الواقعي. وليس ثمة تبرير يمكن الحصول عليه للانقطاعات الكبيرة التي تحدث، إذ يُفترض أن المحطات الكهربائية ما تزال موجودة، فلم يتم تفكيكها وبيعها مثلاً، ومن المعلوم أن سوريا جزء من شبكة ربط كهربائية إقليمية تستفيد من مزاياها فتعوّض النقص إن حصل. التفسير الذي قد يتبادر إلى الذهن حقاً هو أن هناك نزوعاً إلى الانتقام يتجلى بحرمان الشعب من الخدمات التي يستحقها، وأن سياسة العقاب الجماعي لم تعد مقتصرة على الأماكن الملتهبة بقدر ما أصبحت سياسة تعمّ البلد بأسره.
من جهة أخرى تعبّر الأزمات المعيشية هذه عن مستوى الفساد الذي بلغه النظام، والمستوى الهش للبنية الخدمية التي رغم ترديها الآن تنذر بمزيد من التردي القادم إن اتسعت رقعة المظاهرات وتعمقت أزمة النظام. لقد أفقر الفساد الاقتصادَ السوري عبر عقود، وكان توفير الحد الأدنى من الخدمات كفيلاً بالتغطية على سرقة الحد الواجب منها. أما الآن فبدأت تتضح الاثار العميقة للفساد الإداري والاقتصادي معاً، إذ لم يكن من المتوقع لبلد مصدر للنفط طوال عقود أن يعاني شعبه من أزمة محروقات منزلية تليها أزمة محروقات للسيارات، في هذا البلد الذي لم تتطور قدرته على تكرير النفط، أيضاً طوال عقود، فبقيت مصفاتا النفط القديمتان يتيمتين. ومن الطريف أن النظام سارع فوراً إلى الإعلان عن عدم تأثره بالعقوبات الغربية على قطاع النفط بحجة وجود بدائل للتصدير، بينما يقول الواقع أن ناقلات النفط بمعظمها مسجلة في شركات تأمين غربية أو أمريكية، وهي لذلك لن تغامر بالمجيء إلى سوريا ونقل النفط منها أو إليها، وإذا استثينا ما سلف حول الفساد فإن النقص الحاد في إنتاج النفط يعني تلقائياً نقصاً في إنتاج الغاز.
حصار دولي وعقوبات جماعية من النظام، مع مستوى لا يتزحزح بل يزداد من الفساد. لقد عانى السوريون ما يشابه ذلك في ثمانينيات القرن الماضي، ومن المعلوم أن النظام منذ اندلاع الانتفاضة يستحضر بقوة فترة الثمانينيات أملاً في الوصول إلى النتيجة ذاتها، أي الخروج من أزمته سالماً. لكن المقارنة إن صحّت جزئياً أو في بعض التفاصيل فهي لا تصحّ جذرياً، لأن الظروف اختلفت على أكثر من صعيد، أهمها أن النظام لا يواجه الآن تنظيماً سياسياً محدوداً بل يواجه حركة شعبية كبيرة، وهو يعلم بقابليتها للاتساع ما أن تتراخى قبضته الأمنية قليلاً، دون أن نغفل اتساعها الفعلي حتى مع وجود القبضة الأمنية الشديدة. وقد يبدو مستغرباً أن يلجأ النظام إلى سياسة العقاب الجماعي في الوقت الذي يحتاج فيه إلى “رشوة” المترددين أو الخائفين لاستمالتهم أو ضمان بقائهم على ما هم عليه. ضمن هذا المنطق يظهر النظام كأنه يتصرف عكس مصلحته، ولكن من قال إن للاستبداد المنطق ذاته الذي ينسحب على نظم الإدارة الأخرى.
في الواقع لا يرى النظام في السوريين إلا أفراداً ينبغي أن يبقوا خانعين، ولم يكن احتكار الاقتصاد وما رافقه من فساد إلا وسيلة لضمان الولاء الدائم والتام عبر الإمساك الكلي بوسائل العيش، وما يفعله النظام الآن هو تهديدهم بهذه الورقة بعد الإيغال باستخدام الورقة الأمنية. لقد قامت فلسفة النظام خلال مدة طويلة على إلهاء الناس بالركض وراء الحد الأدنى من مقومات العيش، بحيث لا يتبقى لهم وقت للتفكر في أحوالهم أو في الأحوال العامة، وأيضاً بحيث يتم استغلال أي تحسن طفيف في مستوى العيش وتصويره على أنه مكرمة يتلقاها العبيد الذين ليس لهم حق أصلاً. الإنسان المسحوق كلياً هو الفلسفة الحقيقية للاستبداد، وعندما يتعرض هذا النوع من الأنظمة للضغط فإن هاجسه هو سحق الناس أكثر فأكثر. لذلك السوريون موعودون بشتاء قاس وطويل، وهذه المرة على سبيل المجاز أيضاً، فالنظام لن يتوقف عن محاولة إعادتهم إلى كائنات بدائية، أو بالأحرى كائنات بيولوجية صرف، وسيحاول قدر طاقته ألا يعد شتاءهم بربيع قادم. في مثل هذا الصراع النذير السيء هو أن النظام ما يزال يمتلك المزيد من الوقت، أما البشرى السارة فهي قدرته المحدودة في النهاية على مجافاة الطبيعة!
المستقبل