صفحات العالم

شعب سورية بعيدا عن خيارات الذل


هشام نفاع
في المرحلة الدقيقة الراهنة لا بدّ من إجراء مراجعة. فلا يزال صحيحًا القول (منذ الربيع الفائت) إن الحالة السوريّة تطرح أسئلة من نوع خاص على اليسار، أي أصحاب الطروحات التي تجمع ما بين فكر ومطلب الحرية والعدالة الاجتماعية والعلمانية، وربط هذه عضويًا برفض الهيمنة الأجنبية على الشعوب وإراداتها وخيراتها.

لا يزال صحيحًا القول إن الحالة السورية مركبة. ومع إغراق الحالة الثورية الشعبية في الدماء يفترض أن يصبح واضحًا، لمن يقصد أن يتابع وأن يراجع التطوّرات بنقد وجرأة، أن هناك جهات تحاول اختراق الحالة الشعبية السورية المنتفضة، لتحقيق مكاسب تتناقض مع المصلحة الوطنية السورية. ولكن لا يزال ضروريًا السؤال: هل يعني هذا أن الانسان السوري هو دمية عديمة العقل والكرامة؟

لا يزال صحيحًا القول إن تقعير الواقع السياسي والامتناع عن النظر بشكل مركّب الى واقع مركّب بالضرورة، يؤدي الى النتيجة المؤسفة المتمثلة بإخراج الشعب وكرامته الانسانية من المعادلة السياسية حتى ‘يظلّ الحساب يزبط’ وهو خطأ سياسيّ (وأخلاقيّ) فادح.

لا يزال صحيحًا القول إن مَن يقول للجماهير، عمليًا، إنه يكفي هذا النظام أو ذاك الزعم بأنه يناهض الامبريالية والسلفية فيما هو ينهش شعبه بأسنانه، حتى نوافق على تسويقه كنظام يملك الحق المُباح في قتل متظاهرين مدنيّين غير مسلّحين يطالبون بسقوط الظلم – إنما يساهم في تجهيل الجماهير ودفعها الى استبطان القمع الدموي وكأنه خيار يجب الانصياع اليه، وليس تهشيمه مهما بلغ الثمن.

لا يزال صحيحًا القول إنّ الموقف الثوري هو ذاك الذي يرفض بحزم ووضوح أيّ تدخّل امبريالي في سورية وغير سورية، لكنه يرفض بحزم في الوقت نفسه اعطاء أيّ مبرر لنظام يقتل أبناء شعبه.

لا يزال صحيحًا القول إنّ النظام الوطني لا يقتل شعبه. النظام الوطني لا ينهب خيرات بلاده عبر اقربائه ومقرّبيه وحاشياته. النظام الوطني لا يمكن أن ينام وشعبه يشعر بمرارة القهر والفقر والاهانة. النظام الوطني لا يستغلّ الخطر الخارجي ليعزّز قبضته من خلال دوس كرامة وحرية شعبه. النظام الوطني يجب أن ينحني أمام شعبه بل يقبّل قدميه، لأن الشعب هو الصخرة الصلبة الأساس في وجه جميع التدخلات الأجنبية. ومَن لا يثق بالشعوب ويقبل بإهانتها وإذلالها، مهما بلغت الذريعة، فعليه مراجعة مواقفه وحساباته اذا أراد الحفاظ على مبادئه وضميره.

لا يزال صحيحًا القول إنه وسط هذه الحالة المعقّدة، فإن من يقسّمون الكون الى معسكرين، واحد مع الامبريالية والآخر مع النظام، إنما يرددون أكاذيب. إنهم يكذبون، على أنفسهم أولاً، مهما صدقت نوايا بعضٍ منهم.

لا يزال صحيحًا القول إن هناك سوريين وطنيين وتقدميين لا يحتاجون شهادات من أحد، يرفضون التدخّل الاجنبي في وطنهم لكنهم في الوقت نفسه يرفضون بقوّة إهانة كرامتهم وإنسانيتهم ويطالبون بالحرية لشعبهم أسوة بجميع شعوب الأرض.

لا يزال صحيحًا القول إن هؤلاء الأحرار السوريين، ومعهم متضامنون وأنصار شرفاء من كل الشعوب العربية وفي كل العالم، ليسوا إرهابيين ولا متواطئين لا للإمبريالية ولا لعلوج النفط ولا لأحد.. هؤلاء شرفاء أحرار يرفضون إدخالهم كالفئران في مصيدة تبقي لهم خيارين بائسين وحيدين: ظلم العدو الخارجي أو ظلم ذوي القربى. لا إن من يحاول زجّ البشر بين نارين من الذلّ، عليه أن يراجع أخلاقياته الثورية والانسانية من أساسها.

لا يزال صحيحًا القول إن النظام السوري الذي تصرّف بدموية وغباء يتحمّل المسؤولية الأولى عن خلق حالة معقدة سارعت لاستغلالها، كالمتوقّع، قوى متربّصة داخلية متواطئة وأخرى خارجية معادية لمصلحة سورية الوطنية هذه المصلحة الوطنية التي لا يزال النظام السوري فاقد القدرة على تمثيلــــها بفعل غبائه وغطرسته ودمويته في التعاطي مع مطالب شرائح شعبه الشريفة.

لا يزال صحيحًا القول إن هذا النظام لا يملك أيّ حق في الوعظ والتنظير على المعارضــــة الوطـــنية الشــريفة.

لا يزال صحيحًا القول إن من واجب هذا النظام الاستدراك والاعتذار والتــــحالف مع شــعبه لدرء الخطر الحقيقي المحدق بسورية الغالية، من الداخل والخارج.

ما يصحّ قوله الآن إن مصيبتنا كبيرة حين تنقسم شرائح هامة من القوى العربيّة النيّرة ما بين التصفيق لنظام دموي والقبول بالتعامي الاختياري عن أيديه الملطخة بالدم، وما بين القبول بالتعامي الاختياري عن وجود قوى رجعية واستعمارية تحارب ذلك النظام ليس لمصلحة شعب سورية، لا، بل استغلالا لثورته المجيدة بغية خدمة مصالح قذرة هي أبعد ما تكون عن مصالح الشعب الحقيقية وحريته وحقوقه وكرامته.

ما يصحّ قوله الآن إن من يختار رؤية نصف الحقيقة المُرّة فحسب، فإنه يدوس على حرية وحقوق الشعب السوري. إن الامتحان الحقيقي سيظلّ التمسّك بمبدأ أن الشعب السوري هو صاحب الحق في تقرير حاضره ومستقبله، وليس النظام الدموي من جهة ولا القوى الرجعية العميلة من جهة أخرى، تلك التي تنصّب نفسها مدافعة عن قيم هي فيها جاهلة أمّيّة بل السبب في غيابها.

ما يصحّ قوله الآن وغدًا هو أن المأساة بحجم ثقيل ومؤلم وقاتل. فالطرف الوحيد المتضرّر من تسليح الثورة وجرّها الى عنف أهليّ هو الشعب السوري. وبالمقابل، تتمعّن فترى أن المستفيد من إفساد الثورة وضرب سلميّتها بالرصاص والدماء هما الطرفان ‘المتنازعان’: نظام دكتاتوريّ دمويّ من جهة، وقوى رجعية واستعمارية دمويّة من جهة أخرى. كلاهما عدوّ لروح ثورة الشعوب العربية. ومرة اخرى، تصبح المأساة فوق طاقة التحمّل حين يتفكك معسكر المتنوّرين التقدميين العرب الى شراذم، واحدة تتبع نظامًا قذرًا وأخرى تتبع قوى لا تقلّ عنه قذارة.

ما يصحّ قوله الآن وغدًا إن الأمل كان وسيبقى في القوى السورية الشريفة وهي الأغلبية – التي تعي جيدًا أن مصالح ‘الخصمين’ متطابقة في إغراق ثورة شعبها في الدمّ، وستظلّ تسعى للحفاظ على سلميّة نضالها لأجل إنقاذ وطنها وشعبها وحريته وحقوقه ومستقبله.

ما يصحّ قوله الآن وغدًا إن القرار سيظل للشعب السوري، من خلال اختياره الحر لمستقبله في عملية ديمقراطية حقيقية لا تتدخّل فيها الدبابة.. لا دبابة النظام ولا دبابة ‘الناتو’ المحمّلة بديمقراطية كاذبة قاتلة. الخيار، كل الخيار، للشعب وبكامل الحرية.

ما يصحّ قوله الآن وغدًا إنّ الليل زائل.. ليل الدكتاتوريات المغضوب عليها أمريكيًا وليل الدكتاتوريّات المرضيّ عنها أمريكيًا. فهذه وتلك هي عدوّ شعوبنا. ومرة أخرى: من المثير للحزن والأسف التعاطي مع قضية بهذا الحجم الهائل بمصطلحات وروح لعبة كرة قدم.. ما العمل، إن الحياة تفوق بتركيبتها الاكتفاء الكسول بالنظرات الاطلاقيّة.

المأساة بحجم ثقيل ثقيل ومؤلم وقاتل. وليس أمامي إلا أن أنحني إجلالاً أمام كل سورية وسوريّ وطنيّ حرّ، حقًا.

‘ كاتب فلسطيني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى