صفحات الثقافة

شعراء سوريا يُعرّفون الحرّية


يزن العبيد

ماذا تعني لك الحرّية كقيمة بوصفك مثقفاً، وكيف يمكن للمثقف أن يُنشئ كينونته الحرّة رغم جبريّة انتمائه لعائلة بعينها، لمجتمع بعينه، لطائفة ودين وقومية… إلخ؟ سؤالٌ يطرح فكرة الحرّية بمعناها الوجودي الأشمل، والذي لا ينحصر في إطار النسق السياسي وجدلية السلطة والمثقف… نتوجّه به إلى ثلاثة عشر شاعراً سورياً كان لهم موقفهم الواضح من ثورة أبناء شعبهم، وهم: منذر مصري، فرج بيرقدار، هالا محمد، حازم العظمة، أكرم قطريب، أميرة أبو الحسن، خلف علي الخلف، نارت عبد الكريم، ياسر الأطرش، آخين ولات، جولان حاجي، تمام التلاوي، صلاح إبراهيم الحسن… إضافة إلى الروائية الجميلة والشجاعة روزا ياسين حسن.

منذر مصري

«الحرّية حق مقدّس». من يُصدِّق أن كلاماً كهذا منصوص عليه حرفياً في إحدى مواد الدستور لنظام سامَ السوريين لأربعة عقود كاملة، كل أصناف السجون والزنزانات والأقفاص، وكل أنواع القيود والسلاسل والأقفال، النظام الذي أطاح بالمقدّسات الإنسانية جميعها، ليضع مقدّسه الوحيد، الذي رأيتهم بأم عيني يطوّقونه بدوائر الساجدين والراكعين وهو في وسطهم يقف كإله، هبة السماء للأرض، أول وأخير زمانه، سيّد الأقدار والمصائر، الأزلي الأبدي.

الإنسان حيوان يعتاد كل شيء، حيوان لديه القدرة على أن يحيا في أي ظرف، استجابةً لغريزة البقاء والاستمرار. كان الراحل الياس مرقص يردّد: «البشر واجبهم الأول أن يستمرُّوا». هكذا يمكن تفسير كيف استطاع الشعب السوري تحمُّل العبودية والاستبداد كل هذه السنين. إلا أنه في الوقت ذاته لا يستطيع أن يفعل ذلك دون أن يحلم، دون أن يضع نصب عينَيه حرّيته القادمة.

لم أكن حراً يوماً، أعترف. لم أستطع أن أتوهَّم أني حرٌّ حتى في الشعر والرسم والحب. كان هناك دائماً شيء يُطبق على صدري، قبضة تشدّ على قلبي، كنت أشعر بالضيق من كل شيء، وبالتالي كنت أُضيِّق على نفسي في كل شيء. لشعري ورسمي ضوابط لا حدود لها، كل من عرف عن قرب كيف أرسم وأكتب، كانت تروِّعه القيود والشروط التي أعمل بها. شعري لم يكن سوى حلم مستحيل بالانعتاق، شهوة أقرب ما تكون مميتة، للحرّية.

صبرَ شعبي طويلاً على الظلم والخوف والقيد، حتى صاح: «يا محلاه الموت». لكني اليوم أسمعه بكل جوارحه يصيح: «يا محلاها الحرّية». ويا الله كم أشتهي أن أصيحها معه.

فرج بيرقدار

أتذكّر، عندما كنت في السجن، أني كتبت في آخر دفاعي أمام محكمة أمن الدولة العليا بدمشق: «إن الحرّية التي في داخلنا أقوى من السجون التي نحن في داخلها». كتبت ذلك حينها بروح الشاعر. أما كإنسان واقعي أو عملي فأعرف أن المجتمع البشري، حتى في أرقى أنظمته، لم يدخل ملكوت الحرّية بكليتها بعد، وإن كان أحرز تقدّماً في غاية الأهمية على صعيد الحرّية الشخصية أو السياسية أو غير ذلك من الحقول المجتزأة. وليس لي كإنسان سوري إلا أن أطمح إلى تحقيق تلك الحرّيات المجتزأة بأفضل صورة أو بأفضل سعي ممكن، رغم إدراكي للصعوبات والضرائب الفادحة في مجتمع ما زال محكوماً بعلاقات وأطر اجتماعية ما قبل مدنيّة. الحرّية بالنسبة إليَّ كشاعر أمرٌ جماليّ عصيّ على التحديد الدقيق، فهي أبعد من كل ما تناولته علوم الجمال. إنها أمر يشبه طائراً يشتقّ أو يجترح بجناحَيه سماوات لا متناهية. وهي الوحيدة القادرة على أن تجعلك نفسك، بل على أن تمنحك نفسك، فلا تتعدَّد شخوصك ولا تتناقض. ولعلَّ النبع الأهم للحرّية بهذا المعنى هو المنبثق من داخل المرء حتى لو كان موجوداً داخل زنزانة.

روزا ياسين حسن

ثمة شيء يشبه قلقاً عميقاً قد يُسمَّى: الحرّية! يبدأ هذا القلق حينما تعدّ أرواحنا نفسها للابتعاد عن القطيع، بينما يرقد في ذاكرتها، منذ نشوء المجتمعات، أن الابتعاد عن القطيع يعني الموت… فترتبط الحرّية بشكل ما بالموت، من حيث تعني في ماهيّتها: الحياة كما ينبغي!

تبدأ الحرّية، كما أراها، بالخروج من المكان الساكن، الذي تمنحنا إياه أغطية السلطات، سواء أكانت سلطات دينية أم اجتماعية أم سياسية. وحينما نتمرّد على قوانين تلك السلطات، التي وضعت لضمان سلطتها، إلى مكان آخر غير ثابت، نتحوّل من حياة الخنوع والتسليم إلى قلق السؤال وقلق الوعي، الوعي بأننا مسيّرون لخدمة استمرار السلطات لا لمصلحتنا، وقلق سؤالنا لماذا؟ وكيف؟ لذلك لن يكون خيار الحرية بالبساطة البادية، فالسلطات تلك لن تتقبَّل نشوز الحرّ أو الحرّة عن قطيعها، فتحاكمهما بشتَّى الوسائل المتراكمة عن خبرة آلاف السنين، بعضها النبذ الاجتماعي، وهذا ما تعانيه الهوامش وأكثرها النساء، والاتهام بالكفر دينياً، والخيانة والتآمر سياسياً!

لكن، وعلى الرغم من كل أثمانها، فالحرّية تجعلنا أقرب إلى البشر منّا إلى الجمادات، ربما لأنها تجعلنا المسؤولين الوحيدين عن مصيرنا، ولا أعتقد أن المكان الوسط بين سيطرة السلطات والنأي صوب الحرّية، ذاك المكان الذي يعجّ اليوم بالكثيرين والكثيرات، مكانٌ يثير إعجابي شخصياً. لكن هذا لا يعني البتة صراعاً مفتعلاً مع السلطات، مما يجعلنا نبدِّد طاقاتنا هباء، بل يعني جملة دقيقة وصغيرة: «أنا كما أنا، كونوا كما شئتم…».

هالا محمد

الحرّية هي غواية القدرة على التعبير عن المشاعر الحقيقية. لقد قدّم لنا تاريخ الشعوب التي ناضلت وتحرَّرتْ دروسها. نحن الآن ندخل الصفّ لنتعلَّمها معاً؛ كلّنا كلّ الأجيال. كنا نتلمَّس الحرّية في بُنية وَعينا، لكن لم نع ِما هيَ قبل أن نحترق بنارها الآن. هيَ الانعتاق من الأنا بشكل كبير والاستعاضة عن مساحات الأنا بالمسؤولية وضرورة المساهمة وأهمية الرأي والمبادرة والمشاركة. هي أهميّة الفرد في المجتمع وأمام ذاته الفردية والجمعية. الكلّ هو الحرّية في ثورة شعب، وليس البطل أو الفرد. هنا الدرس الجديد في تقليص مساحات الإقصاء الذي مارسته السلطة ومارسته المعارضة. هنا… بداية السير على طريق التحرّر من إرث فساد الـ«أنا» بالـ«أنا» المتطهّرة الواعية التي تبني للمستقبل كما لو كانت هي المسؤولة عنه.

