رستم محمودصفحات سورية

شعبان ثقافيان أم طرفان سياسيان؟


رستم محمود

اهم دلالات النسبة المتقاربة من الأصوات، التي حصل عليها مرشحا الانتخابات الرئاسية المصرية، هي انتفاء معنى عبارة “الشعب يريد” و بطلان دلالتها في زمن ما بعد الثورة. فنصف الشعب المصري تقريبا، أراد ما لم يرده النصف الآخر، لأسباب معقدة ولظروف ورغبات مختلفة. فلو أخذنا نتائج هذا الانتخابات كمعيار لتفكيك شعار “الشعب يريد” سنصل لنتيجة بسيطة: ثمة في مصر “شعب” هو نصف الشعب المصري تقريبا، محافظ بخياراته السياسية وقلق تجاه التغيير، انتخب الفريق احمد شفيق، ويحبذ الاستقرار الامني والسياسي، ويعتبر الجهاز البيروقراطي الضخم للدولة وواردات السياحة والعلاقات الدولية من أهم موارد مصر التنموية. لكنه بالمقابل، هو الأقل محافظة في خياراته الاجتماعية والثقافية. من ناحية ثانية، ثمة “شعب” هو نصف الآخر من الشعب المصري تقريبا، ثوري تغييريّ في خياراته السياسية، يريد أن يهدم أسس الدولة العميقة” ويفتح المجال العام، أنتخب الدكتور محمد مرسي، لا يملك أي قلق تجاه المسألة الأمنية، يعتبر الجهاز البيروقراطي للدولة أهم معيق للتنمية الشاملة، يميل للمحافظة الاجتماعية والثقافية. ثمة بالضبط مخالفة في كل شيء بين “الشعبين” المصريين اللذين عبرا عن إرادتهما تلك، عبر هذه العملية الانتخابية.

لا يعني ذلك بأي شكل، أن الحال كان كذلك حين قيام الثورة المصرية، فالأكيد أن غالبية كبيرة من المصريين كانت تقف إلى جانب الثورة وضد نظام الرئيس مبارك، وهو الأمر الذي لابد من التفصيل بشأنه. فكثير من المصريين الذين انتخبوا شفيق، ربما كانوا من أشد مؤيدي الثورة، لكنهم في الخيار السياسي فيما بعد، يملكون حسابات لا تستوي مع خيارات المرشح محمد مرسي، الأيديولوجية منها والسياسية على حد سواء. بالمقابل فإن منتخبي مرسي نفسه، لم يختاروه لشخصه او برنامجه، بل ربما على قاعدة التناقض مع خيارات المرشح الآخر. لكن ما مكث في نهاية المطاف، هو هذا الانقسام شبه المتساوي للكتلة السكانية المصرية. حيث لم يوفق الرئيس الجديد في خطابه الأول، في التركيز على التفارق السياسي بين “الشعبين” المصريين، بل ذهب إلى التركيز على عمومية شخصيته كرئيس لـ”الهويات الثقافية” المصرية وليس لـ”الخيارات السياسية” للمصريين. فحينما أشار الرئيس في إطلالته الأولى إلى كونه: “رئيسا لجميع المصريين، المسلمين والأقباط منهم، الرجال والنساء، والكبار والصغار…” فغنه بالضبط يتغاضى عن ذلك التباين السياسي، ويعي الحالة كشقاق ثقافي واجتماعي. فربما يكون الرئيس مرسي عادلا في تقسيم ظلاله على كل تلك الأطراف التي ذكرها، لكن هذا غير ذي أهمية ديمقراطية، لو كانت كل تلك الأطياف منحصرة في الذين يؤيدونه سياسيا، من أقباط ومسلمين ونساء ورجال..الخ.

يحدث جر الاختلاف السياسي نحو التخالف الثقافي في مصر، الدولة الأكثر تجانسا في “الهوية الثقافية”، من دون أي اعتراض او ملاحظة تذكر. وهذه المسألة أكثر يسرا في بلدان المشرق العربي، حيث خزان الهويات الثقافية الدينية والقومية والمذهبية والمناطقية. فآلية التحويل، من التناقضات السياسية إلى نظيرتها الثقافية الهوياتية تتم بيسر بالغ، ينتج عنه نظام سياسي لا يستطيع تأمين مستوى ولاء سياسي عالٍ وموثوق، لتمركزه حول نفسه وتفضيله الدائم لمعايير البقاء على دوافع التحديث. وهذا ما يدفعه لجذب وتبني جماعات واطراف متعاضدة ومتشابكة معه عضويا، لا يملكون خيالا سياسيا يهتم بذلك التناقض الموجود في قلب آلية نظام الاستبداد. ثم ينشط النظام في مرحلة لاحقة على أحداث آليات استنسابية، تقرب وتبعد جموع المواطنين من ثروات السلطة الرمزية والمادية، حسب هوياتهم وانتماءاتهم الثقافية تلك. الأمر الذي يحول تناقض النظام السياسي، إلى تناقض ثقافي وهوياتي بين مجموع السكان.

ثمة شعبان تقريبا في كل بلد عربي على أبواب الربيع العربي، جذر كل واحد منهما هوياتي ثقافي ديني ومذهبي أولي، وانقسامهما معمق بأن شعباً واحداً منهما يرتكز على الدوام حول السلطة بكل مغانمها ومنتجها خلال قرابة نصف قرن، فهو الأكثر تمتعا بنعم التنمية غير العادلة، وكان الأوفر حظا بالتمتع بمؤسسات الحداثة التعليمية والاقتصادية التي توفرت في العهود الأكثر حداثة، وهذا الشعب يشكل الجزء الأهم من الرأسمال البشري الحيوي والمدني الحداثوي في المدن المركزية الكبرى في هذه الدول. بينما “الشعب” الآخر يهيم على شبكات التهميش والإلغاء كلها، في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والحداثية كلها. أي أن قضية التناقض بين الجماعتين الثقافيتين في بلداننا بعد نصف قرن من بدئها، باتت أكثر تعقيدا وتركيبا من الفصام الثقافي الواضح. فالجذر الثقافي لها، متشبع بكافة الفوارق والتعقيدات الأخرى.

ما سيكون منتجا في تحويل ذلك التناقض الثقافي، نحو حالة سياسية نسبية، سيتركز في آليتين بسيطتين.

لا يمكن للسلطات الحديثة، وإن كانت منتخبة بطريقة ديموقراطية، أن تعيد آلية الاستنساب الثقافية للسلطة، بالضبط كما كانت تفعل السلطات الاستبدادية. فهذا بالضبط ما سيعمق من التناقض والتفارق بين “الشعبين” اللذين افرزتهما سنوات الاستبداد العربي، وهو بالضبط ما سيفرغ هذه الثورات من منتجها الديموقراطي. فعلى السلطة الحديثة، أن تتصرف بسلوك سياسي وليس هوياتي، لتخرج تماما، ومعها الدولة، من “اللعبة الثقافية” التي يجب ان تبقى لعبة المجتمع، لا السلطة والدولة. (العلمنة العميقة).

من الآن وإلى أن يتم حلّ هذا التناقض الذي بات أصيلا في عمق وعي مجتمعاتنا، لا بد من التصرف مع المجتمع على سويتين مترادفتين. تبنى الأولى على رفض النكران، والاعتراف الحقيقي بـ”مأثرة” سنوات الاستبداد وما سبقها على مجتمعاتنا. الاعتراف الثقافي والوجداني والسياسي بذلك. لكن بالمقابل، رفض أن يتحول هذا الواقع والاعتراف به، إلى نصوص دستورية وقانونية وأعراف سياسية، التي يمكن أن تحول هذه اللحظة الاستثنائية، التي تلي الاستبداد المديد، إلى بنية ممتدة وأصيلة في تاريخ مجتمعاتنا.

وعلى طريقة الروائي المصري علاء أسواني حين يكتب دائما “الديموقراطية هي الحل” نقول: “السياسة هي الحل”، لنغدو شعبا واحدا، لكن بأكثر من طرف سياسي.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى