شذراتٌ حول النّدم والكتابة
علي جازو
حينما تفضّل الآخرين على نفسك، الآخرين الذي لا تعرف عنهم سوى صورهم المزيفة، الآخرين الذين لا يستحقون أي فضل ولا أي رفض، لا تجني غير البؤس والنكران. لا تندمْ على هكذا حصيلة شريفة مخيبة؛ إنها محنة لكنها ضرورية كالنار، كالأمل، كالتعاون. غير أن هذه النتيجة المغلولة إلى قراءة نادمة ومشفقة، رغم صوابها الانفعالي السريع والعفوي، تظل مطعونة بحال من يجد الفرح كله في حضيض البؤس عينه؛ في لهيبه العذب الحابس المرير، ذلك أن هناك مستوى يتحول فيه الذلّ الحقيقي إلى فرح حقيقي، رغم كونه مزيفاً ومدعياً، وهي بالكاد تحتمل رغم وجودها في كل مكان تقريباً.
حينما تفكر في منافستهم، خاذليك ومستعملي قلبك ضد قلبك، وهي طريقة مهذبة تنطوي على فعل أناني ضيق الأفق وبليد، تحول البؤس إلى عادة مشتركة متبادلة.
اللامبالاة التي هي بؤس مختار وأقل كلفة، رغم دعامتها النفسية الدنيئة والحرة في آن واحد، تبقى أكثر جاذبية، فهي أسمى وأبلغ فتكاً وأكثر غرابة، وهي أيضاً الأقل انتشاراً.
على المرء أن يختار القليل والنادر مما هو متاح داخل أقفاص الخزي المشتركة كمراحيض عمومية هي شوارع ومنازل وأفكار وأسواق، فقضية الذوق، داخل ظروف كارثية، قضية أخلاقية بالأساس، ولأنها خاسرة ومستعملة من كل فم مرحاضي، لذلك تبقى ملحة وحاضرة، فالتكرار يدعمها والنسيان يعيدها إلى ساحة الاستعمال نظيفة «ما مسّها بشرٌ»! أما نحن، البائسين المزيفين، وحدنا نعثر في التبتل على نهم لايطاق، ولأننا كذلك، نحول الطهارة إلى عادة سرعان ما تغدو بلا أثر، بلا معنى.
«لا أريد أن أعرف شيئاً عن العالم المتحضر، العالم كله مخيف، هذه هي الحقيقة». شخص كئيب يردد هذه الكلمات على مسمعي كل يوم. الحقيقة الأخرى أن هذا المرء ضعيف وحائر، وبسبب ذلك يصح اعتباره صادقاً في ما يقول. إنه يرددها لكي يصدقها، وهذا بسبب ضعفه لا غير، يكررها ويرددها ألف مرة لكي يحولها إلى أمر عادي ومألوف. هكذا تتحول اللاإرادة إلى إرادة في الزحف والمهانة. الحقيقة أن هذا المرء يعاني من هوس الفضول والتطفل، ولأنه كذلك، لا يفصح إلا عن حالة هي عكس حاله الحقيقة. سيأتي يوم، وتقطع مرآة الأيام، لكي يصحو، فمه الكاذب.
ثياب الخير كثياب الشر. الثياب ثياب على كل حال، وما يلمس خلفها ليس سوى العري الإنساني الصعب، الطفولة والشيخوخة اللتان تعيدان الخير إلى شر ضعيف والشر إلى خير ضعيف. هنا تظهر ساحة «الحقيقة» القاسية التي تمزج البراءة بالرعب والندم بالنسيان.
لا شيء يتكرر، كل شيء جديد. النظرة جديدة لأن النهار لن يتكرر، والفصل الذي يرحل لا يعود، لكن المياه تجري وتتجدد كل حين. الجوهر واحد: الألم هو الألم، الفقر هو الفقر، الحقيقة هي الحقيقة، والحق هو الحق.
إله الكتب إله ميت، لذلك تلجأ إليه الأنفس المنافقة، العيون السعيدة العمياء. إله القلوب حي، لذلك نجد الصداقة، الموسيقى، الحنين، والحبّ، الحزن والرأفة، ذاكرة هي بيت من خسر كلَّ بيت.
السّمعة، الطاعة، الآلة. لمَ لا نقول الكذب، المباهاة، الأرقام العديمة الحس. يخلف الطلب على سمعة حسنة نهماً إلى نجاح اجتماعي أخرق، وفيما تقدم الطاعة السبيل إلى سمعة حسنة، تقوم الآلات بإنجاز أعمالها على أكمل وجه!
كل غريزة، في الكتابة بالخصوص، تتضمن بحثاً في الشكل، لإرغامه وطرحه حتى يصفو كشكل بلا أصل. إن العثور على شكل جديد لهو خلق جديد. ذا حفرٌ شَهَويّ في جسد الحروف وتربة الوعي. إن حاجة إلى الكتابة، حاجة لا يمكن ردها أو تأجيلها، تحاصر وتضيق على الشاعر بالمعنى الذي يكون فيه الضيق مطبقاً كاملاً وخانقاً.
ظهور قصيدة، ليس بعد الضيق الذي يحيطها ويولدها، إنما أثناء تفجره المكتوم، جلاء داخلي. طالما كان زمنٌ حادثٌ كانت رغبة غير مسبوقة بشكل حصين وبلا تخوم. ومن يحصن الحادث بشكل ماض إنما يعجز عن تلبية نداء تَفَجُّر الشكل الحال.
كل تغيير يحمل مرارة مزدوجة بفعل تقابل الذاكرة مع الخيانة، والنفاد مع الاستمرار، والوفاء مع الثبات. عندما تفرح لأنك ملكت نضجاً شخصياً، إزاء تبدل أحوال سريع، لا يعود للتغيير أي تأثير، وتتحول المرارة المتصلة إلى رجم حال منقضية، إلى سخرية تهب كريح في وجه رجاء متفحم.
الأديان والقوميات، ولا ينبغي قط إغفال أضدادها الشبيهة بها، هي ما تفوت فرصة البشر عن تمتعهم ورعبهم إزاء عري لا يستحقون غيره، ملكيتهم الوحيدة الممكنة، استحقاقهم البؤس لا غير.
لمنظر ورقة نبات تسقط، أو لبريق طفل رضيع، بهاء لا محدود. تخبرنا الورقة بلطف عن نضوجها الكريم وأن سقوطها تم في أوانه، فيما يعجز الرضيع عن تحويل نظرة عينيه اللامعتين إلى كلمات، فنزداد ولعاً وفضولاً لمعرفة وسماع الكلمات التي لم يقلها. إنه منظر مرئي صامت لموسيقى واحدة مستمرة تلف وجودنا كله.
يخرج الأمل قوياً من لحم جهل فاضح مثلما يبزغ القمل السريع لامعاً وسط الإهمال. في تراب كهذا يكون الموت المنقذ الوحيد؛ ليس لأنه يضع حداً للحياة، إنما لقدرته الدائمة على سحق الجميع.
يساعدنا الندم، الندم القوي الدامع المخنوق، على تغيير عاداتنا، تلك التي دفعتنا إلى أرض الندم الرحبة الوعرة. هكذا تصاحب الوعورة كل حياة جديدة مثلما تترافق في الآن نفسه مع أفق مجهول ومغرٍ في وقت واحد. الجهل بابٌ أيضاً، إذ يبدو من يعرف، ويطمئن إلى ما يعرف فقط، شبيهاً بمن لا يدري ما الذي ينبغي فعله بمعرفة راكدة تحولت إلى نوع من الرقاد الأصم في كتب مغلقة. هكذا يمكن لمئات الكتب التي تدعي الحديث عن الحياة إلى قفص خانق للحياة. افتحْ كتاباً، إن لم تجد إنساناً بداخله، فلا تصدق أية كلمة، ولا ترأف بأي حرف.
الكتابة كاللّمس، وعلى القراءة أن تكون كذلك مادةً حية.
المستقبل