إن شباب سوريا وبيوتها تضرب مثالاً يُحتذى به في تضحيتها وفي انعتاقها من رواسب التخلُّف وكلّ ما يشدّ الوعي إلى أنانية المصلحة الفردية من أجل السير بسوريا إلى مستقبل حرّ ديموقراطي تكون فيه دولة لكل مواطنيها بالتساوي أمام قانونها العادل لا فرق بين إثنيات أو طوائف في المواطنة. الحرّية هي الإيمان فعلياً بهذا وممارسته والسعي للوصول إليه والتخلّي عن ميكيافيلية الوصول الفردي.  هي الوعي وأخلاق الطريق التي ستوصل إلى الطريق. هيَ أن ترى أن الآخر رنينكَ.

تخلَّى شباب سوريا المنتفضون عن كلّ ما كانوا يحيون من إيقاع حياة ومكاسب ونزلوا إلى الشارع، هنا أستطيع أن أقول: نعم يستطيع الإنسان التحرُّر من العائلة والطائفة كما يفعل شباب سوريا. كما فعل الشهيد السلمي غياث مطر والشهداء الآخرين.

حازم العظمة

تعنيني الحرّية بالطريقة التي يُعنى بها ما هو بديهي كالهواء والشمس. والحال هو أن كل التاريخ الإنساني بالإضافة إلى تاريخ الثقافة يمكن أن نفكِّر فيه على أنه: بحث عن الحرّية، أو بحث في الحرّية… نحن لا نتحدّث عن الحرّية يومياً، ولا نتحدّث عنها بهذا الإلحاح أو بهذا الارتياع، إلا حين تصبح مسألة غيابها مأساة أو فضيحة… هذا تحديداً ما فعلته الثورات العربية. فمع تقدُّم الاحتجاجات انكشف الغطاء الهشّ الذي بالكاد كان يخفي طبائع الاستبداد المتمكنة والخانقة. أيضاً نحن لا نتحدَّث عن «الحرّية» كمفهوم مجرّد، أو بوصفها «مفهوماً عاماً» إلا في لحظات كهذه. الحرّية في الأحوال العادية تعني مفاهيم أكثر تحديداً، ومنذ عصور بعيدة أخذ البحث في ماهيّة الحرّية مناحيَ عديدة بل ومختلفة ومتناقضة، لكن في لحظة صدام هذه الشعوب مع الاستبداد يغدو عبثياً ومؤذياً البحث في «تصنيف» الحرّية أو في «نوعية» هذه الحرّية أو مضمونها، هنا نتحدّث عن غياب الحرّية بكل مفاهيمها الممكنة. هكذا تصبح الحرّية شعاراً عاماً يجمع كل الناس ضدَّ القتل والعسف… ومن ثم صار يحمل دلالاتٍ لا تخفى على أحد كيف أن كلمة «حرّية»، مجرّد الكلمة، ناهيك عن ممارستها مباشرة في الشارع، أثارت كل هذا الحقد وكل هذا القتل.

من جهة ثانية أرى أن مفهوم الحرّية بحد ذاته ينفي من البداية الطائفة والقبيلة والعشيرة… على مَن يتلفظون بهذه الكلمة، وثمة من يردّدها أوتوماتيكياً الآن، أن يعوا ذلك.

أكرم قطريب

اخترقت الآن كلمة «الحرّية» شوارع العالم العربي وصار التعاطي معها نوعاً من المجاز المقدّس قرَّرتْ أن تتبنَّاه الجماهير المنتفضة أملاً في تجاوز الوضع المزري والهشّ الذي تعيشه، والإحباط الذي يلفّ كيانها ومصيرها. الحرّية ليست درساً من دروس الفصحى، بل لازمة لتطوّر الحياة والفكر والوجود الإنساني اليومي وشرط بنيوي لخصائص أي مجتمع أو بلد يرغب بامتلاك سماتٍ مدنيَّة. هي بمثابة خيال جمعيّ يوطّد للمجتمعات التي تريد أن تتجاوز الاستبداد والتعصُّب والعداء المستمر مع الذات والآخر، أهمية فكرة الفرد والدخول في موزاييك «الحصانة المتساوية لحرّية التعبير» على أي مستوى كان. وبين الحرّية والتسامح تخرج من صدمة المفردات المكتوبة على يافطات المباني الرسمية يقرأها النازحون من الأقاليم إلى أحزمة المدن. ربما يبعث على الشؤم، وبعد كل هذا العذاب والدم، أن تسرق الحماسة العصبية أي إمكان للمّ شمل البلاد تحت نوع من الكرامة البشرية التي تستحقها.

الحرّية هي البرزخ الفاصل بين المستعمرة ومسقط الرأس/ بين المزرعة والبرّية، والتفسير الممكن لفكرة البيت والشارع والمقهى والمأوى والمدن والقرى البعيدة والقريبة. هي وعد المجتمعات المتقوّضة بمفردة السجن، ومن أجمل أخطائها أنها تظهر للشعراء في مناماتهم فيتشرَّدون في بلدان الله الواسعة.

أميرة أبو الحسن

الحرّية عندي هي رفع كل قيد عن العقل والتفكير، في الوقت نفسه هي انتماء للذات الخاصة التي رفضت الموروث بشكل مسلمات، فقرأت وبحثت وتعرَّفت إلى ثقافات الآخرين بعقل منفتح حتى وصلت إلى نتائجها الخاصة. لم تعد الثقافة تعني لي المعلومات فقط، فبإمكان أي إنسان أن يقرأ ويشاهد ويسمع ويتعلم. الثقافة سلوك ينقل ويترجم ما راكمته هذه المعلومات من قناعات جديدة وفكر إلى حيّز الحياة عن طريق الممارسة، وفي الممارسة خروج على جبريَّة الانتماءات التي طرحها سؤال «الغاوون». لا أتخيَّل مثقفاً حقيقياً منسجماً تمام الانسجام مع مجتمعه، أو ينتمي إلى طائفة أو دين أو قومية بذاتها ويستميت في الدفاع عنها لأنه يعتقد أنها الأفضل. حرّيته في رفضه – الذي يعتبره منطقياً – لواقع يستمد قوّة وجوده من ثبات قيمه، وحرّيته في خلخلة هذه القيم الموروثة والثابتة. سيتعرَّض للنبذ في معظم الأحيان لكن ثقافته وقناعاته المستمدّة منها سوف تشكّلان حماية كافية له.

خلف علي الخلف

الحرّية دون تنظيرات سردية هي الحياة التي نحب. الحياة التي نحلم بها، وقد لا تأتي في حياتنا. فدونها الموت في أحيان كثيرة. دونها حياة موزَّعة بين القمع والمنافي. دونها الصمت الذي هو معادل آخر من الموت في أحيان أخرى. هي معادل للحياة أو شرطها الأساسي، بدون حرّية نحن نعيش فقط. ورغم أنها حق أساسي وأصيل، لكنها ككل الأشياء الثمينة لا يمكن العثور عليها مرمية لوقت طويل على الرصيف تنتظرك كي تعثر عليها. لا بدَّ من دفع ثمنها والسعي لتحقيقها. شرط الحرّية الأساسي هو وعيها؛ وعي الحاجة إليها ثم الاستعداد لتحمُّل كلفتها، فهي ذات ثمن باهظ في مجتمعاتنا، لا يتعلَّق الأمر بجانبها «السياسي» فقط، بل أيضاً بالانتماءات الاجتماعية التي تشكّل سلطة غالباً ما تحاول الحدَّ من «الحرّية» تحت دعاوى «الاجتماع» والتوافق عليه والذي يقصُّ أجنحتها. أعتقد أنه بعد وعي الحرّية وحاجتك إليها واستعدادك لدفع كلفتها وقدرتك على ذلك تصبح الأمور متعلِّقة باتِّساقك مع فكرة حياتك نفسها. إلى أين تريدها أن تمضي. بشكل نظري لا تتعارض الحرّية مع انتمائك كفرد إلى جماعة بدءاً من الأسرة وامتداداً للإنسانية جمعاء. لكن عملياً «مراعاة» هذا الاجتماع يقتضي تنازلاً ما عن جزء من حرّيتك. عندما يكون الجميع لديهم فهم «إنساني» لحقك في حياتك تصبح «التنازلات» التي تقدّمها لهم ويقدّمونها لك طفيفة. تصبح الحرّية هي الناظم لعلاقات الأفراد والأديان والطوائف والـ… ببعضها.

نارت عبد الكريم

الحرّية اسمٌ بلا مُسمَّى. قد يكون قولي هذا صادماً أو متجاوزاً لما هو سائد. لذلك سأتحدَّث عن الحرّية بشكل موارب الى حدّ ما. وبمعنى آخر ساحأول ملامسة مفهوم الحرّية بإظهار نقيضها، أي كما يُظهر السوادُ شدَّةَ البياض، فأنا المدعو نارت عبد الكريم، المولود في سوريا، بتاريخ 3/ 9/ 1973، أودُّ الاعتراف بأنني لم أرَ الحرّية في حياتي، لم أتعرَّف إليها ولم أتعلّمها أو أمارسها، لا في البيت أو في المدرسة، ولا في الشارع أو الحياة العامة. فكيف لي أن أتحدَّث عن شيء – سواء مفهوم أو مادة – لا أعرفه ولم أمارسه؟ ذلك ما يُفسِّر مواربتي في محاولة الكتابة عنها. إنَّ تواترَ الحديث والكتابة عن الحرّية، والسعي الحثيث للمطالبة بها، والتوق والإشادة بحسناتها، إنْ دلَّ على شيء فهو يدلُّ على وجود عبودية ما، قسر أو تبعية، قيد أو استلاب، انقياد أو تقليد أعمى. فهل نحن نطالب بالحرّية لأننا عبيد؟ وإن كنا كذلك فلمن ولماذا؟ وإن كنا أحراراً فعلامَ نتحدَّث عن الحرّية؟ قلة قليلة استطاعوا تحطيم أغلالهم فكان نصيبهم إما الجنون مثل نيتشه في عالم الفكر وإما الإهمال والنبذ مثل بودلير والسيّاب في عالم الشعر والأدب.

ياسر الأطرش

أينما وُجد الماء وُجدت الحياة (هذا في ما يخصُّ الطور الطينيّ الذي يحكمنا). بل: أينما وُجدت الحرّية وُجدت الحياة. فالحياة مشروطة بالحريّة، كل عيش خارج هذا الشرط هو عيشٌ وليس حياة. تراكم الحالة القمعية وتآلف الديكتاتويات وتحكُّمها بمفاصل الحياة… جعلت الأجيال في الخمسين سنة الأخيرة تتماهى مع الحالة وتنظر إليها وكأنها قدر مقدور، ما جعلَ الشرطي الداخلي يتغوَّل ليصبح أكبر وأخطر من الرقيب الخارجي، فأصبح المبدع في بلاد الغيلان هذه يُراعي الرقيب أكثر مما يراعي إبداعه. والمبدع ربما كان في بداياته عرّافاً أو كاهناً، قارئ غيبٍ كان، لم يأتدم خوف أبيه بل أغراه أكثر شغب الطفولة وتمرده على الحيطان ليكتشف عري الحياة. لقد كان دائماً ابن نفسه، جموحه وجنونه. أما الانتماء الجبري هذا فما هو إلا جناية المعرِّي العظيم كما رآها ولم يرتكبها. المبدع لا يتقبَّل العالم كما هو، بل يخترع العالم، يفتح الأمداء، يلعب الغمَّيضة مع الشرطي، ودائماً ينجح في الهروب. يقبض على كل شيء ولا يقبض عليه أحد. هذه جمرته. وليكفَّ عن اللعبة مَن لا يحسن التحليق… والاختباء في كُمِّ وردة.

 آخين ولات

الحرّية كمفهوم وقيمة هي الإنسان. هي أن أحقّق إنسانيتي المتحرّرة من أي نوعٍ من الانتماءات المكتسبة. أن أعرف أن حرّيتي تنتهي تماماً عندما تبدأ حرّية الآخرين… وحرّيتي كشاعرة هي أن أكون أنا؛ بعيداً عن الخوف من أي تابو، أي سلطة وأي شرطي نُنصِّبه على أنفسنا. أن أتحرَّر من ذاتي المكبَّلة، لصالح الذات الطليقة، الخيال اللا محدود والتأمُّل الحرّ.

جولان حاجي

اسمح لي باعتراف محض شخصي. أتكلَّم على نفسي، وإزاء السؤال الذي طرحتَ لا أدَّعي قوَّة لا أمتلكها لتشفع لي. ثمة نقص ممضّ لا يفارقني غالباً. بي علّة قديمة تتجلّى في إساءتي إلى ما أحبّ إذا تكلَّمتُ عليه. تخمة الإهانات والمخاوف أوهمتني بالبؤس وعطّلتني تقريباً. كان لأتفه الأسباب سُلطةُ أن يُضايقني ويؤرقني ويحزنني، ولطالما ظننتُني على ذاك النحو تسليةً في أيدي الغرباء والأفظاظ والغامضين. كنتُ محكوماً بهم في تلك العطالة مثل ضيف مطرود يسمع هاوية تناديه، لكنه يصمّ أذنيه عن النداء لتصرفه المصادفات إلى خوف آخر. لم أغفر لنفسي ذاك العجز، تماديتُ في توبيخها سراً، وأمضيت وقتاً طويلاً أستنجد بالصبر المبهم على إنهاكٍ مبهم مثله. كنت أُشجِّع نفسي في السر: سأجتاز كل مأزق ولن تتلف روحي. سأشفى من التشوُّهات البطيئة وندوب الحرمانات التي قد تطول ملاحقتها لي حتى في المنامات وأحلام اليقظة. أعتقد أنني خرجتُ من نفسي التي ضاقت بي وعليَّ. الآن ومن قبل، لا أثق بمن يذكرونني بأسلافي الذين أكاد لا أعرفهم، هنا في هذه الأرض، حيث كانت تترنّح أحياناً رطانة النقاوة ونبل الأصول تحت ظلال السيوف وحفيف النقود وصليل الأسلحة، ورجائي الحالم أن تكنس موجات الشباب المتوالية نفايات كثيرة في الواقع وفي الطبائع والعقول، فيسترد الإنسان رهافته وعطفه، ولا يوجعه الدم المراق بل رهبة الجمال. مؤخراً، منذ الربيع الماضي، لمسني هذا الإحساس قوياً وسكنني: أن تجد نفسك حراً ولكن أمام الموت، وسط الرعب والحزن المريريَن، فتتضاعف تلك اللذة المسمّاة بالحرّية في ذروات الخطر. حين تلفحك الحرّية وأنت مؤمن بها، رغم الوحدة والخذلان العامَّين، ستقف على جوهرها: الحب. وستمتد جذورك في كل مدينة كالصداقات. فما نحبُّه هو الانتماء الوحيد، وليس ما يطعمنا ويكسينا أو ما نقدِّسه ونخشاه. تغيّرت نبرة الصوت، واندثرت همسات الغرف والتلفُّتات إذا نطق أحد الطلبة، على سبيل المثال، اسم رئيس أو اسم شقيقه وأبيه أو انتبهوا إلى صورة مضحكة مقلقة على الصفحة الأولى من جريدة رسمية فرشوها تحت عشائهم الفقير. الحرّية لا تزال أمامنا. ليست خلاصاً ننجزه فحسب بل حقاً وطريقاً كذلك، وليست اكتمالاً لتُختزل في قصيدة أو يقرّها قانون وتبرِّرها فلسفة. ستتشعَّب منها طرق كثيرة بين الشوك والهشيم، وسيزول الألم الذي وحَّد الناس وسيظل يوحِّدهم أكثر من أي شعار أو عقيدة، لتبدأ المعضلة الأكبر: مواجهة ذواتنا وذاكرتنا. سأسعى دائباً إلى تحقق ما أتمناه في المستقبل: لن أقدم على شيء، فقط لأن الجميع يقومون به، أو على العكس لأنه ما من أحد يقوم به. لن تؤلمني أصغر الإهانات كمفلس خجول ينتظر من الآخرين أن يهرعوا ليغيثوه مشفقين أو مادحين شجاعته في المصائب. وقد أصل إلى ما أوجزتْه دعد حداد: كسرة خبز تكفيني.

تمّام التلاوي

أنت حرٌّ ما دمتَ تمتلك المخيّلة، ولنا في الروائي الفرنسي الشهير الماركيز دو ساد مثالاً ناصعاً على ما أقول… الرجل الذي سُجن بسبب كتاباته سبعة وعشرين عاماً فلم يمنعه السجن من مواصلة الكتابة، وعندما حُرم الأقلام والأوراق كتبَ على شرشف سريره مستخدماً بقايا العظام من وجباته أقلاماً، ودمه حبراً لرواياته.

غالباً ما أذكر مثالَين على ممارستي حرّيتي: تزوَّجتُ امرأة من طائفة أخرى أنا الخارج من بيئة شديدة المحافظة، وأصررتُ على كتابة قصيدة التفعيلة في زمن رواج قصيدة النثر. لم أشعر يوماً بالندم على ما قمتُ به بمحض رغبتي، وندمت دائماً على ما فعلته لاعتبارات أخرى اجتماعية أو سياسية أو غيرها. الحياة بالنسبة إليَّ تعاش بقدر ما نمارس بها حرّيتنا، دون المساس طبعاً بحرّية من حولنا وبرغباتهم الخاصة ودون أن تؤدي إلى انتهاكهم، لأن الحرّية تكون حرّية فقط عندما تكون منسجمة مع الضمير الأخلاقي في موقف ناصع، أو كلمة حق، أو في إبداع فنّي وحياتي، يؤدي بنا إلى الانعتاق من العادي ومن الموروث المهترئ، نحو عوالم جديدة وخلاقة تجعلنا أكثر حباً للحياة، وأقل ندماً على عيشها.

 صلاح إبراهيم الحسن

الحرّية تعني الوجود، ويمكنني القول: أنا حرّ إذاً أنا موجود، وبهذا تصبح الحرّية معادلاً للحياة، وهي قيمة أساسية إلى جانب قيم أخرى لا تقبل القسمة أو النسبية ولا يمكن أن تكون منقوصة. وكما أطالب لنفسي بالحرّية وأسعى إلى ممارستها الكاملة لا يمكنني في المقابل مصادرة حرّيات الآخرين، فكل الناس لهم الحق في أن يكونوا أحراراً، وقد ولدتهم أمّهاتهم كذلك، وعليهم أن يظلوا أحراراً وألا يتعلموا العبودية مهما كان نوعها أو شكلها في إطار الأسرة أو المجتمع أو المؤسسة. وحرّية المبدع مفهوم إشكالي شغل النقاد حتى أقرَّت المذاهب الأدبية الحديثة بهذا المبدأ إذ لا يمكن أن ينشأ أدب بدون هذه الحرّية. ويمكن للمبدع أن يكون حراً دون أن ينفصل عن جبريَّة عرْقه أو لونه أو دينه (واعذرني لأنني لا أنتمي لطائفة) وينبغي أن تكون حرّيته عابرة لكل ذلك… وكل مبدع يرهن تجربته لأحد تلك المقيّدات سيكون إبداعه محدوداً ويقع في التأطير والتدجين.

 «الغاوون»، العدد 46، 10 كانون الثاني 2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى