صفحات العالم

شعب نازح… “خطية”!/ مشرق عباس

 

 

بين العراقيين والنزوح صلة قربى، فهو جزء من مراراتهم المستوطنة. والأمر لا يتطلب أكثر من أن يضرب حاكم جائر الأرض بقدمه، فيتحول مجرى التاريخ، وتندفع الحشود الغفيرة إلى خارج الحدود أو داخلها، غير مأسوف على مصيرها. وموجات النزوح الجديدة ليست بعيدة من التراجيديا العراقية، بل في صميمها، حيث يتحول الشعب النازح إلى مادة ابتزاز سياسي، وسلعة برسم البيع.

ليس ثمة مرارة أكثر من أن يجرب شعب كامل بكل فئاته النزوح خلال أقل من ثلاثين عاماً. جربه أهل السليمانية وأربيل وكركوك، بقرارات رسمية، وجربه أهل العمارة والبصرة هرباً من جحيم المدافع الإيرانية، وجربته كربلاء والنجف ثمناً لـ «الشعبانية».

بعد الاحتلال الأميركي، كان أهل بغداد ضحية موجة نزوح كبرى، وبعد الاحتلال «الداعشي» ختمت بصمة النازحين على الموصل والأنبار وصلاح الدين.

ينزح العراقيون فرادى، وينزحون بالملايين، وفي كل مرة يجربون من جديد رحلة البحث عن سقف يجمع لحمهم الحي، يصطفون أمام رجال الأمن لإثبات براءتهم، ويحتشدون أمام أبواب السفارات أملاً بالحصول على فرصة حياة مغايرة.

تشبه المخيمات بعضها على أية حال، فأنين الأطفال في صقيع كانون وقيظ تموز واحد، وحكايات الموظفين الدوليين وخرافاتهم عن دعم النازحين نفسياً، ومساعدتهم عبر الدورات التدريبية واحدة.

على الموظف أن يبدي التعاطف، مهمته تقتضي ذلك، كما تقتضي إصدار تقارير دورية تستعرض ظروف اللاجئين الصعبة، والحاجة إلى المزيد من التبرعات الدولية.

لكن أموال الأمم المتحدة لا تصل تماماً إلى النازحين، فهي تقسم إلى ثلاث حصص على الأقل، تذهب الأولى إلى تغطية تكاليف البعثة الدولية، وتنقلات موظفيها وأجورهم المكلفة، والثانية تستنزفها بيئة الفساد التي تسير في ظل المنظمة الدولية وإلى جوارها وفي زواياها، على شكل منظمات محلية مساندة وشركات وأفراد، فيما تصل الثالثة إلى النازحين في شكل مواد غذائية، وصحية، لا تسد حاجة ولا تحل أزمة.

هناك ما يصل من جهود الأمم المتحدة ومنظماتها إلى يد النازح على أية حال، لكن ما يخرج من حكومة بغداد لا يصل. فالمعادلة تتضمن نوعاً مغايراً من الحصص يبتلع الفساد غالبيتها.

يدافع كبار المسؤولين العراقيين عن نزاهة جهودهم لمساعدة اللاجئين، فالدولة وزعت على كل عائلة مليون دينار (نحو 800 دولار)، وعلى الورق رصدت الدولة نحو بليون دولار لمساعدة النازحين، وعلى الأرض كانت تلك مناسبة لتقفز مجموعة جديدة من المديرين والمحافظين والمسؤولين الإداريين إلى قائمة أصحاب الثروات.

التحقق من السرقات في العراق أشبه بالبحث عن القارة المفقودة، فمنظومة الفساد أكثر دهاءً من أن تكتشف. والسؤال الغائب يتعلق بالنتائج التي ترتبت وستترتب على دائرة النزوح العراقية المغلقة. فلم يكن غريباً ألّا يتفاعل الشعب كثيراً مع محنة النزوح الأخيرة، على رغم قسوتها، وحجمها المهول، فلم تطلق حتى اليوم أي فاعلية شعبية واسعة النطاق لدعم المهجرين، ولم يشهد البلد حملات تبرع كبيرة، ولم تساهم حتى وسائل الإعلام جدياً في حض الناس على التضامن الاجتماعي.

عملياً، لم يترجم التعاطف الشعبي مع النازحين في شكل مساعدات فعلية، إلا في حالات نادرة، وبجهود محدودة، وغير فعالة، وفي نطاق مبادرات فردية تتخذ في الغالب طابعاً طائفياً، كأن يتبرع رجل أعمال سنّي لإغاثة بعض السنّة، وأن يقوم شيعي بالأمر نفسه للنازحين الشيعة، والحال مشابهة مع المسيحيين والإزيديين.

تلك القسوة الشعبية قد تكون مرتبطة بذاكرة النزوح الجماعي نفسها، حيث يرى من مر بالتجربة، أنها أشبه بقدر يجب أن يطاول الجميع، ولا يستثني أحداً!

لا يمتلك النازح في نهاية المطاف رفاهية استجواب مسؤول عن حقوقه كمواطن في محنة، أو مطالبة منظمة بالنزاهة في عملها. كل ما يتمناه ألّا تتم إهانته أكثر، وألّا تنتهك إنسانيته أكثر، وأن يعود إلى منزله يوماً ما.

تصيبه خطابات التعاطف بالقرف، خصوصاً عندما تقترن بالشفقة. يشعر بأن الشفقة تنتهك رجولته، وتحطم ما تبقى من اعتزازه بنفسه… ثم تصبح الكرامة مجرد أثر أحفوري، أمام دمعة طفله وهو يختنق بأمراض التنفس، وجدائل ابنته الشابة حين يصحبها إلى الحمام المشترك كل يوم.

يشعر بالقرف كل مرة، عندما يقرر أحد السياسيين زيارته، يكتشف أن خيمته التي يهدر الوقت في تحصينها أمام تدفق المطر، هي مجرد منصة لمؤتمر صحافي، وأن عائلته التي يحاول عبثاً حمايتها، ليست أكثر من فئران تجارب في المختبرات السياسية.

نعم… محنة التهجير وجيوش النازحين بؤرة نموذجية لإنتاج كل الفيروسات النفسية، وهي بيئة ساهمت في إنتاج «داعش» اليوم، وساهمت في إنتاج «داعش» الأمس وستنتج «داعش» الغد، وعلى الجميع أن يفكّر ألف مرة قبل ترك الأمور على حالها، والبحث في موازنة العراق عن تعبيد شارع، فيما يحفر الإحباط في صدور الناس شقوقاً غير قابلة للتعبيد.

شعب العراق النازح يعيد صوغ تقاليد النزوح كل مرة بطريقة أعنف، وأكثر مأسوية، ويستهل الحكايات بتذكير الجميع بعقابيل كل انتهاك لكرامته، يذكّرهم مراراً بأن الشفقة مجرد جريمة أخرى، وأن الأم ر كان يتطلب أكثر من كلمة «خطية»، وقد تعب وهو يردد خلف السيّاب الشاعر: «والموت أهون من خطية»!

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى