شرعية السلطة والعنف
سليمان تقي الدين
لا نملك مرجعية واحدة لقياس التطورات والتوقعات في العالم العربي. موازين القوى ليست في استفتاءات الرأي وصناديق الاقتراع. الاتجاهات السياسية لا تكرّر نفسها في كل المجتمعات والبلدان. مصادر الشرعية وعناصر قوتها تختلف لأنها لا تنطلق من أن الشعب مصدر السلطات. هكذا يتصدّر الخارج في تحديد شرعية أو عدم شرعية هذه السلطة أو تلك، وتلعب القوة بجميع مكوّناتها الدور الأكبر في تحديد مستقبل أي نظام وحتى كيان أي بلد.
ليست لدينا دولة حديثة واحدة أنجزت اندماجها الوطني وأقامت بيروقراطية، بالمعنى الإيجابي للمصطلح، تحقق الاستقلال الضروري بين الدولة والنظام، بين المجال الوطني والمجال السياسي، فنحن في وضع نتنازع فيه على السلطة والدولة. في أنظمة أمنية تستمد سلطتها من القوة المادية، تصبح شرعية العنف مباحة لمجتمع معنَّف. لا يعود نقد المجتمع منفصلاً عن نقد السلطة فهما معاً يشكّلان المعطى التاريخي. ليست تشوهات السلطة والمجتمع إلا وجهين لعملة واحدة. لم تقم سلطة مستبدة في التاريخ إلا على مجتمع ضعيف لسبب من الأسباب، ولم ينشأ مجتمع يعاني من الاختلالات البنيوية ومن وجوه التخلّف إلا لأن السلطة لم تعالج مشكلاته ولم تحلها. هكذا نعيد بناء الدولة في العالم العربي على شرعية جديدة بعد أن كانت في الماضي ثمرة مزدوجة لعصر الاستعمار ولشرعية الاستقلال السياسي لحكم محلي أياً كانت طبيعة هذا الحكم. وفي الغالب اقتطعت القوى المحلية لنفسها إقطاعات دول بالجغرافيا والسكان إما على مرجعية دينية أو قبلية أو على أحزاب انقلابية صنعت شرعيتها من شعارات التحرّر الوطني.
بعد قرن من التجارب لم يبقَ من رصيد لكل مكوّنات هذه المرحلة يستحق الدفاع عنه حتى لو تمايزت التجارب واختلفت السياسات. فقد صار في حكم المؤكّد أنه لم يعد لهذه المنظومة السياسية العربية من مشرقها إلى مغربها ما تؤديه في خدمة المستقبل. وفي كل مرة يجري امتحان هذه المنظومة لتحديات الداخل والخارج تظهر عجزها. فلا أوضح من عجز هذه الأنظمة وهي تتعامل مع الخارج بمنطق التفاوض والتنازل والمساومة، ولا أبشع من إدارتها لأزمة علاقتها بشعبها وهي تتعجرف وتستخدم القوة للردع والسيطرة.
لكن المشهد الدموي الذي يتسع ليس إلا وجهاً من وجوه القطيعة بين السلطة والشعب وكأن كلاهما يريد أن يسقط الآخر. ولأن الوقائع كذلك فلا يمكن إسقاط الشعب لمجرد توصيفه بأي شكل من أشكال الضعف أو التآمر أو التخلّف أو لأنه يمارس عنفاً وترهيباً وهو المعنَّف المرهَّب المكبوت والمستباح. غير أن الشقاء الأكبر هو في أن تصبح شرعية اجتماعنا السياسي رهينة ما تُفتي به الدول الكبرى بمطامعها ومطامحها فلا تترك لنا كشعوب أن نبني دولاً مستقلة تماماً في إدارتها وحرة في خياراتها. هذه الدول الكبرى كانت وما تزال جزءاً من شرعية القوة ومن شرعية الاستبداد ومن شرعية العنف.
حملت الشعوب العربية لنصف قرن مظالم حكّامها أملاً في بناء استقلال حقيقي ودولة تحمي كرامتها الوطنية. فلا المظالم تنتهي ولا الكرامة الوطنية معقودة اللواء لنخب سلطوية متنوعة العناصر، تستجدي قوتها وبالتالي شرعيتها من الخارج، أي خارج قريب أو بعيد، ولا تستقوي بشعوبها وبحريتها وكرامتها.
حقاً لا نريد أن يحدد الخارج شرعية أي سلطة أو حاكم، ولا نريد أن تقوم شرعيات سياسية على قاعدة الغلبة والعنف والاستئثار وأي ثقافة حصرية أو فئوية. لكن اللعبة لا يصنعها طرف واحد، ولن تفوت فرصة إنقاذ المجتمعات من فوضى الاستقواء والغلبة إلا بوقف العنف ووقف الدم. لا يفعل العنف إلا أن يعمّق عناصر الانقسام والتوتر بين الجماعات ومكوّنات الشعب الواحد. ولا يفعل العنف إلا أن يزيد الشكوك في مآل الإصلاح والتغيير. هذا الاستعراض المتبادل للقوة بين سلطة ومعارضة يغذي فكرة الانشقاق في المجتمع الواحد.
فهل للسلطة شعبها وللمعارضة شعبها في بلدان تحتاج إلى وحدة مكوّناتها وتعميق الولاء الوطني والائتلاف في مشروع الدولة إن اختلفت على نظامها؟ وجدت الدولة الحديثة أكثر من وسيلة لاختبار الشرعية ولإعطاء التفويض للحاكم ونزعه منه. ما زلنا نزوّر إرادة الشعوب حتى إذا استخدمنا «وسائل الديموقراطية». لا يحتاج الحاكم أن يواجه الشارع بالشارع إذا كان يملك شرعية لها بعدها الوطني الجامع حتى في وجه المنشقين والمتمردين. على الحاكم أن يحكم ويقرّر ما هو صالح دولته وشعبه وبلاده وأن يستخدم ما بين يديه من وسائل السلطة لتنفيذ ذلك. الحاكم لا يدير حلقة نقاش فكري وثقافي بل يستجيب أو لا يستجيب لمطالب شعبه. حين يصير الحاكم ضعيفاً في اتخاذ القرار أو متردداً أو عاجزاً فتلك حال من حالات تصدع الدولة. إذا ضاعت فرصة الحاكم للمبادرة واتسعت رقعة العنف والدم والأحقاد عبثاً نبحث عن مسار ديموقراطي سلمي وعن إصلاح ما فسد من علاقات، بل عن شرعيات جديدة مغمّسة بالدماء.
السفير