شعب سوري واحد
علي كنعان
ماذا يقولُ الدمُ للرصاص؟ أينحني مستجدياً خزيان.. في الحضرةِ المهيبة؟ يؤكِّد الطاعةَ والولاء: هل ارتويتَ، يا أخي؟/ أم يعلنُ الثورة.. ويجرف الطغاةَ والطغيان؟
أكتب هذه الزاوية مساء ‘الجمعة العظيمة’، والدماء الزكية ما تزال طرية في الشوارع والساحات. والتاريخ لن ينسى أنها جمعة عظيمة موجعة ومجيدة بحق وبكل اللغات والرؤى والمقاييس. إن كلماتنا تبدو باردة متخلفة عن هذا الإيقاع النبيل المتسارع للأحداث التي تصنعها الجماهير كل يوم. وكم كنت أتمنى لو كنت بين هؤلاء الشباب، من جيل أحفادي، عسى أن أتلقى أول رصاصة ‘مندسة’ غادرة فأريح وأستريح. وإذا كانت المرارة توشك أن تخنق الروح من كثرة أعداد الضحايا والشهداء، فليس في الأفق من حل وطني عادل غير سقوط النظام وتفكيك أدواته القمعية واسترداد الأموال المنهوبة من ثروة الوطن وجهود أبنائه الشرفاء.
وإذا كانت تحية الشعب التركي وشكره واجبا علينا لتحركه الأخوي في دعم الانتفاضة السورية ومطالبها العادلة بالحرية والكرامة، وخاصة في غياب الحضور العربي، فإن العتب يبقى شديدا على السيد أردوغان لأنه لم يقـــف بقوة كافية إلى جانب الدم الذي أريق في شوارع المدن السورية، فليس معقولا ولا مقبولا بأي منطق أو شريعة أن يبذل الزعيم التركي الكبير مساعيه للمصالحة بين النظام السوري والعدو الصهيوني، ولا يتحرك بالقدر الكافي لدفع هذا النظام الاستبدادي الغاشم إلى مصالحة شعبه، رغم نصف قرن من مكابدات الظلم والاستبداد. ولعله فعل ذلك سرا، ولكن دون جدوى!
مر على انطلاقة الانتفاضة الشعبية في سورية نحو ستة أسابيع، ولم نسمع أو نشهد أي إجراء – ولو بصيغة شكلانية – يتخذه النظام بالتواصل والحوار مع رموز الشباب الثائرين أو مع رموز المعارضة والمفكرين السياسيين والحقوقيين من أمثال الدكتور طيب تيزيني، مصطفى رستم، برهان غليون، رياض الترك، هيثم المالح، عبد المجيد منجونة، عارف دليلة، رياض سيف، على سبيل المثال لا الحصر. الحوار القمعي الوحيد الذي أجراه النظام على طريقته القمعية كان باعتقال المناضلين الناشطين فايز سارة، غياث عيون السود، جورج صبرا، محمود عيسى وعشرات غيرهم. إنه نظام يلعب في الوقت الضائع، بعد أن هدر في المناورة والتسويف والدجل كل وقت صالح للمعالجة والإصلاح. المراسيم والقرارات التي تصدر لا ينفذها أحد، لسبب بوليسي مفضوح، وهو أن الأوامر والقرارات القابلة للتنفيذ تصدر شفاهيا أو عبر هواتف الطغمة الحاكمة، وهي هواتف رباعية الأرقام، يوم كانت هواتف الجماهير في دمشق مؤلفة من ستة أرقام قبل أن تتحول إلى سبعة، ولا أدري إن كانت أرقام الشبكة الأخطبوطية قد تغيرت كذلك.
إن أقذر لعبة دموية يتخذها قادة النظام وأبواقه هي التلويح بالوحش الطائفي وانتصار الخط السلفي، لكن جماهير الانتفاضة – ومن ورائها تسعين بالمئة من أبناء الوطن – تؤكد يوما بعد يوم أننا شعب سوري واحد، وأن الخدعة الاستعمارية القديمة ‘فرق تسد’ لا مكان لها في ثورة الحرية والكرامة. تلك لعبة صبيانية مكشوفة ولا تستحق التوقف عندها أو إعارتها أي اهتمام.
والسؤال الجارح الذي لا يمكن فهمه ولا استيعابه: كيف يقبل الطبيب، وما يسمى بالحكيم في التراث، كل هذا الدم المسفوك ظلما وعدوانا ويتغاضى عن رؤيته ويسكت عن مرتكبيه؟ لو أن الجنرال رستم غزالة أو معلمه المنحور غازي كنعان، هو الذي يحكم سورية بطريقته البوليسية كما حكما لبنان، كنا فهمنا بعض ما يجري عندنا وتجاوزنا السؤال. أما أن يكون الحاكم طبيبا، فهذه حالة غير مفهومة ويعجز عن قبولها أو تصورها أي عقل سليم.
وأود هنا أن أشير إلى أن الإصلاح كان ممكنا منذ اليوم الأول لانتفاضة درعا، لو اتخذ الدكتور الرئيس موقفا تاريخيا مشهودا، تخطى به حدود القرابة، وأمر باعتقال ومحاسبة عاطف نجيب مدير الأمن في درعا ومعه رامي مخلوف رأس الفساد وكبير مافيا النهب المالي في البلد. لكن بداية النهاية كانت في مهزلة البرلمان، ثم جاءت الوزارة الجديدة وكانت الجلسة الإرشادية الأولى مدعاة للضحك والبكاء معا، خاصة أن إحدى جميلات المجلس راحت تبتسم بمسرة غامرة أو سخرية واضحة، ولا من سبب لذلك إلا إذا كان لمسة فنية من المخرج لتطرية المشهد الكالح.
ولكن، إلى أين يمضي النظام بألاعيبه الدموية؟ ولماذا سارع إلى مسح مضمون مراسيمه قبل أن تأخذ طريقها إلى النشر؟ وقيادة البعث أو الجبهة التي يحكم النظام باسمها، أين هي من كل ما يجري من فظاعات؟ وهل حزب البعث أكثر من قناع لعصابة المافيا التي تحكم البلد وتتحكم بمقدراته منذ عشرات السنين؟ وهل جيء بوزير الداخلية الجديد ليثبت تفوقه في البطش والتنكيل؟.. أم أنه مجرد رِجل كرسي، كما يقول المثل الشعبي؟.. أسئلة كثيرة تدور في رأس كل سوري وكل عربي حريص على سلامة سورية ومكانتها ومستقبلها. لكنها أسئلة سرعان ما تتبخر في الهواء المحموم وتضيع بلا صدى ولا جدوى ولا جواب.
وهناك لعبة جانبية رديفة لبالون السلفية وأخطارها، وهي مرتبطة بما يطرح الإعلام الغوغائي حول المؤامرة والتدخل الأجنبي. وأشباح هذه المؤامرة كانت تتسلل مرة من الأردن ومرة من لبنان، ولنترك جانبا قصة الأسلحة المهربة والصفقات السرية المتبادلة بين المخابرات السورية والعراقية، فهي أكثر من مضحكة. والسؤال الأخير هنا: متى كانت سورية في منجاة من التآمر الخارجي، خاصة أن شطرا كبيرا من أرضنا الغالية ما زال تحت الاحتلال؟ هذا إذا تجاوزنا غارات الطيران الصهيوني واغتيال الحاج مغنية والعميد سليمان. لكن من يتأمل المشهد وما يجري فيه من أحداث دامية وترهات رسمية جوفاء يكتشف أن المقصود بالمؤامرة هم جماهير الانتفاضة المطالبة بالحرية والكرامة.
لكن الحقيقة التاريخية الواضحة والدامغة في الوقت ذاته، هي أن إراقة قطرة دم واحدة من قلب شهيد تشكل حدا تاريخيا فاصلا بين ظلمات الماضي ونور المستقبل. لقد انتهى ما يسمى بحكم البعث في سورية، عاجلا أو آجلا، وربما بصورة مختلفة عن نهايته في العراق. ولعل الفارق الوحيد بينهما هو أن نسبة لا تقل عن الثلث من جماهير الحزب المقموعة في بلادنا سوف يشاركون الشعب، كل الشعب، أفراح انتصاره في انتزاع حرياته الديمقراطية وتحقيق التغيير الوطني الشامل. والتغيير الجذري هو الأمل الباقي.
‘ كاتب وشاعر من سورية