شل خطة أنان يفتح الباب لـ«مبادرة كوسوفو»
سليم نصار *
سقطت هذا الأسبوع في طرابلس الفيحاء، سياسة تحييد لبنان عن مجريات الأحداث في سورية، الأمر الذي أعاد الى الأذهان شعار «وحدة المسارين والمصيرين».
وتبين من حصيلة نزاعات الحدود بين البلدين، أن الدولة اللبنانية عاجزة عن وقف تدفق النازحين والمتسللين منذ انفجار الأزمة ضد نظام بشار الأسد في آذار (مارس) السنة الماضية. كما تبين أيضاً أن هموم دمشق منصبة على منع تدفق السلاح الى المعارضة عبر مدينة طرابلس والمنطقة الحدودية في عكار. وقد وظفت دمشق بعض هذه العناصر سابقاً للقيام بعمليات انتحارية ضد الاحتلال الأميركي في العراق.
أحداث طرابلس هذا الأسبوع، حققت لدمشق الهدف الذي تريده من وراء استغلال الاشتباكات بين الجماعات العلوية في جبل محسن وأخرى سنّية في باب التبانة. أي هدف انتشار الجيش اللبناني المطالَب بمصادرة الأسلحة من المتقاتلين والمهربين معاً. وبهذا تضمن الدولة السورية عدم وصول السلاح الى «الجيش السوري الحر». ومعنى هذا أن الجيش اللبناني النظامي تحول الى حارس للنظام السوري الذي يواجه معارضة داخلية شرسة في مختلف المحافظات والمدن. وبهذا يكون هذا الجيش قد حقق مطالب البطريرك الماروني بشارة الراعي وجماعة 8 آذار (مارس) الداعية الى تأييد النظام في سورية.
أفراد «القاعدة» الناشطون في طرابلس ومحيطها، باشروا حملتهم ضد الجيش بغرض منعه من تنفيذ مهمته. ومع أن سورية لا تعترف بوجود أكثر من 150 جهادياً غريباً فوق أرضها، بينما تتبجح «القاعدة» بإنشاء قاعدة تدريب تضم نحواً من ألف عنصر تسللوا الى شمال لبنان من ليبيا وتونس والسعودية واليمن وأفغانستان ومصر والسودان والأردن. وقد ساعدهم مخيم نهر البارد على عملية التخفي والاختباء في أحضان «فتح الإسلام».
في كتابه «الوجه الآخر للقاعدة»، يستعرض الزميل كميل الطويل، إطلالة «القاعدة» على لبنان عبر نشاط أبو مصعب الزرقاوي الذي حاول استغلال الساحتين اللبنانية والسورية لمصلحته في أواخر التسعينات. وقد جنّد من أجل هذه المهمة شاباً لبنانياً يدعى حسن نبعة، المعروف بين مجاهدي هرات في أفغانستان بـ «أبي مسلم». واعترف هذا المجاهد بأنه التحق بمعسكر الزرقاوي عقب أحداث الضنية (شمال لبنان) التي وقعت بين الجيش اللبناني وجماعات إسلامية كانت تتدرب في غابة نائية. وسقط في تلك المعركة ضابط برتبة نقيب مع أكثر من عشرين جندياً. وبعد عملية تطويق طويلة نجح الجيش في اعتقال عدد من المقاتلين. ثم أطلقت الدولة سراحهم مقابل إطلاق سراح الدكتور سمير جعجع، الأمر الذي أثار في حينه استنكار كبار الضباط الذين استهجنوا تلك المقايضة!
تقول مصادر الجيش اللبناني إن عمليات القنص استؤنفت ضد الجنود بهدف دفعهم الى مغادرة طرابلس. وقد اتُهمت «القاعدة» بافتعال أعمال القنص والتفجير لعل الاحتقان الشعبي يمنع وقف إطلاق النار، ويمهد لاستئناف الاشتباكات من جديد. وهي تراهن على استثارة الجماعات الفقيرة المسلحة التي تمثل شريحة كبيرة من مدينة عُرفت بسلبيتها نحو الدولة بسبب الإهمال والبطالة، خصوصاً أنها تشكل أكبر نسبة من العاطلين من العمل في كل الجمهورية اللبنانية. وكان من الطبيعي أن يفرز هذا الوضع المجحف عدداً كبيراً من المتمردين والعصاة من أمثال محمد القدور.
يقول المؤرخون إن طرابلس لا تمثل ظاهرة فريدة في تاريخ المدن المعروفة تاريخياً بكثرة الاحتجاجات والتظاهرات مثل حماة في سورية والبصرة في العراق وبنغازي في ليبيا. وربما ساعدها على اتخاذ هذا المنحى إهمال الدولة لمطالب زعمائها. فالمعرض الذي شيّد لاجتذاب السياح، ليس فيه ما يعرض سوى الحشيش وخيوط العناكب. والمدينة التي تضم نحواً من نصف مليون نسمة، ليس فيها سوى فندق واحد «كواليتي – إن» من دون نزلاء طبعاً. والنواب الذين يمثلونها لا ينتخبون وفق مواقفهم السياسية في البرلمان، بل وفق الخدمات التي يقدمونها للمحتاجين. فالنائب الراحل موريس فاضل كافأه الطرابلسيون على إنارة الشوارع المظلم. لذلك بقي يتمتع بشعبية نادرة أورثها لنجله من بعده.
ويرى التجار والصناعيون في العاصمة اللبنانية الثانية، أن حرب 1975 – 1989، شكلت ضربة موجعة للصناعات والحاجات المحلية. فقد أحرق مصنع عريضة في محلة البحصاص، وحرم أكثر من ألفي عامل فرص العمل، كما دمرت مصانع آل الغندور للخشب المضغوط ومعامل السكر وقضبان الحديد. وأقفلت معامل نجم للمشروبات الغازية. وبوحي من تلك السابقة المتكررة، يحاول الرئيسان عمر كرامي ونجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي، معالجة الأوضاع المتوترة بانتظار مصير «الملك الكبير» في دمشق.
الصورة السياسية القاتمة التي ترسمها الصحف الخارجية لا تشير الى ظهور أي انفراج في الأفق. ومع أن الولايات المتحدة عززت علاقاتها بالمعارضة، إلا أن هذه الخطوة لا يمكن أن تعجل في إسقاط النظام. والسبب أن وزير الدفاع ليون بانيتا، ألقى أمام الكونغرس سلسلة ذرائع تحول دون التدخل الخارجي. وقال إن الإجماع الذي حصل تجاه نظام القذافي في ليبيا، لا يمكن تكراره في ظل الخلاف القائم بين الدول الغربية من جهة… وروسيا والصين من جهة أخرى.
وزير خارجية فرنسا السابق ألان جوبيه، لمّح الى استخدام خطة بديلة في حال تعذر تنفيذ خطة كوفي أنان. وقال إن حال المراوحة لن تدوم، مذكراً بأن التدخل في كوسوفو عام 1999، لم يخضع لتفويض مجلس الأمن. وهذا ما ردده رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون، عندما أعلن أن سابقة كوسوفو تظهر أن الفيتو الروسي لن يمنع إصدار مبادرة تحت عنوان «حل عادل أخلاقياً». وفي رأيه، أن مجلس الأمن ليس وحده الجهة المخولة اجتراح قانون إقرار التدخل العسكري، وذكر في هذا السياق أن المأساة السورية لم تتوقف منذ 14 شهراً، وقد حصدت أكثر من 11 ألف قتيل. كما ارتفع عدد المعتقلين الى أكثر من 25 ألف نسمة. ووصل عدد النازحين الى مليون شخص، نصفهم في الداخل بينما لجأ النصف الآخر الى تركيا ولبنان والأردن.
وزيرة خارجية أميركا هيلاري كلينتون، دعت الى زيادة العقوبات التجارية والمالية بحيث تؤدي الى إرهاق النظام السوري وزعزعة قواعده. علماً أن وزير النفط سفيان العلا، أعلن أن الإجراءات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي، تسببت في حصول أزمة اسطوانات للغاز المستخدم في المنازل. لذلك اضطرت الحكومة الى توقيع أربعة عقود جديدة مع إيران، وأخرى مثلها مع فنزويلا. وقد وصل تأثير هذه الأزمة الى قطاع الزراعة، لأن المزارعين أصبحوا عاجزين عن توفير الوقود للجرارات والآلات الزراعية.
على صعيد آخر، قامت الحكومة السورية باستيراد كميات ضخمة من الحبوب من طريق لبنان، بهدف الالتفاف على العقوبات الغربية وتدبير الإمدادات الحيوية.
وتعتبر هذه العمليات مشروعة لأن واردات الأغذية لا تدخل ضمن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
وقدرت منظمة الأغذية التابعة للأمم المتحدة، أن سورية تحتاج الى استيراد أكثر من أربعة ملايين طن من الحبوب خلال هذا الصيف، أي بزيادة مليون طن عن السنة الماضية نتيجة ضعف المحصول في صيف 2011.
بقي السؤال المتعلق بمصير النظام السوري، وما إذا كانت العقوبات التجارية والمالية، زائد القتال الدموي الذي تشهده المدن، ستؤدي كلها إلى إسقاط نظام استمر خمسين سنة تقريباً؟!
يقدر الخبير الإسرائيلي في الشؤون العربية، عاميت كوهين، أن الرئيس بشار الأسد يستطيع حماية نظامه من الانهيار، على رغم شيوع نظريات تفيد بعكس ذلك. وهو يتصور أن اليوم التالي لنهاية الأسد، سيتأخر قليلاً. وأن التحول الذي يريده الأميركيون والأوروبيون لم ينضج بعد. والسبب أن سيد النظام يصارع من أجل حماية نفسه، وحماية الطائفة التي تدافع عنه. وهو يستخدم منظومة متفرعة عن أجهزة الاستخبارات، تتولى حماية النظام. إضافة الى استنفار 9 فرق مخصصة لقمع الانتفاضة، زائد 4 فرق للمدرعات الموالية لماهر الأسد. وتساند هذه القوات فرق تابعة للحرس الجمهوري والقوات الخاصة.
المعارضة من جهتها تراهن على ظهور شروخ داخل صفوف الجيش القابع في الثكنات. وقد تبنت استراتيجية اقتحامية تمددت حتى حلب والعاصمة. وهي تدعو الى قيام خمسين تظاهرة يومياً، توزع العنف في كل أرجاء البلاد. والهدف من كل هذا إرهاق النظام وتوريطه بعمليات قتل يصعب محوها من ذاكرة 23 مليون سوري. وتدعي الصحف الأجنبية أن النظام حريص على منع النازحين من الانتقال الى تركيا والأردن ولبنان لأن النزوح الجماعي يشوه صورته ويحرجه. وتكمن مخاوفه الجدية في هذه الأيام من متسللي «القاعدة» الذين زعزعوا الاستقرار في العراق.
يقول المراقبون إن قوات النظام لم تهزم حتى الآن، وأن احتمالات تفكك الجيش النظامي تبدو ضئيلة وصعبة. وهم يقدرون أن المشاكل ستزداد بسبب الطابع الواسع لأعمال العنف، الأمر الذي يحول دون حشد القوات الخاصة في أماكن متباعدة… كما يحول دون استنزافها في معارك قد تطول الى آخر السنة قبل أن تتفق إيران والدول الكبرى على مستقبل النظام في سورية.
في مقابلة مع التلفزيون الروسي، قال الرئيس بشار الأسد إن الدول التي تنشر الفوضى في بلاده، يمكن أن تعاني هي من نتائجها. وانتقد «الربيع العربي» لأنه نقل الفوضى الى سورية، الأمر الذي ستعاني من عواقبه كل الدول الأوروبية.
وأعلن الأسد أنه يأمل بأن يفكر الرئيس الفرنسي الجديد فرانسوا هولاند، بمصالح بلاده، داعياً إياه الى تغيير سياسة ساركوزي حيال سورية والمنطقة.
مراقبو الأمم المتحدة يتوقعون من قوات الأسد القيام بقمع بؤر التمرد على نحو لا يسمح للمعارضة بنقل أعمالها الى العاصمة. وهو يرى أن الاحتفاظ بأمن دمشق يمنحه الشرعية التي يتوق الى استخدامها لتأمين خروج مشرف.
وفي سبيل إسقاط هذه الشرعية، ستشدد المعارضة حصارها على العاصمة، ولو أدى ذلك الى استخدام أقصى وسائل العنف!
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة