شعراء/ عباس بيضون
بعد أن خرجت ناجياً من حادث مميت. غادرني الشعر كطائر انخطف عني. أمضيت ثلاث سنوات وأنا بعيد عن الشعر. لا أحاول كتابته واعترف انني آنذاك لم أكن استحب قراءته، قليلاً ما قرأت من الشعر. أحسب ان الشاعر الذي كنت أظنه في داخلي لم يعد حياً. لا أعرف ما هي الصلة بين الحادث وبين الشعر. لكني بدون أن أفكر فيها وبدون أن أتحراها اعتبرتها بديهية. بدت لي حقيقية ومادية ومجسمة بحيث لم أحاول حتى أن أفهمها فهي مرئية وملموسة إلى الدرجة التي لا تحتاج إلى فهم. ليس غريباً أن لا نكون شعراء، الغريب هو أن نكون. أن يرتفع عناسر الشعر وأن تخرج منا هذه الطاقة وأن تفارقنا تلك القوة فأمر ليس عجيباً، لا أفهم إلى أي حد يكون المرء شاعراً. انه يفكر بأن الشعر اختاره، أن ارادة ما، برانية أو خارجية، إلهاماً انتدبه أو فوضه أو زوده بهذه القدرة. ألسنا نتكلم عن الوحي. لست الآن في هذا الوارد لكن الشعر تنزيل أيضاً. الشعر هو اللغة التي تخترقنا ونتحول نحن إلى آله لبثها، إلى وسيط لها. هيديغر قال أن اللغة تتكلم فينا. هذا القول، يتراءى لي، أن منه الكثير من الحكمة. نعم اللغة بكل طبقاتها وأطوارها، بكل تاريخها تتكلم فينا، ولسنا، كشعراء، سوى وسطائها. لكن اللغة إذ تخترقنا وإذ تتكلم فينا فنحن لسنا قادرين على فهمها. للغة لا وعيها، للغة باطنها، للغة سرها ومثالها وآلياتها ونظمها. وكل هذا ينعقد عبرنا، وكل هذا ينتظم بواسطتنا، لكن ما يحصل قد يكون بعيداً عن فهمنا. إن الرجل الداخلي على حد تعبير الشاعر الأميركي سيميك هو الذي يتلقى وهو الذي يربط وهو الذي يرتب. هذا الشخص الداخلي هو الشخص الذي نحمله بدون قدرة على فكه والنفاذ إلى باطنه. انه شخص اللغة وشخص اللاوعي وشخص الخيال وشخص المثال، وإذا استطاع أن يهتدي إلى الربط والنظم فبطاقة من أعلى، بميراث ثقافي ولغوي ونفساني لا نستطيع نحن أن نتعرف عليه، وبقدرة على النظم وعلى التمثيل وعلى التركيب تشبه السحر، بل هي قد تمت إلى السحر. أن نكون شعراء ليس هذا اختيارنا. اننا مختارون له. أن نكون شعراء فهذا فوق قدراتنا الخاصة وفوق فهمنا وفوق إدراكنا. لذا قد يكون الشاعر آخر من يسأل عن شعره وبالتأكيد هو أبعد ما يكون عن تفسيره وتقديمه والبت فيه والحكم عليه.
السفير