شعر دمشقي مغمّس بوجع الفجيعة/ معاذ اللحام
أيُّ دور يلعبه الشعر؟ بل أيُّ دور تلعبه الثقافة في مجتمع تمزقه الحرب والاستقطابات المذهبيّة والتخويف من الآخر؟ كيف لقصيدةٍ أن تكون مضاداً حيوياً لأمراضٍ مزمنة نخرتْ جسد المجتمع وأُريد لها أن تظلَّ ناخرةً ولم تعالج سابقاً إلا بمراهم موضعية ومساحيق العطارين؟ كيف لقصيدةٍ محكوم عليها أن تكون غائبةً أصلاً عن فداحة المشهد؛ كيف لها أن تقوم بدورٍ في عملية نقل الدم من طائفةٍ إلى أخرى ومن ثقافةٍ إلى أخرى؟ وأيُّ دور تلعبه ثقافةٌ منذ البدء دُجِّنتْ وسُخِّرتْ وكُوِّرتْ لتناسب ملعباً سياسياً في ذاته؟ بدل أن يكون المثقفون هم الرافعة لتفتّح المجتمع أضحوا تابعين ومسوِّقين ومبررين، ومن خرج منهم على السرب بُحَّ صوته وغاب اسمهُ، اللهم إلا من الأنطولوجيات التي تشرعن الغياب.
“أن نجتمعَ في مكانٍ عام ونقرأ الشعر ليس ترفاً. أن نجتمع في مكانٍ عام ونمارس الموسيقى بينما تصدح البنادق بموسيقى الأقسام ليس ترفاً. أن نعمّم الحبّ. أن نخلق حيّزاً للمغفرة؛ حيّزاً للاحترام في غيابه؛ حيّزاً للاستقطاب في طغيان نقيضه؛ وحيّزاً لمأسسة الشعر، الحب، الموسيقى والاحترام، هو رؤيا في الحل من وجهة نظر الشعر والموسيقى والحب والاحترام. من يدرك الألم الجوفيّ لمن هم يعانون؟ هل نشطح إذا جاهرنا بأن هذه اللحظة هي اللحظة التي يجب أن نقف عندها ونضع تحتها ألف خطٍّ أحمر؛ لحظة البداية لنكون ما سنكونه، لحظة النهاية لنكون ليس ما كناه لحظة طرح الأسئلة؟”.
بهذه الكلمات يفتتح ملتقى “أضواء المدينة” لقاءه بروّاده. بهذه الكلمات يعلن القائمون على الملتقى إيمانهم الشعريّ. في العام الماضي تأسست في دمشق منتديات ثقافية عدة منها: “ثلثاء شعر: زيد قطريب”، “يا مال الشام: أحمد كنعان”، “عناة: عدنان أزروني”، “بيت شعر: مليكة محمد”، “أضواء المدينة: جورج حاجوج، عمر الشيخ، علي العقباني، معاذ اللحام”. وكانت محاولة لعيش حالة ثقافية خاصة خارج المؤسسة الحكومية ومراكزها الثقافية. فهل تمثل هذه الملتقيات رؤيا في الحل أم تعالياً على الحرب؟ سنسأل وليس لدينا سوى الأسئلة:
ما هي الفكرة وما هو الهدف؟ هل للشعر دورٌ يلعبه، هل للثقافة دور في ما يحدث في سوريا؟ هل تؤيدون إقامة تجمع ثقافي مدني مستقل في سوريا يجمع الناشطين الثقافيين ويؤطر عملهم؟
ثلثاء شعر
يجيب الشاعر زيد قطريب: “في البداية كانت الفكرة بسيطة لكنها نضجت مع الوقت، فنحن لم نعمل على مبدأ الإستراتيجيا البعيدة في ملتقى “ثلثاء شعر”. كانت المسألة بمثابة خيار دفاع عن الحياة والثقافة والتمسك بنبض المدينة حيث قلنا في أنفسنا إن دمشق يجب ألا تموت تحت وقع القذائف. في هذا الفضاء بدأ الملتقى يتحول إلى ورشة عمل يركز على الشعر أولاً، محاولاً تحمل عبء اقتفاء أثر النص السوري الجديد الذي كنا متأكدين من أنه سيتشكل خلال الأزمة بمعجمه المختلف وصوره المفاجئة. نعم كان الخلاص فردياً في البداية وكان مقتصراً على مجموعة الشعراء الذين يحضرون الملتقى من دون جمهور أو ضجيج يذكر، لكن مع تبلور الأفكار والحماسة الكبيرة قررنا إنشاء دار للنشر والثقافة، فكانت “دار سرجون”، حيث صدر كتاب “ثلثاء شعر” الأول بعنوان “كريستال طائش” ويضم تجارب لخمسة شعراء جدد لم يسبق لهم أن أصدروا أي كتب! في هذا الفضاء، نستطيع القول إننا قدمنا شيئاً معقولاً على صعيد المشهد الشعري وعلى صعيد النص السوري، ويبدو أن النشاط الثقافي الأهلي هو الأكثر قدرة على النجاح والوصول إلى المبدعين والمتابعين إذا ما قارناه بالجانب الثقافي الرسمي الذي لم يستطع استيعاب الصدمة ومعاودة النشاطات إلا بعد وقت طويل. كل شيء ثقافي مدني يراهن على الإبداع ويحاول تأسيس علاقات جديدة في الوسط الثقافي، ننحاز إليه ونتعاطف، وهذا أمر طبيعي في هذه المرحلة التي تتطلب شحذ الأدوات بشكل مختلف وجديد تبعاً لتغير الزمن والأدوات وأساليب المواجهة على جميع الصعد! في خطة الملتقى، نشر كتابين شعريين في العام يقدمان أسماء جديدة لم يسبق لها النشر، بالإضافة إلى أفكار تتعلق بالنشر الإلكتروني وتفاصيل أخرى تحتاج إلى صبر وأناة ودعم. في كل الأحوال نحن نحاول أن ننجز أولاً، ثم نبدأ بالحديث عما فعلناه!”.
أضواء المدينة: نحن هنا نحن نحب الحياة
يؤكد الكاتب الصحافي جورج حاجوج تمسكه بخيار الحياة فيقول: “الثقافة شكل من أشكال مواجهة الموت والخراب. وهي في هذا المعنى، يمكنها أن تشكل ملجأً للباحثين عن السكينة والهدوء والسلام، ويمكنها أن تكون خشبة خلاص بشكل أو بآخر. الثقافة، لا تتقن حمل السلاح ولا إطلاق النار على أحد. هي مسالمة بطبيعتها، أو هكذا يُفترَض، لأن رصاصتها الوحيدة، إنجاز التعبير، الورقة والحبر والكلمة والصوت الداعي لمواجهة الموت بالفكر والعقل والإحساس. هنا، وفي هذا التوقيت بالذات، تبدو أهمية وجود أكثر من ملتقى ثقافي وأدبي في دمشق اليوم، يقوم عليها ويديرها، مجموعة من الأدباء والشعراء والصحافيين، وبجهد شخصي، بعيداً من الوصائية و”النخبوية”، كردّ على الموت العبثي الذي لا يستثني أحداً. قد لا يكون في هذا كل الحلّ لوقف القتل والخراب، لكنه بكل تأكيد، مساهمة في صنع الحل، عبر القول الذي هو لسان حال رواد كل تلك الملتقيات: هنا نحن. نحن نحب الحياة”.
ليس للشعر أيّ دور
الشاعر ابرهيم حسو ينكر أيّ دور للشعر يمكن أن يلعبه: “لا أظن أن المنتديات والملتقيات والتجمهر الأدبي تلخص الحياة الثقافية السورية. فهي على رغم شيوعها وتشرذمها تظل حبيسة الحال السياسية والأمنية والثقافية؛ وعلى رغم الانفتاح وحرية التعبير (الضيقة) أو الحرية التقليدية في إنجاز التعبير فإن الحالة تظل أسيرة أطروحات فردية لا مؤسساتية. مع الأسف كانت الصحافة والإعلام السوريين شريكي النهب الثقافي، وهما نكّلا بكل منجز جديد على أساس أنه وليد ثقافة عدوة، في حين أن “ثقافتنا” ذات مقاصد قومية وايديولوجية نبيلة لا تحتمل الشطط والتحديث. ربما لوضع ما، استحدثت اليوم، وفق قراءات السياسيين، تجمعات لصفوة مثقفة، تريد أن تسير عكس التيار وتحفر في صخر طالما شكّك في جدوى الأدب والكتابة على رغم أن العيون منصبة على ما هو أهم من “الثقافي” ومن الإنسان نفسه. في ظل الوضع الراهن يبقى الشعر بمنأى من كل شيء حتى نفسه. هو كغيره، صنيع ثقافة خاملة ومرتخية، لا أمل ولا رجاء منه. هو سجين أفكار ورؤى وإشباع رغبات ذاتية نبيلة وأمينة. لن يغيّر الشعر أي شيء، على رغم أن هناك رغبة في استعادة الدماء من هنا وهناك إلى أوردة الكتابة الشعرية برمتها، وذلك عبر الملتقيات البريئة البعيدة عن أنصال السياسة، وعبر المنتديات المخفية في أزقة دمشق القديمة البعيدة عن قذائف الهاون وتجار الكلمة. هناك إرادات لإعادة الأصوات إلى حناجرها، بقصد صناعة الشعر الحقيقي الطازج العفيف، ونشر الموسيقى والمرح اللذين يصاحبانه. الحوارات المصحوبة بالقهقهات الجانبية والدردشة الهسيسة التي تصل إلى العياط والضوضاء. فضاءات تفتح وتغلق على وجوه جديدة وجنون آخر. ذائقات نقدية تقتنص طرائد شعرية عابرة. فلتكن “تجمعاتنا” الشعرية من أجل الشعر فقط، من أجل صناعة الفرح والتلذذ به إلى حد الهلوسة.
يرى الشاعر عدنان أزروني أن الفكرة في ذاتها ليست هي أهم ما يميز هذه الملتقيات. فإقامة الأمسيات الأدبية والفنّيّة تقليد قديم في سوريا، ولا سيّما في دمشق العاصمة. ما يميّز إقامة هذه الملتقيات في هذه الفترة بالذات هو الانتقال بها نحو شكلٍ آخر. الفكرة، أساساً، تكمن في ذهاب تلك الملتقيات إلى المتلقي في أماكن وجوده اليومية (مقاه، مطاعم، بيوتات) وليس قدوم المتلقي نحو مراكز بعينها تقيم هذا النشاط الثقافي أو ذاك. يفترض هذا الانتقال تغييراً في جملة عناصر مكوّنة للنشاط الثقافي، لا تبدأ بشكل التلقِّي، ولا تنتهي بتعميم انتشار “الثقافة” في “المجتمع”، مروراً بالعلاقة التي تجمع القائمين والمبدعين والمتلقّين بعضهم ببعض: شكلها، عمقها، أثرها، وإنتاجها. أعتقد أنَّ التجمّع بهذا المعنى لا يشترط التوحّد أو الوحدة في “مؤسسة” واحدة، أو تحويل تلك المنتديات والملتقيات من الحالة التي هي فيها إلى تنظيم مؤسسي يعتمد نظاماً واحداً قد يحدّ من الأفكار والعمل. فالعمل ضمن المنظور الواعي الذي تحدّثت عنه، يفترض تكاملاً بين الملتقيات، ينتج، أساساً، من التكامل والتعاون بين القائمين عليها. ذلك بتبادل الخبرات والآراء والمقترحات، وتبادل الكوادر والدعوات والاستضافات. بشرط أن يكون الجميع منفتحاً على التحسين والتطوير في عمله وتقبل المقترح. ضمن هذا المنظور، قد نحافظ على استقلالية ما لكل ملتقى، مع إتاحة إمكان التواصل والحوار والتكامل. ناهيك بخلق مناخ من التنافسية (المحببة) المنتجة، التي تبتعد عن الكيديات.
الفكر الجمعي الذي حرّض القائمين عليها لإقامتها أساساً، هو فكر ناتج أساساً من توجّه ثقافي واحد أو ذي وجهة واحدة تهدف إلى نشر الثقافة والنهوض بها، والعمل على إعلاء الكلمة واللحن فوق الرصاص والعنف.
تنبع أهمية العمل الثقافي من كونه عملاً غير آني ومصلحياً؛ أي أن لا يكون مرتجلاً عاطفياً، مستهلِكاً ومستهلَكاً، إنما أن يكون عملاً مدروساً وممنهجاً ومنتِجاً، ومستداماً، يستهدف مصلحة عامة ومجتمعية ويعمل لغدٍ أفضل.
قتل العنف
عبير الياسين إحدى المتابعات النشطات في هذا المجال تنظر إلى القضية من جانبها الروحي. تقول: “إن إعلاء إنسانية الإنسان هو ما يجب التركيز عليه في هذه المرحلة تحديداً، وإذا كان ثمة رسالة يراد إيصالها من خلال هذه الملتقيات فهي نبذ العنف والدعوة إلى قتله. ربما لا يستطيع الشعر أن يقوم بهذه المهمة، لكن ما نقدمه من قراءات أخرى يساهم في ذلك. قدمتُ قراءات لجدو كرشنا مورتي وقرأتُ من قاموس اللاعنف لجان ماري موللر وبعض مقتطفات للدالاي لاما وكلها تغذي الجانب الروحي في الإنسان. ذلك ما نريد أن نوصله”.
لا تدعي أن الشعر يحمل الوصفة السحرية للحل، “لكنه لا بد من أن يساهم في صوغ بيئة جيدة للخلق وإعادة تشكيل العالم من وجهة نظر الشاعر. قد نستمر في طرح الأسئلة وتلقيها. قد نُسأل لماذا نكتب؟ لمن نكتب؟ قد نغرق في اللاجدوى. قد ننتصر على ذواتنا ونستمر في مناغاة تلك الشعلة السابحة في الدم التي ندعوها إيماناً بالكتابة. ولنكرر مع إيف بونفوا “إن الكتابة عنف لكن من أجلِ سلامٍ له نكهة الماء العذب”.
النهار